الكروبيم، عرش الرب
خاص ألف
2014-04-01
الكَروبيم، مفردها كَروب، كلمة من أصل بابلي وتدل على كائنات ميثولوجية مجنحة لها رأس إنسان وجسد ثور، كانت في بابل وآشور تصور على مداخل الأبنية الملكية والمعابد باعتبارها أرواحاً حارسة.
وفي البحث الحديث يُطلق على هذه الكائنات تسمية سفينكس/Sphinx وهي مستعارة من اللغة اليونانية القديمة. وفي العربية يُدعى الكَروب بأبي الهول جرياً على التسمية الشعبية القديمة لذلك التمثال الضخم الرابض أمام الهرم الأكبر في مصر والذي يمثل أسداً بوجه إنساني.
أول ذكر في التوراة لهذه الكائنات يرد في آخر قصة آدم وحواء. فبعد أن طرد يهوه الإنسان من جنة عدن، وضع الكروبيم هناك لحراسة شجرة الحياة التي زرعها في جنة عدن والتي يحيا إلى الأبد من يأكل منها (التكوين 3: 22-24). وفكرة الشجرة التي يحرسها كروبان شائعة في فنون الشرق القديم لاسيما في الفن السوري – الفينيقي.
وفي الشكل رقم 2 نموذج عن هذا التكوين التشكيلي، وهو عبارة عن منحوتة عاجية من مقتنيات متحف حلب تمثل كروبين على هيئة أسد مجنح برأس كبش يقفان عن يمين ويسار شجرة منفذة بأسلوب هندسي نمطي. يعود هذا الأثر بتاريخه إلى أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وهو من مجموعة المنحوتات العاجية التي اكتشفت بموقع أرسلان طاش (مملكة حداتو الآرامية) في الشمال السوري على الحدود مع تركيا. وعلى الرغم من التأثيرات المصرية الواضحة فيه إلا أنه منفذ وفق جماليات وتقنيات المدرسة السورية – الفينيقية في النحت على العاج، والتي بلغت ذروة ازدهارها في القرن التاسع قبل الميلاد.
وعندما صنع موسى خيمة المسكن في الصحراء كان الكروبيم بمثابة العنصر التزييني الأبرز فيها. فقد رسم الصُّنَّاع بحياكة متقنة كروبين على الستارة التي تحجب قدس الأقداس عن البهو الخارجي (الخروج 26: 31، و36: 8 و35)، وصنعوا كروبين من ذهب صنعة خراطة ووضعوهما على غطاء تابوت العهد بحيث يواجه كل منهما الآخر ويكونان باسطين أجنحتهما فوق التابوت (الخروج 25: 17-20). وعندما بنى سليمان بيت الرب في أورشليم كان هناك كروبان على ستارة قدس الأقداس أيضاً، وكروبان متقابلان من خشب الزيتون في داخل قدس الأقداس علو الواحد عشرة أذرع وطول جناحه خمسة أذرع، أي عشرة أذرع من طرف الجناح إلى طرفه الآخر، فكان جناح الكروب الواحد المبسوط يمس الحائط من هذه الجهة ويمس جناح الكروب الآخر من تلك الجهة في وسط البيت، وبينهما تابوت العهد يظللانه بأجنحتهما (1ملوك 8: 6).
هذه العروة الوثقى بين الكروبيم وتابوت العهد الذي يعتبر بمثابة عرش يهوه المرئي، تحيلنا إلى صورة أخرى لعرش يهوه غير المرئي الذي تحمله الكروبيم. نقرأ في سفر صموئيل الأول: "وحملوا من هناك تابوت عهد الرب الجالس على الكروبيم." (1صموئيل 4: 4). وفي سفر المزامير: "يا راعي إسرائيل... يا جالساً على الكروبيم أشرق." (المزمور 80: 1). وأيضاً: "الرب قد ملك. ترتعد الشعوب وهو جالس على الكروبيم، تتزلزل الأرض." (المزمور 99: 1). وبهذا الوصف يناديه الملك حزقيا عندما ضيق الآشوريون الحصار في أورشليم: "وصلى حزقيا أمام الرب وقال: أيها الرب إله إسرائيل الجالس على الكروبيم. أنت هو وحدك الإله." (2ملوك 19: 15). راجع أيضاً سفر صموئيل الثاني 6: 2، وسفر إشعيا 37: 16. وهناك صورة أخرى ليهوه وهو يمتطي كروباً ويهبط إلى الأرض: "طأطأ السماوات ونزل، وضباب تحت رجليه. ركب على كروب وطار ورُئي على أجنحة الريح." (2صموئيل 22: 10-11). "ركب على كروب وهف وطار على أجنحة الريح. جعل الظلمة حوله مظلات." (المزمور 18: 10-11). وعلى الأرجح فإن تعبير أجنحة الريح الوارد في المقتبسين الأخيرين يحمل إشارة إلى أجنحة الكروبيم.
هذه الصورة لعرش القدرة الإلهية تحمله كائنات مجنحة، معروفة لنا من الفن الأيقوني الفينيقي والأمثلة عليها كثيرة نختار منها اثنين. فقد عثرت التنقيبات في موقع صيدون القديمة في لبنان على أكثر من تقدمة نذرية تمثل عرشاً فارغاً معداً لجلوس الألوهة غير المنظورة يسنده من اليمين واليسار كروبان فُقد منهما الرأس.
ولدينا نحت بارز على نصب حجري ينتمي إلى الثقافة الفينيقية القرطاجية عُثر عليه في موقع سوسا، يمثل إلهاً جالساً على عرش يسنده كروبان (الشكل 4).
وعلى الرغم من ورود ذكر الكروبيم في تسعين موضعاً من كتاب التوراة، إلا أننا لا نعثر على وصف دقيق ومفصل لها، وكل ما يمكننا قوله بشأنها إنها حيوانات استعارت جناح النسر. ولكن أي حيوان؟ في سفر حزيقيال هنالك وصف غامض للكروبيم الذين يجرُّون عربة تحمل عرش يهوه (حزقيال: 1 و10). ولكن كروبيم حزقيال لهم أربعة أجنحة لا اثنين كما هو حال كروبيم خيمة المسكن وهيكل أورشليم، وهم يجمعون إليهم خصائص أربعة كائنات هي: الإنسان، والأسد، والثور، والنسر. أي إنها تجمع صفة العقل التي للإنسان، والقوة التي للأسد، والقدرة الجنسية التي للثور، وعزم الطيران الذي للنسر. ويؤكد لنا سفر الرؤيا المنسوب للتلميذ يوحنا الحبيب في العهد الجديد هذه الخصائص، حيث نقرأ في وصف عرش الرب: "وفي وسط العرش وحول العرش أربعة حيوانات مملوءة عيوناً من قدام ومن وراء. الحيوان الأول شِبه أسد، والحيوان الثاني شبه عجل، والحيوان الثالث له وجه مثل إنسان، والحيوان الرابع شبه نسر طائر." (سفر الرؤيا 4: 6-7). هذه الخصائص الأربعة نجدها في نحت عاجي طوله نحو 10سم وارتفاعه نحو 14سم يمثل كروباً واقفاً بين نخلات تظهر بعض ملامحها بشكل جزئي بين الرأس والجناح (الشكل 5).
وهو يجمع بين رأس الإنسان وجناحي النسر والقسم الأمامي لأسد والقسم الخلفي لثور، وهناك حاشية أمامية متدلية أفوق الأرجل الأمامية. وعلى الرغم من عدم وضوح الحوافر في الأرجل الخلفية، إلا أن الذيل المكسور يكشف عن هويته باعتباره ذيلاً لثور لا ذيلاً لأسد، لأن ذيل الثور في الفن المصور للشرق القديم يرتفع قليلاً نحو الأعلى ثم يهبط بشكل عمودي نحو الأسفل، أما ذيل الأسد فيرتفع نحو الأعلى ثم يلتف بشكل حلزوني فوق الكفل. وبما أنه لا توجد مساحة كافية في الطرف الباقي المرتفع للذيل والجناح لتظهر عليها التفافة ذيل الأسد، فإن المرجح أن الفنان قد صنع لكروبه ذيل ثور. يرجع هذا الأثر بتاريخه إلى أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، وهو من مقتنيات متحف القدس، وبما أنه قد وُجد في سوق الآثار فإننا لا نعرف مصدره على وجه التحديد، ولكن الاختصاصيين يرجّحون انتماءه إلى مجموعة عاجيات أرسلان طاش. ومثل هذه العاجيات كانت تُصنع لكي ترصع قطع أثاث القصور الملكية الفخمة، وقد وُجد على إحداها كتابة تقول: إلى مولانا حزائيل. وعليه فمن الممكن أن يكون هذا الكروب قد صُنع في أرسلان طاش بين مجموعة منحوتات أخرى أُرسلت إلى حزائيل ملك دمشق الذي كان في ذلك الوقت الملك الأقوى في مناطق غربي الفرات( ). على أن وقوف الكروب في هذه المنحوتة بين أشجار النخيل يذكرنا بكروبيم هيكل أورشليم الذين يبدون على الأبواب وعلى الحيطان واقفين بين النخيل: "وعمل لباب المحراب مصراعين من خشب الزيتون، ورسم عليهما نقش كروبيم ونخيل وبراعم زهور وغشاهما بذهب ورصع الكروبيم. وكذلك عمل لمدخل الهيكل." (1ملوك 6: 21-22). وفي سفر حزقيال نجد إعادة وصف لبعض مشاهد الكروبيم في الهيكل: "وعمل فيه كروبيم ونخيل، نخلة بين كروب وكروب، ولكل كروب وجهان فوجه الإنسان نحو نخلة من هنا ووجه الشبل نحو نخلة من هناك. عمل في كل البيت حواليه من الأرض إلى ما فوق المدخل عمل كروبيم ونخيل وعلى حائط الهيكل." (حزقيال 41: 18-20). ولكي نعطي فكرة عن كيفية رسم ذيل الأسد في العاجيات السورية، نلفت النظر إلى الكروب الموضّح في الشكل 6. فهو يجمع بين رأس الإنسان وجسد الأسد وجناح النسر. والرأس على عكس معظم المنحوتات السورية المشابهة مصور بشكل جبهي على الطريقة الآشورية لا بشكل جانبي. ونلاحظ كيف يرتفع ذيل الأسد نحو الأعلى ثم يلتف بشكل لولبي فوق الكفل. يرجع هذا الأثر بتاريخه إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وعثر عليه في نمرود (كالح) عاصمة آشور بين أنقاض القصر الملكي مع مجموعة كبيرة من المنحوتات العاجية التي يرجح الاختصاصيون أنها جُلبت كغنائم حرب من مناطق شتى في سورية. ومن السامرة عاصمة إسرائيل جاءتنا مجموعة كبيرة من العاجيات التي تحمل تأثيرات فينيقية وتنتمي إلى المدرسة الفنية ذاتها. وقد ألقت هذه العاجيات ضوءاً على مقطع غامض في سفر الملوك الأول يقول: "وبقية أمور الملك آخاب وكل ما فعل، وبيت العاج الذي بناه وكل المدن التي بناها، أما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل؟" (1ملوك 22: 39). فما هو بيت العاج هذا؟ إن بناء بيت من العاج هو فوق طاقة أي ملك شرقي بالغاً ما بلغ من ثرائه، ناهيك عن استحالة ذلك من الناحية العملية. ولكن التنقيبات الأثرية التي جرت في موقع السامرة في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين أعطتنا مفتاحاً لفهم المقصود ببيت العاج في هذا المقطع. فقد تم في موقع القصر الملكي اكتشاف مجموعة كبيرة من المنحوتات العاجية الصغيرة التي تنتمي إلى عصر آخاب، ولكنها مدفونة في الركام الذي خلفه التدمير الآشوري للمدينة عام 722 ق.م، ومعظمها قد احترق بالنار، ولكن ما تبقى منها كان كافياً للدلالة على نمطها الفني وعلى وظيفتها. فهي قطع ترصّع بها قطع الأثاث، أو تُرصف على أفاريز مثبتة على الجدران لتزيينها. وقد كانت من الكثرة بحيث أحدثت انطباعاً قوياً في نفس كل من رآها حتى أنه جرى وصف قصر آخاب ببيت العاج.
والكروبيم الموضح في الشكل 7 واحد من القطع الكثيرة التي عالجت الموضوع نفسه في مجموعة السامرة، وهو عبارة عن أسد مجنح برأس إنساني. وبعيداً عن المنحوتات العاجية فقد شغل الكروبيم حيزاً لا بأس به من التركة الفنية لثقافات الشرق القديم باعتبارها رمزاً للألوهية، وللملوكية أيضاً باعتبارها مؤسسة مقدسة. وأول كروب معروف لنا تاريخياً هو السفينكس الذي يحمي مقبرة الفرعون خوفو (2580-2494 ق.م) في الهرم الأكبر قرب القاهرة بمنطقة الجيزة، وهو على شكل أسد رابض برأس إنساني ولكن بدون أجنحة. ومن مصر رحل الكروب إلى آسيا وعاد إليها مجنحاً وشغل حيزاً في الفن المصور المصري باعتباره روحاً حارسة يقف إلى جانب الفرعون أو زوجته. ومنذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد يظهر الكروبيم في الفن المصور السوري حيث نجدهم في الرسوم الجدارية لقصر ملك ماري زمري ليم يحرسون الملك والإلهة عشتار. وبعد ذلك غدا التكوين الفني المؤلف من كروبين متقابلين يحفان بشجرة أو بشخصية إلهية أو ببوابة معبد أو مدينة أمراً شائعاً في ثقافات الشرق القديم من الأناضول إلى فلسطين. ففي موقع ألاكا حيوك بالأناضول نجد كروبين يحرسان بوابة المدينة. ومن موقع تعنك في فلسطين جاءنا منصب نذري فخاري عليه نقش لكروبين يحرسان بوابة معبد وآخرين يحفان بإلهة عارية. ومن موقع مجدو في فلسطين أيضاً جاءنا كروبان يحملان عرشاً. وهناك كروبان على التابوت الحجري لأحيرام ملك صور الفينيقية.( ) وفي موقع عين دارا الواقع على مسافة 40كم إلى الشمال الغربي من مدينة حلب، لدينا معبد ضخم من القرن التاسع قبل الميلاد، تنطبق عليه أوصاف هيكل أورشليم بنسبة 62% سواء في تصميمه أو في ديكوراته، لاسيما فيما يتعلق بالكروبيم التي حفلت بها المنحوتات الحجرية داخل المعبد وخارجه وعلى البوابة، وهي على شكل أسود مجنحة برأس إنساني. وهذا التشابه ساعد الباحثين على تفسير عدد من الملامح الغامضة في وصف سفر الملوك الأول لهيكل أورشليم الذي بني على نمط المعابد السورية التي نعرفها منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد.( ) ولعل باستطاعتنا أن نتتبع ظهور عنصر الكروبيم في الميثولوجيا والفن المصور خارج البيئة الثقافية للشرق القديم، ولكن مثل هذه المهمة ستأخذنا بعيداً عن مجال دراستنا. ولكننا سوف نقوم بإطلالة سريعة على بقايا هذا العنصر الفني والميثولوجي في الثقافتين المسيحية والإسلامية. ففي التصورات اللاهوتية المسيحية صار الكروبيم أعلى طبقة بين الملائكة التي كانت أول ما خلق الله. وقد توضع هؤلاء الملائكة في تسعة أفلاك نورانية تحيط بمركز النور الأعظم، وفي كل فلك طبقة مراتبية كان أقربها إلى الله طبقة الكروبيم، وهؤلاء أرواح المعرفة المشغولة على الدوام بمعرفة الله، ولذلك كان لهم رأس بلا جسم عليه جناحان. يليهم السيرافيم وهم أرواح الحب وكان لهم جسد وستة أجنحة اثنان على الرأس واثنان على الجذع واثنان على القدمين. يليهم حملة العرش لكل منهم أربعة أجنحة وأربعة وجوه. وهذه هي المراتب الثلاث الأولى الأقرب إلى الخالق، يليهم المراتب الثلاث الوسطى، فالمراتب الثلاث الأدنى إلى العالم والأكثر صلة بالبشر وهم: الأمراء والرؤساء والملائكة. ويشكل هؤلاء حلقة وصل بين الله والعالم.( ) فإذا انتقلنا إلى الإسلام وجدنا إشارات في القرآن الكريم إلى زمرة من الملائكة موكلين بحمل عرش الله: "الذين يحملون العرش ومَن حوله يسبّحون بحمد ربهم." (40 غافر: 7). "ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية." (69 الحاقة: 17). ولكننا لا نعرف عن الخصائص الجسمانية لهؤلاء إلا أنهم ذوو أجنحة: "الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاهل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثُلاث ورُباع." (35 فاطر: 1). ولكن الشكل الحيواني لكائن طائر يظهر في حديث المعراج. فعندما أُسري بالنبي جاءه ملاكان بدابّة تُدعى البُراق ليركبها، توصف بأنها بيضاء اللون، وفوق الحمار ودون البغل في هيئتها الجسدية. واعتماداً على موروث متداول، فقد صورها الفن الشعبي برأس أنثوي وجناحين. ومثل هذه الصور التي تُعالج موضوعات دينية كانت متداولة بين الناس ومعلقة على جدران المنازل حتى أواسط الخمسينيات من القرن العشرين. وعلى الرغم من أن القواميس العربية تشتق كلمة البراق من البرق، وتقول إن معناها يفيد السرعة الفائقة التي للبرق، إلا أنني أرجّح صلتها بكلمة كروب. فالجذر الثلاثي للكروب هو ك ر ب، والجذر الثلاثي للبراق هو ب ر ق. وبإمكاننا أن نلاحظ بسهولة أن ب ر ق هي ك ر ب ولكن بعد الإبدال المكاني المعروف في اللغات السامية، حيث يُعاد ترتيب حروف الكلمة يشكل معكوس.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |