Alef Logo
ابداعات
              

قراءة نقدية في رواية فردوس الجنون لأحمد يوسف داود

علم الدين عبد اللطيف

2006-07-01

خاص ألف

إذا كانت الرواية – أي رواية – وهي تحكي مقاطع من حياة الناس والمجتمع والعالم،في فترة معينة، قد تطول وقد تقصر،بأحداثها وسيرورة مصائرها، فيتوجب بداية إخضاعها كبناء حكائي أو قصصي إبداعي، لقوانين العالم الموضوعية......قوانين الزمان والمكان والحياة، إلا أن روايتنا هنا يبدو أن لها قوانينها الخاصة، أو لنقل إنها تبتدع قوانينها التي تحقق متطلبات الحداثة والتحديث، والتجريب الذي يتقصد البحث عن أشكال جديدة للبناء الروائي، تلك التي اشتغل عليها الكاتب والأديب أحمد يوسف داؤود ، كهم إبداعي مستمر ومتواصل، يسم جميع أعماله بلا استثناء، في محاولة للوصول إلى حالة إبداعية تحيل إلى المتغيّر دوماً، والمستجد والمستحدث، وعدم اعتبار اللحظة زمناً منفصلاً...كينونة ، بل معطى متوالد ، يتعلق بالقبل والبعد... وما بينهما، وما تحتهما... وفوقهما، وأيضاً بما ليس بهما كمتعلق غير ثابت، لا يحيل إلى ذاته ، ولا يحمل بالتالي شروط بقائه وفنائه في طبيعته، انطلاقاً من القطع مع مبدأ الانفصال والتوحد، أو مع نسبية اللحظة .
والأديب أحمد يوسف داؤود ، كهم إبداعي مستمر ومتواصل، يسم جميع أعماله بلا استثناء، في محاولة للوصول إلى حالة إبداعية تحيل إلى المتغيّر دوماً، والمستجد والمستحدث، وعدم اعتبار اللحظة زمناً منفصلاً...كينونة ، بل معطى متوالد ، يتعلق بالقبل والبعد... وما بينهما، وما تحتهما... وفوقهما، وأيضاً بما ليس بهما كمتعلق غير ثابت، لا يحيل إلى ذاته ، ولا يحمل بالتالي شروط بقائه وفنائه في طبيعته، انطلاقاً من القطع مع مبدأ الانفصال والتوحد، أو مع نسبية اللحظة بما هي بداية ونهاية، فافتراض الفصل والانفصال، يجبّ مبدأ الحداثة ، ويحيل إلى ما يستلزم إعادته، بدلاً من عودته بطبيعته بتجلّ مختلف أو منزاح ، أو بتشكيل يعكس المعنى في إحالاته وتحولاته... لا في غائيته.
فردوس الجنون لها زمنها الروائي الخاص، الذي يفيض عن الزمن التاريخي ، ويفارق منطقه
المنطقي، لمواكبة الأبعاد غير النهائية لتحولات الحدث الروائي، وهو أيضاً ليس انتقائياً ، بل متحرك... متقافز، أو متوهم ، أو غائب أو مفترض، مما يجعل منه عنصراً أداتياً من جملة العناصر التي يتحكم الكاتب بإيقاعها وسيرورتها ، من خلال تركيزه على فرضية استحالات الزمن وتغيراته، ويكون فلسفة إبداعية حداثية، تلائم وتوافق المحمول الفكري، فيتلونان بلون بعضهما، ويحيل كل منها إلى الآخر.
الكاتب كمبدع للتوقيت يشي بمقولاته عبر تحكمه بمواقع خطى الزمن الروائي،ومتابعته لها، كزمن مفترض أو مسترجع، أو قادم، ويصبح هذا الفهم للتوقيت ذو علاقة واجبة الوجود بالرواية، من أجل الصورة البنائية التي تتسع للخلق والتخليق، المختلفان عند الكاتب عن العالم الحكمي، ولهذا وجب خلق عالم زمني روائي متخيل وفق الرؤية التي تبرر وتفسر العالم المخلوق، أو واجب الخلق.
من الواضح أننا لسنا هنا أمام فلسفة للفكر فقط، بل فلسفة للطبيعة والتاريخ واللغة، فالشعوري واللاشعوري عبر اضطراب اللحظة الزمنية وتقلقلها ، يعبران عن نفسيهما معاً ، وتحتفظ الذاكرة الانتقائية ، والرغبة ببناء ذاكرة جديدة منتقاة بمركز أساسي مما يسمح بالتحرر من الذاكرة كتاريخ، أو كمعطى، ويقيم بينهما فاصلاً ، هو علامة الاستقلال أو الفراق الذي تولدت عنه الصورة داخل الكلي المستمد من محايثة اللحظة لمبدأ الاستيلاد المستمر لذاتها، والتي تحيل إلى حداثة الفكر، ثم تنعكس عنها.( أنكرني أخوتي أمي ماتت من الغم بينما ضاع أبي في غابات المارتينيك وهو يطارد خلاسياته الجميلات وكل ذلك لأنني أركب على قصبة وأركض وراء أشباحي منقاداً بهوس الاكتشاف بينما هم يرغبون في أن أصير حكيماً )
الفرشة الروائية تجمع كورال الشخصيات المتخيلة، وتستحضرهم في بداية القص، كاستهلال يحيل إلى التواصل الحي، ويؤكد استغراق الواقع للمتخيل أو توثيق الواقع بالتخييل، فبيان الأبطال يشعر بالتزام الواقع من حيث الوجود المعاين، ها نحن نتكلم ( نحن أبطال هذه الرواية) ...وتأتي جملة اسألونا لماذا... لتؤكد واقعية الحال بافتراض واقعية المساجلة، وهو اختبار لا يمكن أن يرقى إليه الشك في يقينية الوجود ، إذن فالوجود هو الافتراض الأساسي ، أما ما ينسحب عليه من توصيف فهو أمر آخر، والانشغال بمقاومة الجنون هو تأكيد لحالة الواقعية ، وليست نفياً للواقع، ويكون تمييز حالة الجنون ، هو المعادل لوجود العقل بالفرض، ومسألة الخطأ والصواب، هي من متعلقات الواقع أيضاً، ويتبادل الخاص والعام أمكنتهما، فتصبح القاعدة هي الاستثناء، والاستثناء قاعدة يمكن تعميمها فيما يتعلق بالأحكام القيمية للحياة والكون والبشر، ويصبح من يمكنه تمييز الجنون من العقل، يمثل القلة النادرة، التي لا تنال أحكامها- وللأسف - حظها من الاعتبار، والمسألة موضوعية بالأصل، فمن يوجد في مدينة العوران يجب أن يستر عينه ، وإلا كان هو الاستثناء، وطالما أن ذوي الجهالة ينعمون في فراديسهم، فالأمر محلول بالنسبة لهم، ويبقى أولئك التعساء بعقولهم وحكمتهم، غرباء في مملكة المجانين، فهل يجب أن يشربوا من نهر الجنون، كيلا يستمر التمايز والتمييز؟ أو أن رؤوسنا الفاخرة لا يليق بمساحاتها الرحيبة، وهي على الهيكل، سوى هذا النوع من الشواغل؟ وأين بالأصل تكمن مسألة الخطأ والصواب؟ وهل الخطأ والصواب هما من متعلقات العقل؟ وأي عقل نعني؟ أم أن المسألة لا تمثل برمتها سوى اصطلاحاً ومعطى بشرياً، يخضع لنسبية الزمان والمكان والكون؟.
تشرع الرواية السؤال والتساؤل عن الموقف من فرضية خطأ العالم، وهل من اللازم تنصيب الشخص لنفسه شاهد بينة شخصية على خطأ العالم ؟، هذا السؤال ينبني على مشروعية تخطئة العالم أساساً ، ومجرى الأشياء ، لكن هذا العالم هو بالتأكيد أكبر من أحكامنا وأفكارنا، والصعوبة تكمن في قابلية الفكر كمعطى، للتحديد خارج العالم،لكن افتراض أن هناك موتى أحياء يحل المسألة مباشرة ( كنا فقط نطمح إلى إثبات أنه ما زال بين الموتى الأحياء غير المعلنين ذلك الخيط الواهي من الصلات الإنسانية الجميلة وسنعترف لكم هنا بأن الدافع إلى ذلك لم يكن أكثر من أمل ساذج وغبي على الأرجح بأن ذلك الخيط قد يتحول إلى حبل إنقاذ في يوم من الأيام ) ...إن كلمة قد تحيل إلى إمكانية التحقيق والتحقق ، أي تشير إلى توفر عناصر الواقع، وإن بحدودها الدنيا، وهنا يكون الأمل بالحياة مشروعاً، الحياة المفارقة لليوتوبيا التي تحمل بذور فنائها في ذاتها عموماً، بتقديمها الفكر على الواقع والقول بأسبقية النظرية، ومن الطبيعي أن لا مكان للأمل في ظلها، بل فقط الحلم في غياب العقل، أما في حالة الأمل، فالأمر مختلف، إذ يكون الأمل أيضاً حلماً، إنما بحضور العقل الذي يحايث الواقع ، ويستمد منه عناصره، ولو صعب الوضع واستدق، ويبدو أننا لا نملك أكثر من ذلك الآن، لكننا نطمح ونأمل، والأمر يتعلق بالآن والإمكان تحديداً لا نفياً...( أنا متعصب للحياة أي نعم متعصب للحياة ...والحياة لا تكون إلا في مكان يا سيد بليغ فالمكان هو وطن للحياة وطني وطنك وطننا أوطان الناس جميعاً معلوم وليس الوطن فكرة للضحك على الذقون وليس مذبحا وهمياً يموت عليه الانسان بلا معنى ولا غاية ولا هدف لا الوطن هو مطار روحك للتحليق نحو الله هذا هو رأيي من البداية ).وأيضاً..
( لا يهمني من تكون لكنني عرفتك أنا مدينة لك بإعادتي من سجن حلمي المسكين إلى رحابة واقع أشعر بأننا قد نصير قادرين على إحياء جماله رغم فظاعة ما نمر به من عذاب ) .
فهل تكون الكتابة ذاتها وليدة الصعوبات التي تسببها متطلبات التحديد هذه، أو أنها احتفالية متعمدة باكتشاف المفارقات التي يمكن أن تظهر في كل مكان بين متطلبات الروح الحالمة، وبين نوازع الفكر المعقلن، المتصل بمسائل الكشف، وما يمكن أن ينتج عنها من مظاهر السلب والاستلاب، أو الفراق، أو الاغتراب الروحي.
من الواضح أن الكاتب يحاول تسريب الصدمة التي تجتاحه إزاء كل هذا إلى قرائه، الصدمة التي تسببت بانثقاب روحه، وبالتالي بروز الحاجة للترقيع،(سرحان الإسكافي ونائبه بليغ، ترقيع ماركات الأرواح المعطوبة بأحدث الآلات اليابانية خدمة متقنة ودهان فاخر ) نعم... فليس ثمة متسع من الوقت للهدم وإعادة البناء، ومن الضروري التعرف على القاتل والمقتول في غمرة الصدمة الهائلة للحدث، صدمة السوق... الأخلاق السياسة... الأحزاب، وهذا ما يبرر اللجوء إلى التمايز والتمييز وربما البعثرة وإعادة التوليف في صورة الشاهد المشهود، فالشاهد لوحده ليس بوسعه إلا اللغط والإزعاج، والمشهود يمثل التحدي الدائم، من الطبيعي إذن أن تنتج الفوضى والخراب، خراب الروح، ولن يكون بوسع الكاتب إلا اللجوء للسخرية المعبرة عن الرفض الكلي لما هو كائن خارج نطاق الرغبة والإرادة.( ولو سلامة فهمك خواجا سرحان هم يعني الدهاقين الذين يستطيعون شطب المخلوقات بخربشة توقيع على ورقة أو بأمر في تلفون ثم يحدثونك بالألوان وعلى الهواء مباشرة عن الحرية وراء ابتسامة أنيقة كما يليق بالنصابين ...) وأيضاً ( أنت المسكين الطيب الذي لم يكن يطلب إلا القليل من المعقولية لحركة الدنيا صرت عاجزاً عن أن تعرف ما الذي تريده أنت ثم وصلت أخيراً إلى أنك لا تطلب إلا موتاً بالتوقيت الشخصي ...)
مفارقة الواقع بشروطه المكانية والزمانية، ليس هدفاً بحد ذاته، أو وسيلة للهرب، فهذا ليس من شأنه، ولا يكفي بدون شك لتحويل العالم أو تبديل الحياة، لكن ربما بفضل محايثة الواقع غير المحدد، والذي تقودنا إليه الأسباب المختلفة التي تسمح لنا بشعور كانت تمنعه عنا معطيات الواقع المنطقي ومقولاته، تبرز الحاجة لعملية الانتخاب العقلي، التي تظهر ميولنا في تناقضاتها، وعمليات التوافق والإخضاع اللازمة للوصول إلى وحدة المقول الأخلاقي أو العاطفي أو الوجداني ، المتمثل بضمير الرواية الحقيقي ، كذات منفصلة، والتعرف على قدراته في توحده، ورغباته، ( وشكرت القصبة في سري لأنها حملتني ذات يوم بعيداً عن الجامعة وعن حذلقات حكمة الجامعة وفتحت لي أبواب فلسفات الحياة المتقلبة الواسعة وهي تتجسد في أسرار صغيرة مخبأة في حركة البشر ، لكن تلك الأسرار الصغيرة كلها تنبع من سر واحد كبير ومتناقض، سر مستعص على الجلوس في مقاعد الدراسة حيث لا يمكن للمرء أن يشك في محفوظات اليقين الخالص الذي يحشون به رأسك ، وحيث الرأس صندوق فرجة على قداسة كل ما ليس منك وليس وسيلة لدخولك في نظام الدنيا ككائن من لحم ودم )
إن مجموع الذوات المتناثرة في أطر وشخوص مختلفة تتكلم وفق القولبة التي تحكمها، والتي يتم ضبطها دائماً ومتابعة حركتها من قبل الكاتب انطلاقاً من إمساكه الدائم بخيوط القص، وسيطرته على أدواته، وفق ما يجب أن يكون، ولو عبر الحلم والتداعي، وتقطيع الزمن، و بفضل ضمير المتكلم الذي يشرع الحق بالتقول، وعلى مسؤوليته كشاهد معاين،( وعندها اقترحت على الشباب أنا محسوبكم سرحان )...تاء المتكلم هنا تبتدئ القص بضمير الأنا الرائي، المتسلح بحواسه ، مع الاعتماد أحياناً على ضمير الغائب المنفصل عن الزمان والمكان، المتعالي على الحدث، الذي يرد في سياق الحوارات، الأمر الذي مكنه من استنطاق الذوات المتناقضة والمتنافرة، بما يفيد الحكم الذي يتطلب تكييف الواقع، وإعادة تشكيله، أو تغييبه إذا اقتضى الأمر، وعبر فانتازية المصادفات والمفارقات، وانفلاتها من قيود المحاكمة العقلية أو التاريخية، أو حتى التقانية، فالحياة ربما كانت فراغاً تعكر صفوها الصور الغامضة والمتدفقة التي تجتاحها،لكنها تحركها ...وتعطيها قيمتها، ولو كانت على غير ما نشتهي، فلا يتحرج بليغ من إيراد صيغ الشتم والتهديد التي يتلقاها ( اسمع أنت يابن الشرفاء يابليغ الحمود إذا أخطأت مرة واحدة أو ترددت لحظة في قتل من يحاول الوقوف في وجهك أو سكت على أذية مخلوق فأنا من الآن أنصحك بالهرب إلى أي مكان لا تصل يدي إليك فيه ...لأنني وقتها سأجعلك تلعن السلعة التي خرجت فيها من بطن تلك المجنونة فهمت أم أعيدها عليك؟)...ثم( هاأنذا أركض وأركض ولا ألتفت وأعرف أنه سيظل يراقبني حتى أختفي رغم أننا في برية مقفرة ولكن ما أطول هذه الطريق نحو الحدود التي قال إنه على مسافة أمتار فمتى سأصل إلى النبع؟ متى متى يا ألله؟ ) ثم على لسان بليغ ذاته ( يا إلهي يا إلهي... معقول ؟ أركض كل هذا الركض هارباً من جنون لأجد نفسي في مصيدة جنون آخر ؟ ) وأيضاً( أنا مطارد وسأبقى مطارداً فما الفائدة؟) .
المكان الأكثر ملاءمة لتوصيف حالة الجنون هو بيروت، بيروت الحرب، وتعميم مناخات الحرب، وإسقاطها على مساحات الذاكرة والتذكر، لإنتاج ذاكرة المأساة، التي ستسم الروح،( أوه بيروت بيروت دائماً بيروت مسيرة ما لا أستطيع حسابه من الكمائن والألغام والأعلام والأناشيد والخيبات والأخوات المعطوبة والشعارات والمؤتمرات والمذابح والمدائح والأوسمة والخطب والأكاذيب والآباء يا لطيف كم صارت بعيدة هذه البيروت ) ثم ( لقد فتحت جبهتي الخاصة كي أسدد حساب الثأر في روحي المحترقة بهيجان الخيبة وأنا أرى جميلة تسقط كانت ممسكة قلبها بيد وبطنها بيد وهي تتلوى من الألم المرعب...) وقرار الدخول في حمأة الحرب ليس خاضعاً لحسابات العقل ولا حتى المصالح ، فالمزاج له دوره في هذا العالم غير المعقول ( لكن قلبي ظل يغلي في أعماقه مكابراً ببلاهة حتى أنني رغم تهشم بارودتي التي لم تعد صالحة لشيء قررت أن أبقي جبهتي مفتوحة، وصار همي كله ينحصر في أن أجد لها نشيداً أي نشيد كان ، لكن المشكلة التي ظلت تؤرقني منذ أن صرت معروفاً هي مشكلة من صار في إمكاني أن أختارهم كخصوم؟...) ثم ( غريب يرقصون هناك رغم أنهم بين أكوام من الجنائز)
بيروت هي الكذبة التي يريد الكل تأسيسها على إيقاع لعبته وتلاعبه، مما يشعر بالانمحاق، وأن الخلاص بعيد، وأن كل عرس لقيامتنا مستحيل، مما يبرر الهلوسة... الهلوسة التي تستحضر الكاتب كضمير لا يستطيع الابتعاد عن الموكب، وعبر الصور ، ومماحكة الذاكرة التي قد لا يستطيع - وربما لا يريد – التحكم بتداعياتها ، وانتخابها ، والتركيز على علاقة الصورة بالمعنى...فشهرزاد هي الورقة الصورية –ورقة الضد – التي يسخر بها من طقوس الوضع، ويخاطب بها العقل البدئي، وبها يراهن على صمود الروح ( ورأيت شهرزاد تنسحب وقد أدركها الصباح الشهرياري الدامي أو أوشك )...أما أسباب صعوبة القيامة فكثيرة ومتنوعة ، أهمها حالة الخصاء التي ربما تنتج المصادفات ، لكنها لا تعد بأي شيء من ناحيتها ، مما يسمح بتعميم الحالة كأصل وليس استثناء، وتؤكد أن عقم الرجال أساسه عقم الرجولة ( أنا رجل فعلاً أم لا ؟) وأيضاً ( ربما صرنا أولاد ميتم كبير بعد أن تم تجريدنا من هذه الذكورة الملعونة...) ،ثم( فأنت حين لا يكون لجبهتك خصوم محددون يقودك البين بين إلى أن تصبح أشبه بجربوع مخصي تجره مجارير الآخرين إلى حيث لا يعلم ) حالة الخصاء هذه تبقي وللأسف على الحياة بحدودها الدنيا، فالعقم محلاً وموضوعاً موجود على كل حال، وهو وجود حال وآني ، ولما كان التسليم بالأمر مسألة تتعلق بالوجود والعدم، فليس هناك أنسب من البرزخ مقاماً للروح والعقل ، البرزخ الذي ينتصب علامة الكمون، وهو أقصى ما يمكن إدراكه في ظل رحمة الخالق.( رفضوا أن يتقبلوا شرف خصومتي لهم وبذلك وضعوني مجبراً في الحياد في منطقة ذاك البين بين الملعون والذي لا تعرف فيه إلا الحيرة حتى أنك لا تعود أكثر من غريب عن نفسك )
تنسحب هذه الحالة على مظاهر الانفصام والانفصال... والتأثر والتأثير، لدى أشخاص الرواية ، فالحب والحرب يأتيان بقرار ( أما لماذا خطر لي أن أفتح جبهة عشق كي أسكت جبهات الحرب حين دخلت فتلك معضلة...) ثم ( وحين لا تعرف ضد من عليك أن توجه جبهتك، فإن غضبك لا يمكن له أن يصل مهما تفجر إلى أبعد من رأس منخارك، إذا ما كنت تعوم داخل هذه البحار من التفاهة الخالصة ....واخترت اعتبار رصاصاته جزءاً من مساعدة شقيقة على التحرير ، أما تحرير أي شيء والتحرير من أي شيء فالله وحده يعلم...) . وأيضاً ( أعط أي شقندحي من هذا الشرق الغريب رشاشاً أو حتى مقلاعاً وزوده بخمسة مصفقين وملقن ماكر ثم انظر ما يحدث الأرض كلها لا تعود تتسع لأمجاده )
النساء المعشوقات يحبهن على التوالي، ويتعرف إليهن الواحدة تلو الأخرى...وجميعهن دفعة واحدة أحياناً عبر لعبة الأسماء وتعددها وتوحدها – روز وزهرة – نوح الأول والثاني – بليغ الأول والثاني- في مقاربة ميثولوجية تؤكد حضور الأسطورة في وعيه كرمز للانتماء ، ويعيد فكرة الماهية المشتركة لجميع أشكال الحب التي عاشها بشكل متتابع،( وشربت حسبما أمرت يا بليغ شربت وأنا أرى صوراً أخرى جديدة قديمة من حياة كانت وربما تكون أو ستكون لكنني كنت أضعتها ذات موت طفولة وانبعثت حية نابضة بما هو في غاية البساطة لكنه مع ذلك عصي على الفهم فالصور ذاتها مضطربة تترك إحساساً غامضاً في الروح ولا تعلن لها عن شيء محدد ومع الخمر استسلمت لأبصر ما الذي يريده هذا الرأس المحترق قدام الحضور البهي لتلك المرأة الحزينة التي تبدت مثل زهرة في خرائب مدينة ضربها زلزال )... ولن يكتشف أخيراً في جميع وجوه النساء هذه، إلا وجهاً واحداً ، هو الذي يحبه...تماماً كما في جميع وجوه الرجال أنفسهم، وذلك من خلال العناصر ممكنة الوجود في نفسه كما في نفس الآخرين ، فأحرى به أن يستحضر من ذاته – مع التحفظ على عطبها – مادة الحب الأساسية ليكون أكثر صدقاً وواقعية ، ويبتعد على الأقل عن مشقة مجابهة الشعور بالخيانة، لاستحالة وقوعها كفعل سلبي بسبب غياب أحد أهم أركان القصد، ويبقى محذور تعدد الوجود الواقعي فعلاً ، الذي يحيل إلى اللا إرادة، أو اللاشعور، لإعطاء نتيجة مغايرة، وهو ما يمكن أن يحدث بدون قصد، لكنه وللأسف موجود أو محتمل، وكأن الكاتب يسلم بلا معقولية العقل باعتباره خالق أدوات الإدراك، حتى تلك التي لا تنسجم مع العقل، أو لا توصل إلى نتيجة ، فلا يكفي تفسير التماثل والترادف، وتعدد الأسماء ، وبالتالي تعدد الهويات ، أو نفيها ،( قد يأتي يوم تعرف فيه أن زهرة ليست إلا حلماً وأنك قضيت الليل منفرداً بروحك) ثم (من دهور كانت بيروت مهزومة ولولا ذلك لما وصلوا إليها أما زهرة فهي مجدلية من طراز هذا الزمان لكن أحداً لم يؤلف لها أسطورتها بعد).
الموت نفسه لم يعد ذو أهمية ، طالما أن الانسان لا يجب أن ينتظر ليرى رأسه تتدحرج ليتيقن من موته، فهناك الموت الحكمي... المفترض، النازل منزلة الموت الحقيقي، والموت الفانتازي ، الحاصل بعد خسران اليقين بعناصر الحياة والأشياء، والحياة نفسها لا يهمه من أين تصدر، ولا من أين تستمد قيمتها، طالما أن الحضور الروحي تتحكم به علاقات لا تخضع لمقاييس الكون والتاريخ، فتتحول وتتداخل الأرواح والأشباح، ويمكن التعرف إليها كأشياء مجردة من القيمة، ومن هنا يمكن فهم شخصية بليغ...ضمير الرواية ، والقبول بما أسبغه عليه الكاتب من إمكانيات ، ربما كانت صدى لحضور الكاتب نفسه، الذي لا يتحرج من الحضور عند اللزوم وفي الأمكنة التي تتطلب وجوده، والحضور الحكمي أو الفانتازي ، يفسر ويبرر الوقائع، فيرقى بليغ إلى مستوى الفيلسوف أحياناً، وقد يستجدي النصح والمشورة من طريف ، الشخصية التي تمثل الظل والشعاع في آن ، ويماهي حركة روحه، وينكفئ بليغ عندما تغيب الفانتازيا ، ويرجع إلى ذاته عبر رجوع الكاتب إلى تهدئة اندفاع الرمز، فيخرج من السديم لفترة يتعرف فيها على نفسه تحت ضوء الشمس، وعلى بيته وأمه... وأخيه الدودة ، في مقاربة عيانية يرجع فيها إلى روحه، ويدرك من خلالها انمحاقه الأكيد، واستحالة وجوده ضمن هذا التشوه الحاصل، فيعود به الحلم، ويعود بالحلم الذي يمازج اليقظة إلى بيروت، ولا يتحرج الكاتب من استجداء الفانتازيا مجدداً ، بل يضطر للجوء إليها وتعميقها ، كمعادل تقني، للإحاطة بالمكان... وتفسير العودة بدلاً من عدمها ، ولتفسير وضع بليغ وتحولات شخصيته ونوازعها، التي تشكل النسق العام لتحولات الحدث الروائي وسيرورته، ثم يخرج منها طائعاً ليخاطب ذاته الواقعية الحيوية ...ذات الإمكانات الكبيرة ...كخال أصيل ينتمي إلى ذات الأصالة التي ينتسب إليها بليغ الثاني...الشاعر المبشر بالأعراس، ويضمّن الكاتب النص قصيدة ، يشكل ورودها إشارة توحي بحضور المنشئ، في حركة جريئة ومستحدثة، تحيل إلى التوثيق، قد تكون مستمدة من أدوات المسرح، الذي يكون التواصل الحي والمباشر والتوثيقي فيه جزءاً من طبيعته ، وكأنه يردد...كم قد قتلت وكم قد مت عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن .
وإذا كانت المصادفات أو الحتميات -لا فرق- ، هي التي قادت بليغاً إلى بيروت، وكان مناخ الجنون والتشوه- كما اكتشف - وراء كل مجريات الأحداث التي تعصف بهذا المكان، فإن هذا المناخ ذاته ، سيسحب بالضرورة نتائجه على الأمكنة الأخرى المختلفة التي تنتمي إليها ذات الشرائح الاجتماعية والطبقية، وإذا كان في مكان كبيروت قد أنتج حرباً أهلية عبثية مجنونة، فإنه يمكن أن ينتج ظواهر أخرى-تصدر عن ذات السيماء الجنونية- لكنها مختلفة بالشكل أو المستوى في القرية، التي عاد إليها بليغ مختاراً، ليكتشف أن لا كبير فرق بين بيروت السائرة نحو الموت بالانتحار الطوعي، والذي قادتها إليه أسباب الجنون، وبين مكان آخر قصي، يصدر عن ذات المقدمات والأسباب والماهية، لكنه ينتج التشوه الصامت والتفسخ البطيء ربما، وعهده بها –وفقاً لذاكرته الأولية- بعيدة عن متناول وحش الجنون القادم ، ليكتشف أن الرياح المسمومة من القوة والعنف بحيث وصلت إلى أقاصي المساحات والجهات، و الاختلاف هنا فقط في طبيعة أدوات الصراع،المحددة لشكل الظاهرة أو طبيعتها، وتكون صدمة بليغ في أخيه والآخرين ، تماثل صدمته بأطراف الصراع الأخرى المختلفة في بيروت، والتي صدم بجنونها الذي لم يسلم منه أحد فيما يبدو، فيعود هذه المرة مختاراً، لأنه على الأقل، اكتشف في بيروت ذاته ربما، وأسهمت إقامته فيها في بناء ذاكرة جديدة لن يكون بمقدوره التخلي عنها مجدداً، ذاكرة تتعلق بحياته الجديدة، الفكرية والسياسية والعاطفية، التي عاشها إبان تواجده في بيروت المتحاربة، إنما التي تستطيع إرشاد الشخص إلى ذاته، أو تساعده في اكتشاف ذاته، وهو أمر يتعلق بطبيعة الحدث المعاش وضخامته وجديته من جهة، وللإمكانيات الأخرى التي تنتجها المدينة بطبيعتها، وربما كان الرهان الأخير على الطهارة التي تنتجها النار بعد الحريق.
الرواية تحفل-بحواراتها وخطها الدرامي على مستوى الحدث وتحولاته- بالكثير الكثير من المصادرات الجريئة... العقلية والفكرية والسياسية والدينية ،على السائد من السياقات إياها، وعلى ما يتم العمل عليه، من قبل أدوات الفساد والإفساد،وعلى مستويات الثقافة والسياسة والاجتماع...والعقل، من تأسيس لحالات تنذر بالقطع مع إحالات العقل باعتباره القيمة الأساس في معادلة الحياة، وبالطبع ليس هناك-وللأسف- من معيار غير الجنون، في غياب أدوات الكشف الحسي الأخرى لتمييز العقل ذاته، أي تقعيد وتعميم الاستثناء للولوج إلى القاعدة التي أصبحت لا تحيل إلا إلى الغربة، عالم العقل..المقصي والمهمش. لكنه-لحسن الحظ أو سوئه- الوسيلة الممكنة الوحيدة في عالم الغرائب والعجائب، لتمييز خطأ العالم وصوابه، فلماذا نعجب بعد كل هذا من فراديس الجنون؟ وهي المكان الذي يتسع ويؤوي شاربي ماء النهر، على ما تنبأ به جبران، وهم غالبية البشر الذين ينعمون في بيمارستانات عالم الجنون الوافد بصلفه وجبروته، والهازئ من عالم الوعي، ومنطق الحياة والبشر، في سيرورة تحولات وقحة، لا تقيم وزناً لإنسانية الانسان وعقله، وهل يبقى لنا سوى الأمل الذي يبدو أننا محكومون به فعلاً؟ الأمل الحلم الذي يستدعي القليل من عناصر الإنسانية المتبقية في هذا العالم، وعليها الرهان لوحدها في تحقيق الحلم ، أو مقاربته. والمعادلة في غاية الصعوبة، فإما أن نشرب كلنا من نهر الجنون، أو أن يثوب العالم إلى رشده، الأمل بالحلم هو مادة تمسكنا بالحياة، فهل تنهزم الحياة وتتراجع مسيرة الإنسانية؟ أو تواصل مسيرتها المتعثرة لاستكمال بناء عالم الإنسان كما تقتضيه إنسانيته وثقافته وحضارته؟ .
وإذا كانت الرواية تبتدئ العلاقة مع المتلقي ببيان مباشر ، يشكل استهلالاً ومدخلاً، يتيح فهم المنهجية الأسلوبية، ويقدم مفاتيح أولية للدخول في متن النص، فإن هذا الاستهلال يصبح جزءاً لا يتجزأ من النص، ويبنى عليه ما بعده، وتصبح العناوين الفرعية التالية مدخلاً لفهم التنويعات على مستوى التشكيل الخارجي، لكنها تتعلق بالداخل، من حيث أن هذه العناوين تبدو مدروسة على مستوى الإيحاء، وعنوان (بليغ ينزلق على قشرة موز)، يوحي بضمير الغائب، بينما نجد أن بليغ نفسه هو المتكلم، ويقدم رؤيته في هذه المسألة (بليغ الحمود ؟ يا إلهي كم يثير قرفي هذا الاسم .....وها أنذا أتأمل فيه كما لو أنه ليس اسمي....قال بليغ الحمود قال )...ويكرر الكاتب الطريقة ذاتها في الفصل التالي ( بليغ في لعبة المطاردة ) ليؤكد بقاء النص تحت نظره، لا خوفاً من انفلاته، بل ربما لاستمرار لعبة التواصل مع المتلقي، وتذكيره بأن الأمر لا يعدو كونه حكاية، بتقديمه للراوي بنفسه،ثم يتركه يتوجه بالخطاب على طريقته، وبلسانه، وتأتي العناوين ( زواريب إمبراطورية الظلال) و(احتفال في شبكة مثقوبة) ثم ( بليغ يبيع الشيطان) ليبين رأي الكاتب بما يحدث، لا كشاهد فقط، بل كصاحب موقف، وليؤكد انفصال النص عن منشئه، وبقاءه على الحياد فيما يتعلق بالسيرورة الروائية،فهو يوصّف فقط، وقد يعطي رأيه من الخارج، ساخراً أو ممتعضا،أو مستنكراً ، وحتى عناوين ( نفق للدخول إلى متاهة القاتل والمقتول).. و( الفصول والغايات في إعمار العواصم بالقبضايات ) و(أقصر المسالك بين حطام الشرف الهالك)...فإنها تحيل إلى تبعيض الوتيرة الحكائية، وتقديم الفصل بطريقته-أي الكاتب- ويحمل العنوان أيضاً إحالة تراثية في ما يتعلق بالسجع، على طريقة واضعي السير في العصور السابقة، أما عنوان (طوق الحمامة ) الذي يستعيره من عنوان كتاب تراثي له وجود فعلي، فالغاية منه على الأرجح ، تقديم روح ذلك الكتاب المشهور، بالتماهي مع مجريات الحدث الروائي، وربما البعد الدرامي للعشق في ماهيته، وفي الرواية، وليبين فهمه الخاص للتراث بإسقاط العناوين ذاتها على المستجد من الحوادث الحكائية، ويندرج عنوان ( سورة العنكبوت) في ذات الإطار من الفهم ( أن يختطف زمنك منك أو أن يسرق بعضه وأنت ترى وتعجز عن أن تفعل شيئاً فهذا أمر مغيظ إن لم يكن أمراً مذلاً ومع ذلك فأنا الذي مررت في مثل تلك التجربة تقبلتها أخيراً راضياً أو مكرهاً، لكن أن يدخلوك في لعبة تذكر لماضيك الذي لا تتمنى شيئاً قدر ما تتمنى أن تنجح في استمرار الهرب منه...فهذا استخفاف مهين بكرامة الحياة الإنسانية كلها مهما تكن تبريرات ذلك الاستخفاف...) ويأتي عنوان ( الزوابع والتوابع في بدء استراحة اليوم السابع) ليعلن من جانبه –أي الكاتب- أن المسائل المشكو منها أساساً ، منذ اليوم الأول لخلق الحكاية، حكاية التاريخ على طريقته، أو حكاية الخلق، وهي على كل حال من التاريخ، مستمرة، ولن تنتهي في اليوم السابع ، يوم الانتهاء من خلق الكون، ويوم راحة الخالق، فهنا ... ستستمر الزوابع والعواصف، كما في الأيام التي ستأتي، ولن ننعم بالراحة على طريقة الإله، أو من كتب ذلك عنه على مسؤوليته، أما عنوان ( رسالة الغفران)...المأخوذ بصيغته من التاريخ الأدبي والفكري، فهو تقديم ساخر، لكن ممن ؟ إنه من النفس، فهل هناك أبلغ من طلب الغفران لتاريخ صنعناه بأيدينا؟، وطلب الغفران في حد ذاته، هو إعلان صريح عن العجز، واعتراف بالخطايا، وأيضاً بعدم القدرة على استمرار تحملها، لعل المغفرة تخفف شيئاً من ثقل الأوزار، وربما كان يحمل الاحتمال المقابل، وهو مشروعية...أو ضرورة المساجلة في طبيعة عملية التصفية والحساب الأخير، وهل من المؤكد نزول العقاب بمستحقه في وقت من الأوقات؟، أو وصول الثواب إلى مستأهله؟ وحتى طريقة تناول الحسنات والسيئات في الموازين والمكاييل، وأشكال العقاب والثواب...كما تمت الإشارة إليها في رسالة المعري الخالدة، والتي يحيل إليها الكاتب بالقطع، ثم ينهي الكاتب فصوله بعنونة الفصل الأخير ب (بقايا من سيماء الجنون)...ليقرر أن الجنون لم تنته فصوله، وإن مجمل التحولات الدرامية في النص ،لم يكن لها أن تنتهي بحالة مختلفة عما بدأت به، وأن الحكاية ليس من شأنها أن توصل القارئ، أو حتى الكاتب، إلى ما يرغب به، فهذا هو الواقع، ولا نستطيع من جهتنا التدخل لتغيير الصيرورة، من حيث هي نتائج لمقدمات ربما .
فردوس الجنون للروائي الأستاذ أحمد يوسف داؤود ، علامة متميزة في مسيرته الإبداعية ، خصوصاً على مستوى التكنيك الذي أسس له في ما سبق من أعمال روائية ، واستكمل بناءه في هذه الرواية ، فابتعد عن السرد الملازم لإيقاع الزمن، واعتمد التقطيع، والانتقال من الراهن المضارع ، إلى الزمن المفترض أو المضمر، في حركة توحي بعدم التحديد ، وتشي بتقلقل الحياة، وعدم يقينيتها، وتبرر قراءة الداخل بواسطة الخارج، بدلاً من العكس، بافتراض الحلول في الذوات المختلفة ، وتقويل الشخصيات ما يجول في فكره هو بأسلوب مزج السرد بالمونولوج، مع الاعتماد على الضمير المنفصل عنه، والمشتق من الأنا الداخلية للذوات، فلا ينكرها ولا يؤكدها، ويكتفي بمساواتها مع الضمائر المخاطبة، مما يحيل إلى الحيادية التي تشي بمصداقية المقول المفترض... لا الحدث بحد ذاته، بل كإمكانية حدوث، في محاولة لتعميم الرؤية الجمعية ( أنا الذي أتفرج عليّ من فوق ) وأيضاً ( ضحك أنا الذي يمشي ) و ( رأى أنا المقيد المتفرج ) ...فهل هناك أكثر حيادية في تناول الأنا ؟ إنها حالة من حالات التشخصن التام، لأن استقراء الجنون ، هو بحد ذاته عقلانية تحيل إلى الواقع، وإن كان تعميم حالة الجنون يوحي بالسلب، إلا أنه يفيد الإيجاب من حيث الإحالة، وهو وإن كان يحمل على الاعتقاد بعدمية الواقع أو عبثيته، إلا أنه يعمق الشعور بأهمية الواقع المعقلن الذي يستمد منه الفكر عقلانيته.
فردوس الجنون، هي في الواقع أكثر من رواية، ولعلها الشكل الذي يمثل إرهاصاً بمستويات فنية وإبداعية مستقبلية، أسس لها الكاتب على مستوى الشكل والموضوع...الداخل والخارج، وروايتنا هي اختزال للعالم في فكر كاتبها، وموقف منه أيضاً، ويتضايف كل من التاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم النفس واللغة واللاهوت... بالإضافة لحضور السياسي والاجتماعي والثقافي بشكل لافت ، في تشكيل جديد ومستحدث، والكاتب إذ يقدم كل ذلك في عمله ، فإنما يقدم نفسه...أو بعضاً منها. وربما كانت هذه هي فلسفة الكاتب الحياتية التي يريد منا التعرف إليها، أو ما يريد الكاتب أن يوصله، وبهذا تظهر الرواية كخط دفاع عن الوجود ...وجود الكاتب في نفسه وفي الآخرين الذين يحيا بهم ومعهم .

اللوحة من أعمال : غيث العبد لله


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

قراءة نقدية في رواية فردوس الجنون لأحمد يوسف داود

01-تموز-2006

شعر / قصائد حزينة

03-حزيران-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow