نشيد الأنشاد الذي لسليمان والغنائيات الطقسية في الشرق القديم
خاص ألف
2014-04-09
نشيد الأنشاد (أو نشيد الأناشيد) المعزو للملك سليمان. هو واحد من أسفار كتاب التوراة العبرانية، ولكنه غريب كل الغرابة عنها. إنه غنائية عذبة مليئة بالتعابير الحسية والتلميحات الجنسية، تحكي عن علاقة حب مستعر بين شاب يوصف بالراعي، من المفترض أنه الملك سليمان، وفتاة توصف بالراعية اسمها شولميت. وهاتان الشخصيتان تتبادلان الإنشاد، ويفصل بين صوتيهما أحياناً صوت مجموعة تسأل أو تُعلق على الأحداث.
ولنتابع فيما يلي هذه المنتخبات التي اخترتها من النشيد، من أجل إعطاء فكرة عن موضوعه وأجوائه العامة. معتمداً في ذلك على الترجمتين الكاثوليكية والبروتسانتية.
هي: ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبكَ أطيبُ من الخمر. أدهانُك طيبة العَرْف واسمك دهن مُهراق. لذلك أحبتكَ العذارى. اجذبني وراءك فنجري نبتهج ونفرح بك، نذكر حبك أكثر من الخمر.
هو: كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات.
هي: كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين. أدخَلَني إلى بيت الخمر ورايته فوقي محبة. أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة حباً. شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني. أحلّفكنّ يا بنات أورشليم ألا تُيقِظْن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء.
هو: قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي، لأن الشتاء قد مضى والمطر قد مرَّ وزال. الزهور ظهرت في الأرض، وصوت اليمامة سُمع في أرضنا. التينة أخرجت فِجّها والكروم أزهرت وأفاحت عَرْفها.
هي: باقة المر حبيبي لي، بين ثدييَّ يبيت. عنقود فاغيةٍ لي في كروم عين جدي. في الليل على فراشي طلبتُ من تحبه نفسي فما وجدته. وجدني الحراس الطائفون في المدينة فقلتُ: أرأيتم من تحبه نفسي؟ فما جاوزتهم إلا قليلاً حتى وجدت من تحبه نفسي، فأمسكته ولم أطلقه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي.
هو: ها أنتِ جميلة يا حبيبتي، ها أنتِ جميلة. عيناكِ حمامتان من تحت نقابك. شفتاكِ كسِلْكةٍ من القرمز وفمك عذب. خداك كفلقة رمان من وراء نقابكِ. ثدياكِ توأما ظبية يرعيان بين السوسن. قد سبيتِ قلبي يا أختي العروس قد سبيتِ قلبي. شفتاكِ يا عروس تقطران شهداً. تحت لسانك عسل ولبن. أغراسك فردوس رمانٍ مع أثمار نفيسة.
المجموعة: الملك سليمان عمل لنفسه تختاً من خشب لبنان، عمل أعمدته من فضة ومقعده أرجواناً. أخرجن يا بنات أورشليم وانظرن إلى الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه في يوم عرسه.
هي: استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب، هُبّي على جنتي فتقطر أطيابُها. ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل من ثمره النفيس.
هو: قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مُري مع طيبي، أكلت شهدي مع عسلي، شرب خمري مع لبني.
هي: صوت حبيبي، هو ذا آتٍ طافراً على الجبال قافزاً على التلال. حبيبي شبيهٌ بالظبي أو بغُفر الأيائل.
هو: افتحي لي يا أختي يا حمامتي، لأن رأسي قد امتلأ من الطل وغدائري من ندى الليل.
هي: حبيبي مد يده من الكوة فأنّتْ عليه أحشائي. قمتُ لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مُراً وأصابعي مُرٌّ قاطر على مقبض القفل. فتحتُ لحبيبي لكن حبيبي تحول ومضى. أحلفكن يا بنات أورشليم إن وجدتن حبيبي أن تخبرنه بأنني مريضة حباً.
المجموعة: ما فضل حبيبك على الأحباء أيتها الجميلة في النساء حتى تستحلفينا هكذا؟
هي: حبيبي أبيض وأحمر. رأسه ذهب إبريز وغدائره مسترسلة حالكة كالغراب. عيناه كحمامتين على أنهار المياه. خداه كروضة أطياب. شفتاه سوسنٌ تقطران مُرّاً مائعاً. بطنه عاجٌ أبيضُ يغشيه اللازورد. ساقاه عمودا رخام. حلقه حلاوة وكله مشتهيات.
