تلقّيتُ من الناشر مجموعة ملاحظات وضعها القارئ الذي أحيلت إليه روايتي الأخيرة لأخذ رأيه في إمكانيّة طباعتها.. بدت لي ملاحظات منطقيّة، خصوصاً ما يتّصل منها ببعض الاستطرادات غير المهمّة، أو المبالغة في استعمال اللغة الشعريّة المعيقة لتدفّق الأحداث، أو ما يشبه ذلك.. ملاحظة واحدة فقط استوقفتني وأثارت دهشتي.. قارئ المخطوطة يتحدّث عن شخصيّة حفّار القبور، ويرى أنّ ظهورها في الرواية كان متأخّراً. ويقترح أن تتضمّن الصفحات الأولى إشارات سريعة تمهّد لظهورها الطاغي في ما بعد، وللدور الساخن والمثير الذي ستتولاه.. لا بأس.. من حقّ القارئ أن يعطي رأياً من هذا النوع.. أمرٌ أتفهّمه، وأحترمه.. لكنّ الحالة مختلفة هنا، والسبب بسيط جدّاً.. ذلك أنّ روايتي لا وجود فيها لهذه الشخصيّة إطلاقاً.. وجّهتُ إلى الناشر رسالةً غاضبة أدعو فيها قارئه إلى التأنّي في إعداد تقاريره، وأن لا يخلط عملاً بعمل.. مفترضاً هنا أنّه كان مشغولاً بقراءة رواية أخرى قد تكون شخصيّتها الرئيسة حفّار قبور فعلاً، فخلط بينها وبين روايتي.. لم يتأخّر ردّ الناشر. كانت رسالةً مهذّبة للأمانة. لكنّها مستفزّة إلى الحدّ الذي جعلني أتّخذ قراراً مسبقاً بقطع علاقتي به نهائيّاً، والبحث عن ناشر آخر. المستفزّ في الرسالة هو ذلك الإصرار على وجود شخصيّة حفّار القبور في الرواية. وإمعاناً في الاستفزاز (اعتبرته استغباء في الحقيقة) أورد أرقام الصفحات التي ظهرت فيها هذه الشخصيّة. لم أكن مضطرّاً بالطبع إلى العودة إلى الرواية للتأكّد من صحّة ادّعاءات ناشري المحترم، فالرواية روايتي، وأنا كاتبها، وما من أحد أعلم منّي بها.. لكنّ الفضول دفعني لذلك.. أمام جهاز الكمبيوتر بدأت الصفحات تتتالى أمام عيني.. روايتي.. ثمّ ظهر حفّار القبور.. لا أعرف كيف!!.. ظهر بشكل عابر في مشهد يصوّر المكان الذي تجري فيه الأحداث، حيث يعيش أشخاص يمتهنون مهناً مختلفة. منهم الموظّف في وزارة الماليّة، والمساعد في الجيش، والخيّاط، وحفّار القبور.. ارتبكت في البداية، ذلك أنّني لا أذكر أنّ هذه المهنة كانت من بين ما عددته في هذا الموضع. لكنّني ابتسمت بعد ذلك، مؤكّداً لنفسي أنّ الرواية طويلة جدّاً، ومن الطبيعيّ أن أنسى تفصيلاً صغيراً كهذا.. ثم إنّ ظهوره الخاطف هذا لا يعني شيئاً.. مجرّد ذكر لمهنة شائعة جدّاً.. وقد جاء في سياق لا يمنحه أيّ أثر ولا دور.. وفي نوع من التحدّي أردت من خلاله إثبات تفاهة رأي قارئ روايتي بدأت أعود إلى الصفحات التي ذكرها.. - حسناً.. لنر الظهور الثاني.. قلت ساخراً وأنا أشعل سيجارة جديدة.. حفّار القبور.. وهناك الظهور الثالث.. والرابع.. والعاشر.. والمئة.. - من هو حفّار القبور اللعين هذا؟!!.. من جاء به؟!.. صرخت.. إنّه يعبث بعملي.. يخرّبه.. يطيح به من أساسه.. الأحداث كلّها انحرفت عن مساراتها.. بدا لي كما لو أنّه شيطان لا يبالي بشيء.. لم يكن حفّاراً للقبور فقط.. كان مريضاً نفسيّاً تحرّكه غرائز بهيميّة لا يمكن السيطرة عليها.. هو وراء خروج جميع شخصيّات الرواية من ساحة الأحداث.. يغتالها وهي في أوج قوّتها.. ما إن يشعر أنّ هذه الشخصيّة أو تلك بدأت تستأثر باهتمام القارئ، لتتولّى دور البطولة والسيطرة، حتّى يتدخّل بأسلوبه الشيطانيّ المخادع، مقصياً إيّاها عن الواجهة.. بالسمّ يدسّه في طعامها.. بالطعن في الظلام.. بإطلاق الرصاص عليها عبر كاتم الصوت.. بافتعال حريق يودي بها في غرفتها... روايتي التي تسلّل إليها في غفلةٍ منّي.. استولى عليها، ليبقى وحيداً هنا.. فوق ركام من جثث شخصيّات لم يتح لها أن تعيش الحياة الطبيعيّة التي تصوّرتها لها.. حفّار القبور.. لديّ يقين الآن أنّه ينتظر منّي أن أفعل شيئاً.. لا خيار لديّ.. إمّا أن أحذف ملفّ الرواية من جهازي نهائيّاً، ليصبح هذا القاتل عدماً هو الآخر، وهو المصير الذي أظنّ أنّه يتمنّاه لنفسه.. أو أن أبقي على الرواية منسوبةً إليّ، أنا الذي لم أكتبها.. متوقّف عن الكتابة منذ ذلك الوقت بانتظار أن أهتدي إلى مخرج مناسب.. هل قلت متوقّف عن الكتابة؟.. اللعنة.. إنّه يقتلني أيضاً.. ضحيّته الأخيرة..
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...