الجمال الصامت في شعر رياض الصالح الحسين
هاشم شفيق
خاص ألف
2016-03-19
دائماً هناك مسالك وطرائق ومنافذ في الحديث عن شعرية رياض الصالح الحسين، ذلك الشاعر الذي مرّ كشهاب خاطف في عالم الشعر السوري، وبمروره أضاء مناطق معتمة لم يسبق لأحد أن مرّ بها، وجال بنوره وبريقه في تلك المناطق الغامضة. ربما الشاعر المجدّد محمد الماغوط، كان قد مرّ عليها، ولكنه مرّ على السبل العامة ليترك فيها أثره اللامع والجديد ولم ينفذ للزوايا والعطفات والدهاليز المظلمة والمتاهات الموحشة في مساحة الأرض السورية، فجاء رياض بكامل عدته الشعرية والفنية والجمالية ليقتحم تلك العوالم المبهمة والطرق الملتوية والصعبة، ليكشف خريطة سوريا كاملاً، ملقياً من خلال موهبته الشعرية النادرة مسحات واسعة من الظلال والمعاني والموحيات الفنية على تلك الأقانيم التي قطعها وسار فيها شعر رياض الصالح الحسين.
حديثي هذا يأتي بمناسبة صدور أعماله الشعرية في مجلد واحد، أنيق وخفيف وشفاف كشعره. فعبر هذه المجموعات الخمس التي ضمّتها الأعمال الشعرية، يستطيع قارئ شعر رياض ان يلمّ بكامل عالمه الفني والدرامي. أجل في شعر رياض الكثير من الدراما والهارمونيطيقا والتآلف والانسجام بين ما يقوله من جوانيّات ورموز ولواعج، وبين المكتوب عنه إن كان كائناً حسياً أو جماداً أو رؤى فنية، إنْ كان وطناً أو امرأة، عصفوراً، أو كرسيّاً في مقهى، أو حجراً في الطريق، أو سحابة عابرة في السماء.
قاموس رياض الشعري كبير كبر قلبه وروحه الوسيعة التي راحت تتجوّل في كل التفاصيل والمشاهد والملموسات السورية، ذلك أن شعر رياض هو شعر ملموسيات، شعر حواس ودفء إنساني، فهو يأسى حتى لمرآى النمل في سيرته اليومية، أحياناً يتناسى حاله أو ينسى نفسه كي ينأى بها لدرجة الإهمال، من أجل التحدث عن سوريا وناسها، سوريا ومصائبها ومحنها، عن سوريا وجمالها ووداعتها وجمال طبيعتها. فشعر رياض في هذه الأعمال الخمسة هو شعر جامع للأضداد وقادر على حمل المأساة في يد والملهاة في يد أخرى، إنه شعر تفصيلي يتداخل في المُعقَّد، يومي قادر على الذهاب في التجريدي، واقعي يوحي بالفنطازيا والسوريالية، يوتوبي وله قدرة على السكن في حارة دمشقية عتيقة، كما كان سكنه في غرفة رطبة ومهملة في منطقة الديوانية في دمشق، قرب العدوي. كانت تلك الغرفة خشبية إلى حد ما، لا تتوفر فيها وسائل الراحة والمنافع الصحية، باردة شتاء، حارة وساخنة كفرن صيفاً، لكن رياض كانت له المقدرة على التعايش مع الحياة والأحداث، وله مقدرة بيّنة على صداقة المصائب والنوائب ومن ثم محاولة اللعب معها من أجل التغلب عليها وتخطيها، وبلورة موقف جديد منها. كل ذلك كان يأتي بفضل فطنته ومحبّته للحياة وللكائنات المرهفة والرقيقة، فشعره شعر رقة ورهافة وأناقة في التعبير وزوايا التناول، ورقة في رسم اليومي عبر صور صادمة وأليمة، لم يكن شعره شعر مفارقات وألعاب صورية، تقترب من حالات المهرّج، بل كان مسكوناً بالدمار واللوعة والبأس، شعر صعلوك ثائر على التقاليد والأعراف والمباذل الواقعية، ثائر على الراهن والسياسي المتداول في الحياة اليومية لصالح فئة معينة وشريحة واحدة وحزب واحد.
كان رياض مثل صوفي ثوري، مثل شيوعي بدائي، مثل هدّام داع للبناء والتغيير، مثل أسطورة يومية يتداخل فيها الواقعي بالميثيولوجي، وما ديوانه الثاني «أساطير يومية» إلا شهادة ماثلة على هذه الحبكة التي تَمثَّلها رياض في شعره، شعر»الديو» وليس «المونودي»، إنه الشعر ذو الثنائية الجامعة بين النار والماءـ بين الرماد واللهب، بين البريق الساطع والظلام التام، شعر اتحاد وتزاوج والتحام وهارموني، متناغم مع الآخر، مع الغَيْريّة والفناء في سبيل إنارة مصير الثاني، ذلك الكائن الآخر غيره، سواء كان حبيبة أو وردة، طلقة أو حصاة، فكلاهما متلازمان في شعر رياض الصالح الحسين.
من أجواء ديوان «أساطير يومية « نختار ما هو موح ودال على ثنائية الجمع الجمالي بين عالمين متناقضين وبعيدَيْن كلّ البعد عن حالة الانصهار والتنافذ:
«بعد مسائين من مطر وإجاص أرى
تحت قبعة الجنرال قرىً مصمصتْ عظم أطفالها
ويدين تقطعتا
وأرى تحت قبعة الجنرال
دماً ساطعاً…..
وأرى مشروع حرب على الزهر
مشروع حرب على النهر
مشروع حرب على الفقراء».
كتب رياض هذه الأبيات في مطلع الثمانينيات، متنبِّئاً بما سيجيء، فهناك الكثير من الصور والمقاطع والرؤى التنبؤية التي تكهّن بها رياض سادت الآن لتكون حقيقة وواقعاً مرّاً وجريحاً.
وليس عبثا أن يسمي رياض الصالح الحسين ديوانه الأول «خراب الدورة الدموية» وهو هنا يمزج خراب حياته وخراب البلاد أيضاً، في تصاهر وتضافر موحيين وآسرين، وفي صِيَغ تعبيرية لافتة، لشاب لم يتخط حينها الخامسة والعشرين:
«تنبئني امرأة كبريتية
فمها وكر للخفافيش والأسلاك الشائكة،
زمنك المتقدم على قدمين من زجاج
سينكسر قبل أن يصلك/
تنبئني امرأة طائشة،
زمنك المنكسر يأتي اليك بلا أيام
محملاً بالتوابيت وبطاقات التعزية».
صادقاً كان رياض في كل شيء، في حماسته الشعرية، في تنبؤاته اليومية، في رسم صورة لرحيله القادم، وفي خراب دورته الدموية وخراب البلاد، كلّها قدّمها في صورة استيهامية حالمة بما سيقع مستقبلاً.
كان أقصى طموح لرياض الصالح الحسين هو أن يعيش فترة زمنية أطول مما أخبره الطبيب به بأنه سيرحل عن الحياة في وقت مبكر، وهو شاب وفي ريعان فتوته. كان يحلم بالزواج من صديقته العراقية التي خطبها، وقال لي مرة وهو بصحبتها في مقهى»مرحباً» في»ساحة عرنوس» بأنه سوف ينجب طفلاً وسيماً يشبهه، يعلمه الرسم والموسيقى ويبعده عن الشعر الذي يُحطم ويقوِّض ولا يُطعم، مكتفيا بتورّطه هو به. هكذا كان يقول في أيامه الأخيرة، وكان يحلم بغرفة وقد حصل عليها كما أشرت أعلاه، وهي الغرفة ذاتها التي نقله منها إلى المستشفى الشاعر العراقي الفقيد أيضاً مهدي محمد علي، وكاتب هذه السطور، وقد نوّه بذلك الشاعر منذر مصري في تقديمه لهذه الأعمال الشعرية، التي أعدها للنشر ابن أخته عماد النجار. كان لرياض عمل دائم وثابت في صحيفة «تشرين» وقد نشط فيه إلى درجة قصوى، ولكن همّه الأول والأخير كان الشعر، كان يعرف هو أين يقف ويعرف قيمة ما يكتب هو وأصدقاؤه القليلون من العرب والسوريين. ومن أجواء ديوان «بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس» نختار مما كان يحلم: «منذ أن ولدت بلا وطن / ومنذ أنْ أصبح الوطن قبراً / ومنذ أنْ أصبح القبر كتاباً / ومنذ أن أصبح الكتاب معتقلاً / ومنذ أن أصبح المعتقل حلماً، ومنذ أن أصبح الحلم وطناً، بحثت عن غرفة صغيرة وضيّقة / أستطيع فيها التنفس بحريّة».
رياض الصالح الحسين لم يكن يوماً ملتزماً بحزب ما، أو مجموعة أدبية، ولم ينضو كفرد في اتحاد أدبي، بل ظل حراً، وملتزماً بالشعر كقضية أولى، كونه الأقرب إلى الناس الحالمين بعالم عادل، تسوده المساواة والعدالة والحرية. كان يحلم بالثورات مثل أي شاعر ملتزم بقضايا الحريات وهموم الناس أنّى كانوا، حتى لو كانوا في نيكاراغوا كما وضّح ذلك شعرياً في إحدى قصائده التي سُمّيت بهذا العنوان «نيكاراغوا…. نيكاراغوا» من ديوان «أساطير يومية» فكيف في بلده سوريا الذي خطّ له هذه السطور التنبؤية، وكانت الأخيرة التي كتبها في ديوانه الذي أطلعت عليه قبل طباعته في مستشفى»المواساة» الذي رقد فيه قبل رحيله. والديوان كان تحت اسم «وعل في الغابة»، والمقطع الأخير في الديوان جاء هكذا «لقد اعتدتُ أن أعدّ القهوة كلّ صباح لإثنين /أن أضع وردة حمراء في كأس ماء /أنْ أفتح النوافذ للريح والمطر والشمس /لقد أعتدتُ أنْ أنتظرك أيتها الثورة».
اشراف عماد نجار:»الأعمال الكاملة رياض الصالح»
منشورات المتوسط ـ إيطاليا ـ 2016
308 صفحة