المجموعة: أين ذهب حبيبك أيتها الجميلة بين النساء؟ أين توجه فنطلبه معك؟
هي: حبيبي نزل إلى خمائل الطيب يرعى في الجنات ويجمع السوسن.
هو: ما أجمل رجليكِ بالنعلين يا بنت الأمير! قامتك مثل النخلة وثدياكِ مثل العناقيد. ما أجملكِ وما أحلاكِ أيتها الحبيبة في اللذات. قلتُ إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها فيكون لي ثدياكِ كعناقيد الكروم، ورائحة أنفك كالتفاح، وحلقك كخمرة طيبة.
هي: أنا لحبيبي وأشواقه لي. هلمّ يا حبيبي، لنخرج إلى الحقل ولنبت في الضياع، نبكّر إلى الكروم وننظر هل أفرخ الكرم هل تفتحت أزهاره، وهل نوّر الرمان. وهناك أبذل لك حبي.
من لي بك كأخ قد رضع ثدي أمي، فأجدك في الخارج وأقبلك بغير أن يلحقني ذَمٌّ، ثم أقودك وأدخل بك بيت أمي وهي تُعلِّمُني، وأنا أسقيك الخمر المطيبة من سلاف رماني.
شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني. أحلفكن يا بنات أورشليم ألا تُيقّظن أو تنبهن الحبيب حتى يشاء.
هذه هي المعالم الرئيسية لسفر نشيد الأنشاد الذي قبل به مجمع الربانيين الذي انعقد في بلدة يمنيا الفلسطينية عام 90 للميلاد من أجل إقرار الصيغة النهائية للأسفار القانونية التي تؤلف الكتاب المقدس اليهودي. وهذا يعني أن صفة القداسة والإلهام قد أُسبغت على النشيد، وتُركت مهمة المواءمة بينه وبين بقية أسفار الكتاب للأجيال التالية من اللاهوتيين الذين وجدوا أنفسهم أمام مهمة عسيرة، فالسفر لم يأتِ على ذكر الإله التوراتي، كما أن تعابيره الحسية وأجواء الفرح الأرضي التي تشيع في جنباته، تجعل منه ضيفاً ثقيلاً على بقية الأسفار القاتمة. وقد استقر رأي هؤلاء أخيراً على أن النشيد يُعبر عن محبة يهوه إله إسرائيل لشعبه المختار، فهو الحبيب وهم الحبيبة. وقد استندوا في هذا التأويل إلى إشارات متفرقة في الكتاب تستخدم مجاز الحبيب والحبيبة في وصف علاقة يهوه بإسرائيل (راجع على سبيل المثال: هوشع 2: 19-20، وإرميا 3: 1-2، وإشعيا 45: 5). وقد سار آباء الكنيسة المسيحية، الذين أقلقهم وجود هذا النشيد في الكتاب المقدس، على منوال التأويل اليهودي، ولكنهم استبدلوا شعب إسرائيل بالكنيسة وقالوا إن النشيد يعبر عن محبة المسيح للكنيسة.
على أن مثل هذه التأويلات تثير أسئلة لا يمكن لهؤلاء المؤولين تقديم إجابة مقنعة عليها. فإذا كان يهوه قد أحب إسرائيل، أو أحب المسيح الكنيسة، فلمَ يتوجب على إسرائيل أو الكنيسة أن يكون لها ثديان كتوأمي ظبية يرعيان بين السوسن، أو مثل عذوق النخل التي يشتهي يهوه أو المسيح أن يصعد ويمسك بها؟ ثم لماذا على هذا الحبيب أن تكون شفتاه سوسن تقرطان مراً مائعاً، وبطنه عاج، وساقاه عمودا رخام، وحلقه كله مشتهيات؟ ومن جهة أخرى فإن وجود هذا النشيد في الكتاب المقدس يصرف أذهاننا عن كونه مجرد قصيدة حب دنيوية لا ندري كيف اتخذت هذا الموقع المميز بين أسفار الشريعة وبقية أسفار العهد القديم. والفرضية التي نغامر بطرحها ثم نحاول البرهنة عليها، هي أنه بقية من طقس ديني قديم سابق على ظهور الدين التوراتي، يلعب فيه ملك إسرائيل الدور الرئيسي. ولكن ما طبيعة هذا الطقس؟ إن الملاحظات التالية على النص سوف تقدم لنا بعض الأجوبة المبدئية:
1- يبدو البَطَلان للوهلة الأولى شابين في مقتبل العمر يعيشان قصة حب جامحة، يوصفان بأنهما راعٍ وراعية. ولكننا نكتشف تدريجياً أن هذا الفتى ليس سوى ملك إسرائيل، أما الفتاة فهي عروسه الملكية المقبلة.
2- إلى جانب لقب الحبيب والحبيبة، والعريس والعروس، فإن البطلين يتناجيان أيضاً بلقب الأخ والأخت.
3- يتزامن هذا الحب المستعر بين الطرفين ولقاؤهما الشبقي مع زوال فصل الشتاء وحلول الربيع. وتتداخل مشاهد لقائهما مع مشاهد تفتّح الطبيعة، وإزهار الشجر ونمو الزرع، وتقافُزِ الحيوانات الجذلى بالحياة.
4- يرد في سياق النص ذكر واحد وعشرين نوعاً من النبات وخمسة عشر نوعاً من الحيوان.
5- يتبادل الطرفان تشبيهات مستمدة من عالم الطبيعة. فشفتا الحبيب سوسن، وخداه روضة أطياب، وما إلى ذلك؛ وقامة الحبيبة مثل النخلة، وثدياها كتوأمي ظبية، ورائحتها مثل التفاح، وما إلى ذلك. في سياق هذه الأوصاف تتحول الشخصيتان إلى ظاهرتين من ظواهر الطبيعة.
من هذه الملاحظات يبدو لنا بشكل واضح أن نشيد الأنشاد هو بقية من طقس خصب ربيعي يهدف إلى استنهاض قوى الطبيعة التي كانت نائمة خلال فصل الشتاء. ولكن لماذا يلعب الملك الدور الرئيسي في هذا الطقس؟ وما هي العلاقة بين زواجه الذي يشكل بؤرة الطقس وما يجري على مستوى الطبيعة في فصل الربيع؟ للإجابة على هذا السؤال علينا أن نأخذ فكرة عن الإيديولوجيا الملوكية في مملكتي إسرائيل ويهوذا، وأصولها في ثقافة كنعان ووادي الرافدين.
تتبدى الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية بأوضح أشكالها في نصوص مدينة أوغاريت التي ترجع بتاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وبشكل خاص فإن ملحمة كِرت وملحمة أقهات تقدمان لنا الفكرتين الأساسيتين في هذه الإيديولوجيا؛ الأولى قدسية مؤسسة الملوكية وصلتها الوثيقة بالعالم الإلهي، والثانية الدور الذي يلعبه الملك باعتباره ممثل الآلهة على الأرض، وصلة وصل بين العالم القدسي والعالم الدنيوي. فالملك يغدو منذ ولادته ابناً بالتبني لكبير الآلهة إيل، وتتعهده بالرضاع الإلهة عشيرة زوجة كبير الآلهة الملقبة بمرضعة الآلهة. ولهذا فقد استحق لقب ابن إيل الذي يناديه به كبير الآلهة نفسه في ملحمة كِرت، مثلما يناديه به أفراد أسرة الملك أيضاً.([1])
بناء على هذا الموقع المتميز للملك، فقد كان أيضاً حافظاً لنظام الطبيعة ومن خلاله تنزل بركات السماء لتنزرع في الأرض فتهبها خصباً وتهب الزرع نماءً، فإذا خارت قوى الملك أو ألمّ به مرض، انعكس ذلك على مقدرته على تحقيق الصلة مع القوى الإخصابية، فحل الجفاف وانقطع المطر وسادت المجاعة. وهذا ما حدث عندما مرض الملك كرت ولزم الفراش فترة طويلة، وعندما لم يفلح الأطباء في شفائه تدخل كبير الآلهة إيل وشفاه بنفسه. وهذا ما حدث أيضاً عندما قتلت الإلهة عنات الفتى أقهات ابن الملك دانيال وولي عهده، فيبست المزروعات إثر موته ودخلت الأرض في فترة جفاف سوف تدوم سبع سنوات. عندها أخذت عنات على نفسها عهداً بإرجاعه إلى الحياة.
هذا، ونجد انعكاساً لهذه الأيديولوجيا الملوكية الكنعانية في كتاب التوراة الذي حفظ لنا بعضاً من أهم ملامح الإيديولوجيا الملوكية الأورشليمية المتعلقة بقداسة المنصب الملكي. فملك أورشليم هو ابن بالتبني للإله يهوه مثلما كان ملك أوغاريت ابناً بالتبني للإله إيل، على ما نقرأ في سفر المزامير على لسان الملك داود قوله: "إني أخبر من جهة قضاء الرب أنه قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك." (المزمور 2: 7-8). وعلى لسان يهوه أيضاً قوله: "وجدتُ داود عبدي، بدهن قداستي مسحته. هو يدعوني أبي أنت وصخرة خلاصي، وأنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض." (المزمور 89: 20 و26-27). ونقرأ في سفر صموئيل الثاني على لسان يهوه أيضاً بخصوص الملك سليمان: "أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً." (2 صموئيل 17: 14). وكما كان الملك الكنعاني ضامناً لخصوبة الأرض كذلك هو ملك أورشليم على ما نقرأ في المزمور 72: "ينزل (= الملك) مثل المطر على الجُزاز ومثل الغيوث التي تسقي الأرض... يكون للبُر (= القمح) توافر في الأرض، غلته في رؤوس الجبال تتموج كلبنان مثل العشب." (المزمور 72: 1-17).
على أن سريان القوة الإخصابية الإلهية في عالم الطبيعة عبر شخصية الملك، لا يحصل بشكل تلقائي وإنما من خلال طقس ذي طابع درامي مسرحي يجري في عيد الربيع السنوي. وقد كان نشيد الأنشاد ونظائره في كنعان، بمثابة السيناريو المعد لمثل هذه الدراما الطقسية. على أن ندرة النصوص الأدبية والطقسية في الثقافة الكنعانية، والرقابة الصارمة التي فرضها محررو التوراة على كل ما له صلة بطقوس يهوه التي كانت قائمة قبل السبي البابلي الذي شهدت عقوده ميلاد الديانة اليهودية، تجعلنا غير قادرين في الوضع الحالي لمعلوماتنا على رسم الخطوط العامة لذلك الطقس. ولهذا فسوف نتحول شرقاً نحو ثقافة وادي الرافدين التوأم الطبيعي لثقافة كنعان، علّنا نعثر هناك على الحلقة المفقودة.
في الثقافة الرافدينية لدينا أكثر من نص يؤسس لمفهوم قدسية مؤسسة الملوكية وصلتها بالعالم الإلهي، ومنها نص سومري يحكي عن أصل الملوكية وكيف هبطت من السماء في الأزمان الأولى:
بعد أن قام الآلهة آنو وإنليل وإيا
بخلق الكائنات الإنسانية
انبعثت المزروعات وازدهرت الأرض
وجرى خلق الكائنات التي تدب على أربع
وبعد أن تم إنزال الملوكية من السماء
بعد أن تم إنزال التاج السامي والعرش
بنى الآلهة المدن الخمس الأولى وأسكنوا فيها البشر
ولدينا نص بابلي معروف تحت عنوان "إيتانا والنسر" يروي كيف قام الآلهة ببناء أول مدينة وأسكنوا فيها البشر، وكيف راحت الإلهة عشتار تبحث عن رجل كفء يشغل منصب الملك:
عشتار راحت تبحث عن راعٍ
راحت تبحث هنا وهناك عن ملك
وكان إنليل يبحث عن منصة عرش لإيتانا
الشاب الذي كانت عشتار تبحث عنه
بهذه الطريقة تم تثبيت ملك على البلاد
وفي مدينة كيش أُقيمت الملوكية.([2])
هذا الملك الذي نصّبه مجمع الآلهة على العرش سيكون هو وخلفاؤه صلة وصل مع القوى الإخصابية الكونية التي تتولد وفق المنظور الميثولوجي من زواج إلهي مقدس يجري في المجال القدسي الأعلى بين الإلهة إنانا/عشتار التي تمثل روح الخصوبة في الطبيعة والإله دوموزي/تموز الذي يمثل روح النبات. وهذا الزواج يتكرر كل ربيع مثلما يتكرر خلق العالم سنوياً أيضاً من قِبَل الإله مردوخ في طقوس عيد رأس السنة البابلية. على أن القوى الإخصابية التي يطلقها اللقاء الجنسي بين الإلهين لن تتصل بحياة الطبيعة على الأرض إلا من خلال زواج مقدس يتم على المستوى الدنيوي بين ملك البلاد الذي يتجسد فيه الإله دوموزي وكاهنة إنانا التي تتجسد فيها الإلهة، ويلتقي الاثنان في الغرفة العليا من المعبد المدرج المعروف باسم الـZiggurat أو الزقورة، لتشيع البركة من اتحادهما الجسدي على البلاد.
وهنا تتكفل النصوص السومرية ذات الطابع الميثولوجي الطقسي بإعطائنا صورة غائمة بعض الشيء عما كان يحدث في أعياد الربيع. فلقد توفر لدى علماء السومريات حتى الآن نحو اثني عشرة غنائية سومرية تتعلق بالزواج المقدس، واتضح لهم منذ ترجماتها الأولى مدى شبهها بنشيد الأنشاد سواء فيما يتعلق بالمضمون أم بالأسلوب الأدبي أم بالشخصيات التي تتبادل الإنشاد. فالعاشق يصور راعياً وملكاً في آن معاً (ولقب الراعي على ما نعرف اختص به الإله دوموزي)، والمعشوقة حبيبة وأختاً، وهناك جوقة من العذارى تسأل أو تعلّق على الأحداث. وقد عمد الدارسون إلى فرز هذه الغنائيات في مجموعات وفق موضوعاتها. وتبين لهم أنها تشكل فيما بينها نصاً مطرداً يصف مراحل طقس الزواج المقدس بين إنانا ودوموزي أو بين كاهنة إنانا والملك السومري. تحكي المجموعة الأولى عن الحب المستعر بين إنانا ودوموزي وهما في وفرة الصبا والشباب، واللقاءات التي كانت تتم بينهما خفية عن الأعين. وتحكي المجموعة الثانية عن مرحلة الخطوبة، والمجموعة الثالثة عن ليلة العرس. أما في المجموعة الرابعة فنجد أن الملك السومري يحل محل دوموزي في طلب يد إنانا وهو الذي يدخل معها إلى مخدع الزوجية. وسنقدم فيما يلي نماذج معبرة عن كل من هذه المجموعات.
1- التودد والخلوة:
في الليلة الفائتة عندما أنا الملكة كنت أُشع نوراً
في الليلة الفائتة عندما أنا ملكة السماوات كنت أشع نوراً
عندما كنت أترنم بأغنية لاقتراب الليل
السيد دوموزي التقى بي
السيد وضع يده في يدي
دوموزي عانقني وضمني إلى صدره:
- هلم أيها الثور البري، أطلقني لأعود إلى البيت.
دوموزي أطلقني لأعود إلى البيت.
كيف أحتالُ بالقول على أمي
كيف أحتالُ بالقول على أمي ننجال؟
- دعيني أخبرك بما تسوقه البنات من معاذير:
قولي لقد صحبتني صديقتي إلى الساحة العامة
حيث تسلينا بالرقص والموسيقى
وفي بهجة غامرة أمضينا الوقت هناك
بهذه الأكذوبة تأتين إلى أمك
بينما نطلق لأنفسنا العنان في ضوء القمر.([3])
2-الخطوبة:
جئت إلى بوابة أمي أمشي في بهجة وحبور
جئت إلى بوابة ننجال أمشي في بهجة وحبور
سوف يقصد أمي وينطق بالكلمة المنتظرة.
سوف يرش عطر زيت السرو على الأرض
هو الذي يتضوع عطراً وتبعث كلماته في القلب حبوراً.
سيدي هو الجدير بالحضن المقدس
السيد دوموزي هو الجدير بالحضن المقدس.
3- ليلة العرس:
الراعي أتى بالزبدة إلى البيت الملكي
دوموزي أتى بالزبدة إلى البيت الملكي
وأمام الباب نادى:
"افتحي الباب سيدتي، افتحي الباب"
إنانا نزولاً عند رغبة أمها
استحمت وتضمخت بالزيت العطر
وضعت عليها الرداء الملكي الأبيض
وعندما فتحت له المصراع
شعت من داخل البيت كضوء القمر:
- فرجي قرن الهلال، قارب السماء
ملؤه رغبة كالقمر الجديد
وأرضي متروكة بلا حرث
فمن لي بمن يحرث لي فرجي
من لي بمن يفلح لي حقلي، أرضي الرطبة
-أنا دوموزي الملك من سيحرث لك فرجك
-إذن احرث فرجي يا رجل قلبي
احرث لي فرجي.
في حضن الملك ارتفع الأرز سامقاً
من حولهما تدافع القمح باسقاً
وازدهر كل بستان.
....
أيها العريس الغالي على قلبي
عظيمة هي مسرتك، حلوة كالعسل
أيها الليث الغالي على قلبي
عظيمة هي مسرتك، حلوة كالعسل
لقد أسرتني، أقف مرتجفة أمامك
أيها العريس، لو تحملني إلى السرير
أيها العريس، فلأمنحك ملاطفات يدي
يا حلوي الغالي، بودي لو أغتسل بالعسل
في السرير الممتلئ عسلاً
لنستمتع بحسنك المهيب
أيها الليث فلأمنحك ملاطفات يدي
يا حلوي الغالي بودي لو أغتسل بالعسل.
روحك، أعلم أين تبتهج روحك
يا عريسي نم في بيتنا حتى الفجر
قلبك، أعلم أين يفرح قلبك
أيها الليث نم في بيتنا حتى الفجر.
4- الملك ودوموزي يتبادلان الأدوار:
في رأس السنة في يوم الطقوس
أقيم لمليكتي مخدعاً لنومها
عطروه بجرار مليئة بالأسل والأرْز
وضعوه لمليكتي، لسريرها
على المخدع نشروا حلاوة تبهج القلوب
مليكتي تستحم على الحضن المقدس
تستحم على حضن الملك
تستحم على حضن إيدين داجان.
إنانا المقدسة تغتسل بالصابون
ويُرش لها زيت الأرْز العطر على الأرض
والملك يمشي رافع الرأس إلى الحضن المقدس
...
لعل السيد الذي قربته إلى قلبك
الملك، زوجك الحبيب، لعل أيامه تطول في حضنك الهني.
امنحيه حكماً وطيداً ومجيداً
وفي أيام حكمه ليكن هناك زرع وحبوب
وفي الأنهار فلتعلُ المياه
وفي الحقول فلتكثر المحاصيل
وفي الغابات فلتتناسل الغزلان والماعز البري
وليفض الماء في دجلة والفرات
ويعلُ العشب على الضفاف ويملأ المروج
أي مليكتي، يا ملكة السماء والأرض المحيطة بهما
فليهنأ أياماً طويلة في حضنك المقدس.
إن التشابهات التي يمكن لنا ملاحظاتها بين هذه الغنائيات الطقسية السومرية ونشيد الأنشاد، هي من الكثرة بحيث لا يمكن أن نعزوها للصدفة. ولعل أكثر ما يلفت نظرنا هو ذلك التوكيد الذي وجدناه في نشيد الأنشاد على ما يحدث في عالم الطبيعة من ازدهار يترافق مع اللقاء الجسدي بين الحبيبين. وهذا ما يقودنا في النهاية إلى طرح نظرية مفادها أن الغنائيات السومرية ونشيد الأنشاد ينتميان إلى إرث مشترك بين ثقافة وادي الرافدين وثقافة كنعان التي تنتمي إليها مملكة يهوذا، وأن النشيد كان في أصله غنائية طقسية تؤدى في هيكل أورشليم في عيد الفصح الربيعي بمناسبة زواج طقسي ملوكي يعكس في الزمن الدنيوي زواجاً يتم على المستوى الميتافيزيقي بين يهوه كبير آلهة يهوذا والأم الكنعانية الكبرى عشيرة، التي نصب لها أحد ملوك يهوذا المدعو منسي تمثالاً في هيكل أورشليم، على ما يورده محرر سفر الملوك الثاني 21: 7، والتي تظهر مع يهوه كثنائي إلهي في بعض النقوش المكتشفة حديثاً.
وعلى الرغم من أن المحررين التوراتيين قد تجاهلوا كل ما يمت إلى هذا الطقس بصلة مع ما تجاهلوه من مظاهر عبادة يهوه الوثنية، إلا أن جمال نشيد الأنشاد قد أعطاه بطاقة مرور إلى الكتاب المقدس، واعتُبر أثراً يمكن الحفاظ عليه بعد تجريده من روابطه القديمة.
[1] بخصوص الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية، راجع دراستي لملحمتي كِرت وأقهات في كتابي: "مدخل إلى نصوص الشرق القديم"، دمشق 2006.
[2] من أجل تفاصيل وافية عن أسطورة إيتانا والنسر، راجع مؤلفي "مدخل إلى نصوص الشرق القديم"، الفصل التاسع
[3] من أجل مزيد من المعلومات عن هذه الأناشيد، يمكن مراجعة المؤلفات التالية:
- S.N. Kramer, Sumerian Sacred Marriage Texts. In: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, pp. 639-640.
- S.N. Kramer, The Sacred Marriage Rite, Indiana University Press, 1969.
- D. Wolkstein and S.N. Kramer, Inana, Harper, New York, 1982
- س.ن. كريمر: طقوس الجنس المقدس عند السومريين، ترجمة نهاد خياطة، دمشق 1986.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |