إلى المَهدي بن نصيب*
سَرْجٌ أحمرُ من وثير الجِلدِ
فَرسٌ أبيضُ من عِتاق الخيل
لا أحدٌ من الأشياعِ
يُمسِكُ باللّجَامِ
مُنذُ ألفِ عام
المَهديُّ وحدَهُ يَنتظرُ واقِفًا
أمامَ البيتِ القَديم
يَرنُو إلى النّجمةِ الغائرةِ
فِي ليل الشّتاءِ
واقِفًا
مُنبلجَ الجَبينِ في غُرّتهِ
َيُنيرُ القَمرَ البلديَّ
واقفًا
نخلةٌ من واحاتِ الجَنوبِ
تُسامِقُ بالاِخضرارِ
شُطوط الملح
شَامخًا
رغمَ جَفافِ الفَيافِي
يَنداحُ بِعرَاجين القَوافِي
ٍفَتَسَّاقطُ حُروفًا و كلماتٍ
عَلى كلّ الجهات :
هُنا ... نُونٌ لِجماعةٍ
هُناك ... واوٌ لِمَعيّةٍ
هنالكَ ... تاءٌ لأنثَى
ٌوعندَ أقصَى الأقَاصِي ... ثاءٌ
لِرثَاءِ الأصْدقاءِ
هُو المَهديُّ
قِبلتُنا أَضَعناهَا مِنْ زَمنٍ
رُبّما بعدَ فَواتِ الأوان
َاللّيلةَ
عُدنَا
إلى هَذا الجنوبِ
عَبْر فِجاجِ الصّحراءِ
مِيلاً بعدَ مِيل
تَخَفَّفْنا مِنْ أسْمال الشَّمال
خِرقةً ... خرقةً ... سَلَلْناهَا
تَركناهَا عَلى جَنباتِ الطّريقِ
لمْ تَكدْ تُوارينا الرّمالُ
حتّى حامتْ فوقَهَا
جَحافلُ الغِربانِ...
المَهديُّ على شَوقٍ يَنتظرُ
ٌخِلّ ... وَدُودُ...
بَلى ... وله ـ وُجُودُ ـ
ٌبسمتُه وَمضٌ
حِضنُهُ دِثارٌ ناعمٌ
عندمَا عانقنَا واحدًا... واحدًا
أوقدَ فِينا جَمرةَ الرُّوح
وأوسعَ لنا في صَدرهِ دِفءًا وسلامًا
قبل لحظةٍ أو شِبرينِ
كنتُ في الجَلبةِ
حَسِبتُهُ قلبِي
تحتَ الرّمادِ
خَبَا...
المَهديُّ هُوَ
هَو الجِنانُ تَجري
مِنْ تحتِهَا الأنهارُ كأسُهُ\
الشّمسُ...لا غروبَ لهَا
بينَ عَينيهِ
بِرغم الرّمَدِ القَديم
بازغةٌ أبدًا
النّجومُ والأفلاكُ
آويةٌ إلى مُستقَرّ لهَا
نَحوَ جَبْهتهِ...
كنتُ أتهجّي مَفاتيحَ الخرائطِ
عندمَا فقدتُ بوصلةَ الرُّوح
في المدينةِ
عندَ الزِّحامِ وفي مَفرَقِ الطّرقِ
ُبهرتنِي الأضواءُ
تعثّرتُ ... لمْ أسقُطْ
غيرَ أنّي أضَعتُ السّبيلَ...
كنتُ أثَرثُرني في الصّمتِ
مع الوحدةِ الصّاخبةِ
وأمتَشِقُ في الفضاءِ خيوطَ العَنكبوتِ...
خيطٌ يُفضي بي إلى خَيط
َحتّى غَزلتْ عينايَ
أطرافَ الجهاتِ الأربعِ للسّقفِ
أينَ الشّمالُ مِنَ الجنُوبِ
أينَ الغربُ مِن الشّرقِ
بلْ أينَ الشّرقُ من الشّرقِ ؟!
مرّةً أخرَى
أضعتُ قِبلتِي
فضَاعتْ طريقِي
يَمَّمتُ وجهِي نحوَ بيتِ صَديقِي
فجأةً عندَ المُنعَطفِ
بَاغتَنِي العَنكبُوتُ
شَدَّ على رَقَبتِي
لوَى ذِراعِي
دَكّ أضلُعِي
أَلقَمَنِي فَمَها
ثُمّ أطبقَ عليَّ السَّقفَ
ُبين أسنانِه سَقطت
تَهاوَى فوقِي سُدٌّ
تحتِي سُدٌّ
لا مَخرجَ على اليمينِ
لا مَنفذَ على اليسارِ
ٌأنهار
ْفي دُوار...
ْلا شمسٌ ولا أقمارْ
عَنكبُوتٌ... عنكبوتْ ...
بينَ خُيوطهِ أختنقُ
أموتْ
ما سمعَ أحدٌ
اللّيلةَ في المدينة مِهرجانٌ...
هُو المهديُّ باتَ يُودّعُ
أهْيَفَ .. دقيقًا .. رقيقًا .. يقفُ
مثلَ إبرةٍ
َتخيطُ الوَشيَ
لكنّها بالعراءِ في الشّتاءِ تلتحفُ
وتقولُ مثلمَا قال:
سلامًا...سلامًا..
عادَ إلى غُرفتهِ
يرتجفُ
وقتَهَا أخطأتْ أقدامُ السُّكارى
الرّصيفَ
ُودَقّ المُؤذِّنُ عَصاهُ
على أوّل دَرجاتِ الصَّومعةِ...
* المهدي بن نصيب شاعر تونسي معاصر عاش وحيدا فقيرا عفيفا في واحات الجنوب وهذه القصيدة بمناسبة زيارتي له في مقر سكناه مع بعض الأصدقاء على هامش أحد المهرجانات .