فصل جديد من رواية امتداح الخالة ـ ماريو بارغاس يوسا
2006-06-13
«بلوغ الأربعين ليس بالأمر المرعب إذن»، هكذا فكرت دونيا لوكريثيا وهي تتمطى في الغرفة المظلمة. كانت تشعر بأنها شابة وجميلة وسعيدة. السعادة موجودة؟ ريغوبيرتو يقول نعم، «للحظات ولنا نحن الإثنين». إنها ليست كلمة جوفاء، وحالة لا يبلغها إلا المجانين؟ زوجها يحبها، وهو يثبت ذلك يومياً في ألفٍ من التفاصيل الدقيقة، وكل ليلة تقريباً يطلب أفضالها بحمية شبابية. وهو أيضاً يبدو وكأنه قد استعاد شبابه منذ أن قررا، قبل أربعة أشهر، أن يتزوجها. المخاوف التي منعتها طويلاً من الإقدام على ذلك كانت قد تبخرت ـ فزواجها الأول كان كارثة وكان الطلاق احتضاراً كابوسياً بين حقوقيين جهلة وشرهين ـ.
أول ما فعلته هو تغيير ديكور كل الغرف حتى لا يبقى أي شيء يذكر بزوجة ريغوبيرتو المتوفاة، وهي الآن تحكم هذا البيت بطلاقة، وكأنها سيدته منذ الأزل. الطاهية السابقة وحدها هي التي أبدت لها بعض العداء وكان عليها أن تستبدلها.
أما بقية الخدم فعلاقتهم بها جيدة. وخصوصاً خوستينيانا التي رفّعتها دونيا لوكريثيا إلى مرتبة وصيفة، وتكشفت عن لقية: فهي تتمتع بالكفاءة، والفطنة، والنظافة والولاء الكامل.
ولكن نجاحها الأكبر يتمثل في علاقتها بالطفل. فهذا الأمر هو أكثر ما كان يؤرقها، من قبل، وكانت تظنه عائقاً لا يمكن تجاوزه. فعندما كان ريغوبيرتو يلح عليها بوجوب وضع حد نهائي لغرامياتهما شبه السرية والزواج، كانت هي تفكر: «هناك ابن زوج يا لوكريثيا. لن يتحقق
الزواج أبداً. فالطفل سيكرهك دوماً، وسيجعل حياتك مستحيلة، وسينتهي بك الأمر عاجلاً أو آجلاً إلى كراهيته أيضاً. ومتى أمكن لزوجين أن يسعدا بوجود ابن امرأة أخرى؟».
لم يتحقق أي شيء من هذه المخاوف. فألفونسيتو يعبدها. أجل، هذا هو الفعل الدقيق، إنه يعبدها، وربما أكثر من اللازم. وتمطت دونيا لوكريثيا من جديد تحت الملاءات الدافئة، متمددة ومتقلصة مثل حية متكاسلة. ألم يحرز المرتبة الأولى في المدرسة من أجلها؟ وتذكرت وجهه المتورد، والانتصار في عينيه السماويتين عندما قدم لها سجل علاماته:
ـ ها هي هدية عيد ميلادك يا خالتي. هل يمكنني أن آخذ قبلة؟
ـ طبعاً يا فونتشيتو. يمكنك أن تقبلني عشر قبلات.
كان يطلب منها القبلات وتمنحه إياها في كل وقت، بحماس يجعلها ترتاب أحياناً. هل صحيح أن الطفل يحبها إلى هذا الحد؟ أجل، فقد كسبته إلى جانبها بكل تلك الهدايا وذلك التدليل منذ أن وضعت قدميها في هذا البيت. أم أن الأمر مثلما كان يتخيل ريغوبيرتو مؤججاً الرغبة من اندفاعاته الليلية بالقول إن ألفونسيتو قد بدأ يتفتح على الحياة الجنسية وإن الظروف قد أوكلت إليها دور الملهمة؟ «يا للهراء يا ريغوبيرتو. إنه ما يزال صغيراًن فقد أنجز للتو مناولته الأولى. يا للسخافات التي تخطر لك.»؟
ولكن، على الرغم من أنها لم تكن توافق بصوت عالٍ على مثل تلك الأمور، وخصوصاً أمام زوجها، حين يكونان وحدهما، مثلما هما الآن، إلا أن دونيا لوكريثيا كانت تتساءل عما إذا كان الطفل يكتشف فعلاً الشهوة، هذا الشعر المتولد من الجسد، مستفيداً منها كمحرض. فسلوك ألفونسيتو يشوشها، فهو يبدو بريئاً جداً وغامضاً جداً في الوقت نفسه. وتذكرت عندئذ ـ وكانت تلك حادثة من طفولتها لا يمكن نسيانها مطلقاً ـ ذلك الرسم العارض الذي رأت قائمتا نورس تخطانه يومذاك على رمال نادي ريغاتاس؛ فاقترب لتتأمله، منتظرة أن ترى شكلاً تجريدياً، متاهة من الخطوط المستقيمة والمنحنية، ولكن ما رأته كان أشبه بعضو ذكري أحدب! هل كان فونتشيتو يعي أنه حين يلقي بذراعيه حول عنقها مثلما يفعل، ويقبلها بتلك الطريقة المتمهلة، باحثاً عن شفتيها، يتجاوز الحدود المسموح بها؟ من المستحيل معرفة ذلك. فنظرة الطفل كانت شديدة الصراحة، شديدة العذوبة، بحيث بدا من المستحيل لدونيا لوكريثيا أنه يمكن لذلك الرأس الأشقر الجميل الذي يتخذ وضعية راع صغير في مذود الميلاد في مدرسة سانتا ماريا أن يتضمن أفكاراً دنسة، وعرة.
«أفكار دنسة» همست وفمها على الوسادة، «وعرة. ها ها ها!» كانت تحس بأنها رئقة المزاج وأن دفناً لذيذاً يسري في أوردتها، كما لو أن ذلك هو لعب بالنار، فتدفق العواطف ذاك تمليه دون شك غريزة غامضة، انتحاء لا شعوري. ولكنه حتى في هذه الحالة يبقى ألعاباً خطرة. أليس كذلك يا لوكريثيا؟ لأنها عندما تراه، صغيراً، جاثياً على الأرض، يتأملها وكأن خالته قد خبطت لتوها من الجنة، أو عندما تلتحم ذراعاه الصغيرتان وجسده الغض بها وتلتصق شفتاه اللتان لا تكادان تظهران لشدة نحولهما بخديها وتلمسان شفتيها ـ وهي لم تسمح أبداً ببقائهما لأكثر من ثانية واحدة ـ، لا تستطيع دونيا لوكريثيا أن تحول دون أن تباغتها أحياناً ضربة تهيج، نفحة شهوة. «أنت من تلك أفكاراً دنسة ووعرة يا لوكريثيا»، دمدمت بذلك وهي تلتصق بشدة بالوسادة، دون أن تفتح عينيها. أتراها تتحول يوماً إلى عجوز ماجنة مثل بعض زميلاتها في لعبة البريدج؟ أيكون هذا هو شيطان الظهيرة؟ اهدئي، تذكري أنك ستكونين أرملة ليومين ـ فلقدسافر ريغوبيرتو في رحلة عمل، من أجل شؤون تتعلق بالتأمين، ولن يرجع حتى يوم الأحد ـ ثم، يكفي تكاسلاً في الفراش. إلى النهوض أيتها الكسول! بذلت جهداً لتنفض عنها الوسن اللذيذة، تناولت الانترفون وأمرت خوستينيانا بأن تأتيها بالفطور.
دخلت الفتاة بعد خمس دقائق حاملة الصينية، والرسائل والصحف. فتحت الستائر فداهم الحجرة ضوء أيلول ليما الرطب، الكئيب، الرمادي. وفكرت دونيا لوكريثيا: «كم هو قبيح الشتاء». وحلمت بشمس الصيف، بشواطئ باراكاس الرملية الساخنة وبمداعبة البحر المالحة على بشرتها. مازال هناك وقت طويل! وضعت لها خوستينيانا الصينية فوق ركبتيها ورتبت لها الوسائد لتسند ظهرها إليها. لقد كانت سمراء ممشوقة القامة، لها شعر أجعد، وعينان لعوبان وصوت مترنم.
ـ هناك شيء لا أعرف إذا ما كان علي أن أخبرك به يا سيدتي ـ تمتت وهي تومئ بحركة تراجيكوميدية، بينما هي تقدم لها الروب وتضع الخف بجانب السرير.
فردت دونيا لوكريثيا وهي تقضم الخبز المحمص وتتناول رشفة من الشاي:
ـ عليك الآن أن تخبريني بما لديك، لأنك فتحت شهيتي. ما الذي جرى؟
ـ إنني أخجل من قول ذلك يا سيدتي.
تأملتها دونيا لوكريثيا مستمتعة. إنها شابة، تكشف تكورات جسدها تحت مريلة الزرقاء عن طزاجة ومرونة. كيف يبدو وجهها عندما يمارس زوجها الحب معها؟ لقد كانت متزوجة من بواب في أحد المطاعم، زنجي طويل ومربوع القامة مثل رياضي يأتي ليوصلها صباح كل يوم. وكانت دونيا لوكريثيا قد نصحتها بألا تعقد حياتها بإنجاب الأطفال وهي ما تزال شابة وأخذتها بنفسها إلى طبيبها ليصف لها حبوب منع الحمل.
ـ أهو شجار بين الطاهية وساتورنينو؟
ـ بل هو أمر متعلق الطفل الفونسو ـ قالت خوستينيانا ذلك بصوت خافت وكأنه يمكن للصغير أن يسمعها وهو في مدرسته البعيدة، وحاولت أن تبدو مضطربة أكثر مما هي عليه عندما أضافت: ـ لقد ضبطته ليلاً... ولكن، أرجوك ألا تخبريه يا سيدتي، لأن فونتشيتو سيقتلني إذا عرف بأنني أخبرتك.
كانت دونيا لوكريثيا تتسلى بهذا التكلف وهذه المبالغة التي تزين بها خوستينيانا كل ما تقوله:
ـ أين ضبطته؟ وأي شيء كان يفعل؟
ـ كان يتلصص عليك يا سيدتي.
ونبه إحساس غريزي دونيا لوكريثيا إلى ما ستسمعه، فتأهبت. كانت خوستينيانا تشير إلى سقف الحمام، وقد بدت مضطربة الآن حقاً.
ـ كان يمكن له أن يسقط إلى الحديقة ويقتل نفسه ـ همست وهي تحرك عينيها في محجريهما ـ. ولهذا رأيت أن أخبرك يا سيدتي. عندما أنبته قال لي إنها ليست المرة الأولى. وإنه قد صعد إلى السقف عدة مرات ليتلصص عليكِ.
ـ ما هذا الكلام؟
ـ ما سمعته ـ رد الطفل بتحد، وبما يشبه البطولة ـ. واعلمي أنني سأواصل عمل ذلك حتى لو انزلقت وقتلت نفسي.
ـ ولكنك جننت يا فونتشيتو. هذا سلوك قبيح جداً، هذا عمل معيب. ما الذي سيقوله دون ريغوبيرتو إذا علم أنك تتجسس على خالتك وهي تستحم. سيغضب كثيراً، ويضربك، ثم إنك قد تقتل نفسك، انظر كم هو مرتفع.
ـ لا يهمني ـ رد عليها الطف بوميض حاسم في عينيه. ولكن ذلك الوميض انطفأ في الحال، وهز الطفل كتفيه، وأضاف بتذلل شديد: ـ حتى لو ضربني أبي يا خوستيتا. هل ستشين بي إذن؟
ـ لن أخبره بأي شيء إذا ما عاهدتني بألا تصعد إلى هناك أبداً.
فهتف الطفل محزوناً:
ـ لا يمكنني أن أعاهدك بشيء من هذا. فأنا لا أعد بما لا يمكنني تنفيذه.
ـ ألست تخترعين كل هذه القصة بمخيلتك التروبيكالية؟ ـ قالت لها دونيا لوكريثيا متلعثمة وهي تفكر: هل يجب عليها أن تضحك أم تغضب؟
ـ لقد ترددت كثيراً قبل أن أحسم أمري وأخبرك يا سيدتي. لأن فونتشيتو طيب جداً، وأنا أحبه كثيراً. ولكن يمكن له أن يقتل نفسه بالصعود إلى هذا السطح، أقسم لكِ.
حاولت دونيا لوكريثيا دون جدوى أن تتخيله هناك في الأعلى، قابعاًَ يترصدها مثل وحش.
ـ ولكن، ولكن... لا أستطيع أن أصدق ذلك. فهو جدي ومؤدب جداً. لا أستطيع تصوره يفعل مثل هذه الفعلة.
فتنهدت الفتاة وهي تغطي فمها وتبتسم:
ـ لقد أحبك فونتشيتو يا سيدتي. ولا تقولي إنك لم تلاحظي ذلك، فأنا لن أصدق.
ـ يا للبشاعات التي تتلفظين بها يا خوستينيانا.
ـ وهل هناك سن محددة للحب يا سيدتي؟ البعض يبدؤون الحب وهم في عمر فونتشيتو. وهو فوق ذلك شيدي اليقظة. لو أنك سمت ما قاله لي لبقيت مفتوحة الفم من الدهشة. مثلما أصابني أنا.
ـ وما الذي ستخترعينه الآن أيتها السمجة.
ـ ما سمعته يا خوستيتا. فعندما تخلع الروب وتغطس في الحوض المملوء بالرغوة، لا أستطيع أن أصف لك ما أشعر به. إنها جميلة، جميلة... فدموعي تطفر من عيني، مثلما يصيبني عندما أشارك في تناول خبز القربان. أقول لك إنني أحس وكأنني أشاهد فيلماً. يبدو لي شيئاً لا أستطيع وصفه لك. وربما هذا هو ما يجعلني أبكي، أليس كذلك؟
اختارت دونيا لوكريثيا أن تنفجر بالضحك. فأحست الخادمة بالثقة وابتسمت أيضاً مظهرة ملامح التواطؤ.
ـ لا أصدق إلا عُشر ما تروينه لي ـ قالت لها أخيراً وهي تنهض ـ. ولكن، حتى في هذه الحالة، لا بد من عمل شيء لهذا الطفل. يجب وقف هذه الألعاب بالحسنى وبأسرع ما يمكن.
فتوسلت إليها خوستينيانا مذعورة:
ـ لا تخبري السيد. فقد يغضب كثيراً وربما ضربك.ففونتشيتو لا يدرك بأنه يقوم بعمل سيء. صدقيني أنه لا يدرك. إنه مثل ملاك صغير، لا يميز بين الجيد والخبيث.
فوافقت دونيا لوكريثيا مفكرة بصوت عالٍ:
ـ لن أخبر ريغوبيرتو... لن أفعل ذلك بالطبع. ولكن لا بد من وضع حد لهذه الحماقة. لست أدرى كيف، ولكن يجب عمل ذلك فوراً.
كانت تشعر بالخوف وعدم الراحة وبالغضب من الطفل، ومن الخادمة، ومن نفسها. ما الذي عليها عمله؟ أتكلم فونتشيتو وتؤنبه؟ أتهدده بأنها ستخبر ريغوبيرتو بكل شيء؟ وماذا سيكون رد فعله؟ هل سيشعر بأنه قد جُرح وتعرض للخيانة؟ وهل سيتحول فجأة حبه لها إلى كراهية؟
بينما هي تفرك جسمها بالصابون، داعبت نهديها الصلبين الكبيرين بحلمتيهما المنتصبتين، وخصرها الذي مازال نحيلاً تبرز منه، مثل نصفي ثمرة، انحناءات الوركين، والفخذين، والإليتين، والإبطين منزوعي الشعر والعنق الطويل البض المزين بشامة وحيدة. ورتلت مثلما تفعل وهي تستحم كل صباح: «لن أهرم أبداً. حتى لو اضطررت إلى أن أبيع روحي أو أي شيء آخر. لن أكون قبيحة أو تعيسة أبداً. سأموت جميلة وسعيدة.» كان دون ريغوبيرتو قد أقنعها بأن قول هذه العبارات وتكرارها والإيمان بها يحولها إلى حقيقة. «يا للسحر اللطيف يا حبي» وابتسمت لوكريثيا. فقد يكون زوجها غريب الأطوار جداً. ولكن المرأة لا تشعر في الحقيقة بالملل مع رجل مثله.
طوال ذلك النهار، وبينما هي تصدر التعليمات للخدم، وتذهب لشراء لوازم البيت، وتزور إحدى صديقاتها، وتتناول الغداء، وتجري وتتلقى اتصالات هاتفية، كانت تتساءل عما ستفعله مع الطفل. إذا ما وشت به إلى ريغوبيرتو، فسوف تحوله إلى عدو لها، وعندئذ ستتحول نبوءة الجحيم المنزلي القديمة إلى واقع. ربما كان أكثر التصرفات رصانة هو نسيان ما كشفت عنه خوستينيانا، وتبني سلوك مختلف، والبدء بسحب الأرض تدريجياً من تحت هذه التخيلات التي صاغها الطفل معها، والتي لا يعي فحواها إلا بصورة تقريبية. أجل، هذا التصرف هو عين العقل: التزام الصمت، وإبعاده عنها شيئاً فشيئاً.
عندما دنا منها ألفونسيتو في المساء، لدى عودته من المدرسة، ليقبلها، أبعدت خدها عنه بسرعة واستغرقت في المجلة التي كانت تتصفحها دون أن تسأله عن دروسه أو إذا ما كانت لديه واجبات مدرسية للغد. ولمحت بطرف عينها أن وجهه الصغير يتأثر إلى حد التحول إلى تكشيرة بكاء. ولكنها لم تتأثر وتركته يتناول طعامه في تلك الليلة وحيداً دون أن تنزل لمرافقته مثلما تفعل في مرات أخرى (وكانت هي لا تتناول وجبة العشاء إلا نادراً). وبعد قليل من ذلك اتصل بها ريغوبيرتو من مدينة تروخييو. كل أعماله في مهمته كانت على ما يرام وهو مشتاق إليها جداً. وهذه الليلة سيشتاق إليها أكثر في غرفته الكئيبة في فندق السياح. أليس هناك من جديد في البيت؟ لا، لا شيء. انتبهي لنفسك جيداً يا حبي. وبعد ذلك استمعت دونيا لوكريثيا إلى قليل من الموسيقى، وحيدة في غرفتها، وعندما جاء الطفل ليتمنى لها ليلة سعيدة، ردت عليه ببرود. وبعد قليل طلبت من خوستينيانا أن تعدّ لها حمام الرغوة الذي تستحم فيه دوماًَ قبل النوم.
وبينما كانت الفتاة تملأ الحوض الحمام بالماء، وكانت هي تتعرى، عاودها مجدداً الضيق الذي لاحقها طوال النهار، وكان قد ازداد أكثر. هل أحسنت صنعاً بمعاملتها فونتشيتو بهذه الطريقة؟ وكانت على الرغم منها، تشعر بالأسى وهي تتذكر ملامح وجهه المخذول والمباغت. ولكن، ألم تكن هذه الطريقة الوحيدة لوضع حد لولدنة يمكن لها أن تصبح خطرة؟
كانت شبه غافية في حوض الحمام، وكان الماء يصل حتى عنقها، وهي تحرك بين الفينة والفينة بيدها أو بقدمها فقاعات الصابون، عندما طرقت خوستينيانا الباب: أيمكنني الدخول يا سيدتي؟ رأتها تقترب حاملة المنشفة في يد وروب الحمام في اليد الأخرى. وكانت تبدو على وجهها إمارات ذعر شديد. فعرفت على الفور ما الذي ستهمس لها به الفتاة: «فونتشيتو موجود في الأعلى يا سيدتي». فأومأت بحركة مثقلة وأمرت خوستينيانا بالخروج.
بقيت في الماء دون حراك لوقت طويل، متجنبة النظر إلى السقف. هل يتوجب عليها عمل ذلك؟ هل تشير إليها بإصبعها؟ أتصرخ، أتشتمه؟ استبقت الجلبة التي قد تحدث وراء القبة الزجاجية القاتمة الموجودة فوق رأسها؛ تخيلت الهية الصغيرة المقرفصة، ورعبه، وخجله. سمعت صرخته المشوشة، رأته يندفع راكضاً. ينزلق، يسقط إلى الحديقة بدوي نيزك. ووصلت إلى مسمعيها ضجة ارتطام الجسد الصغير بالقوية بالدرابزين. وسحقه سياج شجيرات الكروتو، وتشابكه ما بين أغصان شجرة الفلوريبونديو. قالت لنفسها وهي تضغط على أسنانها: «ابذلي جهدك، واكبحي نفسك. تجنبي حدوث فضيحة. وتجنبي قبل كل شيء حدوث أمر قد ينتهي بمأساة».
لقد جعلها الغضب ترتجف من قدميها حتى رأسها، وكانت أسنانها تصطك وكأنها تشعر ببرد شديد. نهضت فجأة. ودون أن تستر جسدها بالمنشفة، ودون أن تنكمش على نفسها بحيث لا ترى العينان الصغيرتان غير المرئيتين سوى مشهد ناقص وعابر لجسدها. لا، بل على العكس نهضت منتصبة، منفتحة، وقبل أن تخرج من حوض الاستحمام، تمطت مظهرة نفسها بتمهل وفحش بينما هي تنزع واقية الشعر البلاستيكية وتهز شعرها بقوة. وحين خرجت من الحوض، وبدلاً من أن ترتدي الروب فوراً، بقيت عارية، جسدها يتلألأ بقطرات الماء، مشدوداً، جريئاً، غاضباً. جففت جسمها ببطء شديد، عضواً فعضواً، مارة بالمنشفة على بشرتها مرة بعد أخرى، منتصبة، منحنية، متوقفة للحظات وكأنها ساهية بفكرة مفاجئة في وضع فاحش مستسلم أو متأملة نفسها بتمعن في المرآة. وبالإسهاب المهووس نفسه دلكت جسدها بعد ذلك بمراهم منعشة. وبينما هي تتألق بهذه الطريقة أمام المراقب غير المرئي، كان قلبها ينبض بالغضب. ما الذي تفعلينه يا لوكريثيا؟ أي تغنج هذا يا لوكريثيا؟ ولكنها واصلت عرض نفسها مثلما لم تفعل ذلك لأحد من قبل، حتى ولا لدون ريغوبيرتو نفسه، متنقلة من مكان إلى آخر في الحمام، عارية، بينما هي تسرح شعرها بالفرشاة، وتنظف أسنانها، وترش جسدها ببخاخ العطر. وبينما هي تقوم ببطولة هذا الاستعراض المرتجل كانت تحس بأن ما تفعله هو طريقة فطنة أيضاً للتنكيل بالماجن المبكر القابع في ظلمة السطح، وأن الصور الحميمة ستمزق إلى الأبد كل تلك البراءة التي تستر وقاحاته.
عتدما دست نفسها في السرير، كانت ما تزال ترتجف. ولم تستطع النوم لوقت طويل، متشوقة لريغوبيرتو. كانت تشعر بالاستياء مما فعلته، وكرهت الطفل بكل قواها، وكانت تحاول جاهدة ألا تحزر ما الذي تعنيه نوبات السخونة تلك التي تكهرب حلمتي نهديها بين فينة وأخرى. ما الذي أصابك يا امرأة؟ لم تكن تعرف. أهي سن الأربعين؟ أم أنه أثر تخيلات وشذوذات زوجها الليلية؟ لا، فالذنب كله يقع على ألفونسيتو. وفكرت بتشوش: «هذا الطفل يفسدني».
وعندما استطاعت النوم أخيراً، حلمت حلماً شهوانياً يبدو وكأنه يبعث الحياة في إحدى لوحات مجموعة دون ريغوبيرتو السرية التي يتأملانها معاً في الليل بحثاً عن مصدر إلهام لحبهما.
«5»
ديانا بعد حمامها
هذه التي إلى اليسار هي أنا، ديانا لوكرثيا. أجل، أنا ربة السنديان والغابات، ربة الخصوبة والإنجاب، ربة الصيد. الإغريق كانوا يسمونني ارتيميسا. وأنا متساوية مع القمر، وأبولو هي أخي. وبين من يعبدونني تكثر النساء والعوام. هناك معابد منتشرة لتأليهي في كل غابات الإمبراطورية. والمنحنية إلى جانبي، تنظر إلى قدمي، هي خوستينيانا، المفضلة لدي. لقد انتهينا من الاستحمام للتو وسوف نمارس الحب.
الأرانب البرية والزرازير وطيور التدرج اصطدتها فجر هذا اليوم، بالسهام التي أعيدت إلى كنانتها بعد أن انتزعتها خوستينيانا من أجساد الطرائد ونظفتها. كلاب الصيد هي للزينة فقط؛ فنادراً ما أستخدمها لدى خروجي إلى الصيد. ولم استخدمها مطلقاً على أي حال من أجل طرائد حساسة كهذه التي اصطدتها اليوم، لأن أنيابها تتلفها فلا تعود صالحة للأكل. هذه الليلة سنأكل هذه الحيوانات ذات اللحم الطري واللذيذ، متبلاً ببهارات غريبة وسنشرب من نبيذ كابوا إلى أن نخر منهوكتين. أنا أعرف كيف استمتع. وهذه كفاءة رحت أطورها دون راحة على امتداد الزمن والتاريخ، وأؤكد دون تفاخر بأنني قد توصلت في هذا المجال إلى الحكمة. أعني: فن مزج نيكتار لذة كل الثمار ـ حتى المتعفنة منها ـ في الحياة.
الشخصية الرئيسية ليس موجوداً في اللوحة. أو أنه بكلمة أدق، لا يظهر فيها. إنه في الخلفية، متخفٍ في الدغل، يتلصص علينا، إنه هناك، يجثو في غيبوبة ليعبدني. بخصل شعره الأشقر المتشابك مع الغصون الكثيفة وعضوه الصغير ذي البشرة الشاحبة المنتصب مثل بيرق، يرتشفنا ويلتهمنا بمخيلته... مخيلة الطفل النقي، إنه هناك. ومعرفتنا بوجوده تفرحنا وتضفي مزيداً من الخبث على ألعابنا.إنه ليس إلهاً ولا حيواناً، بل هو جنس البشر. يرعى الماعز ويعزف المزمار. واسمه فونشين.
لقد اكتشفته خوستينيانا في يوم عيدس آب، حين كنت أقتفي أثر غزال في الغابة. وكان الراعي الصغير يتبعني مبهوراً، متعثراً، دون أن يرفع عينيه عني لحظة واحدة. وتقول مفضلتي إنه حين رآني منتصبة ـ وكان شعاع من الشمس يشعل شعري ويهيج حدقتي عيني، بينما كل عضلات جسدي مشدودة استعداداً لرمي السهم ـ انفجر الصغير بالبكاء. فاقترب خوستينيانا منه لتواسيه، وانتبهت عندئذ إلى أن الطفل يبكي من السعادة.
«لا أدري ما الذي أصابني»، اعترف لها بذلك والدموع تسيل على خديه، وأضاف: «ولكن كلما ظهرت السيدة في الغابة تتحول أوراق الشجر إلى نجوم ساطعة وتبدأ الأزهار بالغناء. فتنسل إلى داخلي روح ملتهبة تهيج دمائي. أراها فأحس وأنا ساكن على الأرض بأنني أتحول إلى طائر وأنطلق محلقاً.
وفلسفت خوستينيانا الأمر بعد أن روت لي الواقعة: «هيئة جسدك أوحت باكراً بلغة الحب لسنوات عمره القليلة. لقد فتنه جمالك مثلما تفتن ذات الأجراس عصفور الكوليبري. أشفقي عليه يا ديانا لوكريثيا. لماذا لا نلعب قليلاً مع الطفل الراعي؟ سنمتعه ونمتع أنفسنا كذلك.
وهذا ما حدث. فخوستينيانا المحبة للهو بالفطرة، مثلي، وربما أكثر مني، لا تخطئ أبداً في الشؤون المتعلقة باللذة. وهذا هو أكثر ما يعجبني فيها، أكثر من وركيها الوارفين أو من زغب عانتها الحريري ذي الطعم اللذيذ في المداعبة: إنها مخيلتها السريعة وغريزتها الصائبة في التعرف، وسط صخب هذا العالم، على منابع اللهو واللذة.
منذ ذلك الحين صرنا نلعب معه، ومع أن وقتاً طويلاً قد انقضى، إلا أن اللعب مبهج لا يسبب لنا أي ملل. ففي كل يوم يسلينا أكثر من سابقه، مضفياً الجدة والطراقة على الحياة.
إن فونشين، إضافة إلى مفاتنه الجسدية، كإله رجولي صغير، يجمع كذلك روح الخجل والحياء. فالمحاولتان أو الثلاث التي قمت بها للاقتراب منه والتحدث إليه لم تثمر نفعاً. فهو يمتقع، وينطلق راكضاً مثل غزال نفور ويختفي بين الأغصان كما في أعمال السحر الأسود. لقد همس إلى خوستينيانا بأن مجرد التفكير، ليس بلمسي، وإنما بالاقتراب مني، أو بأنني أنظر إلى عينيه أو أتحدث إليه يفقده صوابه ويقضي عليه. وقال لها: «أعرف بأن جمالها سيحرقني إذا ما اقتربت منها مثلما تحرق شمس ليبية فراشة حائمة.
ولهذا السبب نمارس ألعابنا خفية. في كل مرة لعبة مختلفة، ألعاب تصنع تشبه تلك المشاهد المسرحية التي يختلط فيها الآلهة والبشر ليتألموا ويتسلوا، والتي يحبها كثيراً أبناء بلاد الإغريق العاطفيون. فخوستينيانا تتظاهر بأنها شريكته المتواطئة معه وليست حليفتي ـ والحقيقة أن تلك الخبيثة متواطئة مع كلينا، ومع نفسها بصورة خاصة ـ، فتضع الراعي الصغير بين صخور مجاورة للمغارة التي أقضي فيها الليل. وعندئذ تعريني على ضوء الموقد ذي اللهب الأحمر، وتطلي جسدي بعسل نحل صقلية العذب. إنها وصفة إسبارطية للحفاظ على الجسد صافياً ولامعاً، فضلاً عن أنها وصفة مهيجة. وأغمض أنا عيني بينما هي قابعة فوقي، تلك أعضائي وتحركها وتعرضها على فضول مريدي العفيف. وأغور في أثناء ذلك في نفق الحس وأرتعش في تشنجات لذة قصيرة وأنا أتخيل فونشين. بل أكثر من ذلك، فأنا أراه، أشمه، أداعبه، أشده وأخبئه في داخلي، دون أن أكون بحاجة إلى لمسه. ويضاعف تهيجي علمي بأنني بينما أنا أستمتع تحت يدي مفضلتي المجتهدتين، يستمتع هو أيضاً معي، على إيقاع متعتي. جسده الصغير البريء، المتلألئ بالعرق وهو يتأملني وينتشي برؤيتي، يضيف لمسة حنان تلون لذتي وتبعث فيها الحلاوة.
وهكذا رآني الراعي الصغير بمساعدة خوستينيانا وهو مختبئ ما بين تشابكات الغابة، وأنا أنام وأستيقظ، ورآني وأنا أرمي السهم والنبلة، وأنا ألبس وأتعرى. رآني أقرفص على حجرين لأتبول بولي الأشقر في جدول ماء رائق شفاف يسارع هو، بعيداً عني في أسفل المجرى، إلى الشرب منه. رآني أقطع رؤوس الإوز، وأصفي دم الحمائم لأقدمه للآلهة وأتقصى في أحشائها مجاهيل المستقبل. رآني أداعب جسدي وأنتشي بنفسي وأداعب مفضلتي وأبعث فيها النشوة، ورآنا، أنا وخوستينيانا، نغطس معاً في النهر، وتشرب كل واحدة منا ماء الشلال البلوري من فم الأخرى، مستمتعين بمذاق لعابينا ورحيقينا وعرقينا. ليس هناك ممارسة أو عمل، ولا مجون أو طقس من طقوس الجسد أو الروح إلا وعرضناه عليه، عليه هو سيد الامتياز في الإطلاع على لقاءاتنا الحميمة من مخابئه المتنقلة. إنه مهرجنا، ولكنه سيدنا أيضاً. يخدمنا ونخدمه. ولقد استمتعنا مرات لا حصر لها دون أن يلمس أحدنا الآخر أو يتبادل معه كلمة واحدة، وليس من الظلم القول إنه على الرغم من الهوة الشاسعة التي تفصل بين طبيعتينا وسنينا، إلا أننا، أنا وهو، أشد اتحاداً من أي عاشقين متيمين.
الآن، في هذه اللحظة بالذات، سنمثل أنا وخوستينيانا من أجله، وسيبقى فونشين ببساطة هناك في الخلف، ما بين السور الحجري والدغل، وسيمثل كذلك من أجلنا.
وباختصار، سوف تدب الحياة والحركة في هذا السكون الأبدي ليصبح زماناً وتاريخاً. ستنبح كلاب الصيد، وستغرد الغابة، وستجري مياه النهر مغنية ما بين الحصى والقصب، وستسافر الغيوم المنفوشة نحو الشرق، مدفوعة بالرياح اللعوب نفسها التي تهز تجعيدات شعر مفضلتي السعيدة. إنها ستتحرك الآن، ستنحني بفمها ذي الشفتين الورديتين لتقبل قدمي وتمص كل إصبع مع أصابعي مثلما تمص الليمون في أمسيات الصيف الحارة. عما قريب سنتشابك معاً، متداعبتين على حرير الشرشف الأزرق، غارقتين في النشوة التي تنبثق منها الحياة. وفيما حولنا ستحوم الكلاب مطلقة الأبخرة من أشداقها المتلهفة، وربما ستلحسنا متهيجة. والغابة ستسمعنا نتنهد، نغيب عن الوعي، ثم نصرخ فجأة مجروحتين جراحاً مميتة. وبعد لحظة من ذلك سيسمعنا نضحك ونمزح. وسيرانا نستغرق في نوم هادئ دون أن تنفصل إحدانا عن الأخرى.
ومن المحتمل عندئذ، حين يرانا وقد صرنا أسيرتي الإله هبنوس[1]، سيتخذ أقصى الاحتياطات لكي لا يوقظنا بأدنى حفيف من خطواته، وسيغادر شاهد تغنجنا مخبأه ويأتي ليتأملنا من حافة الشرشف الأزرق.
سيكون هناك، وسنكون نحن أيضاً، جامدين مرة أخرى، في لحظة أبدية أخرى، وستكون جبهة فونشين شاحبة، وخداه متوردين، وعيناه مفتوحتين بذهول وامتنان، وخيط لعاب رقيق يسيل من فمه الطري. أما نحن المتشابكتين والتامتين، فسنتنفس بإيقاع واحد، بأقصى تعبير من يعرفن كيف يكنّ سعيدات. سنكون هناك نحن الثلاثة،ساكنين، صابرين، بانتظار فنان المستقبل الذي ستهيجه الشهوة، فيحبسنا في حلمه، ثم ينقلنا إلى لوحة القماش بريشته معتقداً أنه يبدعنا.
[1] هيبنوس Hipnos: الإله الذي يجسد النوم عند الإغريق. وهو شقيق ثاناتوس، إله تشخيص الموت.
08-أيار-2021
13-حزيران-2006 | |
17-أيار-2006 | |
25-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |