في مديح قلم الرصاص
خاص ألف
2018-04-28
لا شك في أنّي عاشقة للقلم الحر والحار على سبيل التحديد. في يومياتي، قليلة هي المرّات التي لم ينوجد فيها قلم في حقيبتي، حتى لو لم أكن في حاجته على جناح السرعة، كأن أخرج إلى دكان قريب قبل العودة سريعاً. أحبُّه أن يرافقني دائماً، يكفيني إحساسي بأنه معي لكي أشعر بالكثير من الأمان، الدفء، الحنو، والتناغم وأرواح كتّاب هائلين غابرين وقريبين، ومن ثم، بالكثير من السمو الأخلاقي والرفعة الروحية. يمكنني القول أيضاً إني أفرح فرحاً ماكراً، إذا ما طلب منّي أحدهم استعارة قلم، كتاب، دفتر، ورقة أو أي عنصر آخر ينتمي إلى هذه العائلة الكريمة، وغالباً ما أهبُ هذه "الأشياء" غير راغبة في استعادتها، بل راغبة في شيوع روحها في الأيادي وفي العقول والقلوب.
قبل مدة، وجدتُني وغيري، أمام أوراق تحوي أسئلة من شأنها التعرّف إلى آرائنا حيال مكانٍ ننوجد فيه منذ أشهر. كان علينا أن نتنقل بين الإجابات الآتية: "جيد جداً. جيد. مُرضٍ. لا بأس به. ضعيف. غير مُرضٍ. غير مقبول". بعدما سلّمتُ ورقتي، انتبهتُ إلى أني قد أجبت بقلم رصاص، إذ كان موجوداً في يدي قبل استلام الورقة، فسهوتُ وبدأت في الإجابة مستعمِلةً القلم نفسه إلى أن انتهيت وسلَّمت الورقة. آنئذ، نقرت بأصابع يدي على جبيني مؤنِّبةً، لكن فيما بعدُ، فكرتُ في كم كان ذاك السهو مهماً(يبدو أن معظم الأشياء المهمة، هي تلك التي تحدث في أثناء سهوٍ ما)، إذ مَن ذا الذي يمكنه الجزم مثلاً بأن الضعيف لا يمكنه أن يصير جيداً في وقت ما، في مكان ما؟! ومَن قال إن ما هو مُرضٍ يبقى دائماً كذلك، ولا يتحول إلى نقيضه في لحظةٍ عاصفة؟!
مع قلم الرصاص، يمكن للأشياء أن تبدأ من جديد، فهو كمِثل تلميذِ حياةٍ دائم، ضد الحياة المكرَّرة، وهو خطوة مكلَّلة بالخصوبة في اتجاه الينبوع، مزيته أنه لا ينفكّ يعدّل ممّا خطَّه بوصفه – أولاً- صديقاً للممحاة، قادراً على استيعاب منبثقٍ لا يهدأ. إنه مثالٌ لقيمٍ من مثلِ المراجعة، إعادة النظر، الوقفة، التأمل، وفي هذا كله وغيره، ثمة تحريض على تفكيرٍ بنلوبي، على تواضع متألق، وعلى إعلانٍ بأن الإحاطة بكل شيء، غير ممكنة.
بيدَ أن حواراً وثيقاً منعقداً فيما بين قلم الرصاص وقلم الحبر، يتعذَّر معه الاستغناء عن أيٍّ منهما، لا ينفكّ يُنشىء العقل عبر تجربة مرهفة تحرِّره من الأوهام أولاً بأول، ما يعني عدم الاكتفاء بقيم قلم الرصاص فحسب. فحيث أن ثمة حكمة ربما تتوارى من خلف صنعِ قلمِ رصاصٍ جذره ممحاة قد تمحي التشبّث واليقين الأعمى، كمَن يستعيد نفسه من أعماق الماضي، محرراً إياها عبر امتلاءٍ فيْضيّ يُحدِث فراغاً، ويشدّ إلى "الهروب" في أشدّ معانيه جماليةً؛ فإن لقلم الحبر أحياناً، ولغيره من أقرانه الغابرة السحيقة والحديثة التي تمتشق مهمة الحماية من الاندثار؛ خاصية الالتزام بالعهود والمواثيق الجديرة بألا تُمحى، بل أن تبقى كبصمتَي زمان ومكان دامغتَيْن في السيولة والكثافة. هكذا، ينجلي ذاك التعاون الفلسفيّ الخلاّق فيما بين قلم الحبر وقلم الرصاص، وتنبلج جدلية السؤال والجواب دفعة واحدة.
ما يجعل من قلم الرصاص صديقاً حميماً للرسم أيضاً كمثل صداقته للروح، ربما تلك المادة الأساسية التي تهبه الوجود، أعني الجرافيت، أو الكربون المخلوط مع الطين، مغلَّفاً بالخشب. خشب الأرز غالباً، بعد معالجته بالشمع والرمال، فأي طبيعة أخّاذة هذه التي تفرز قلم الرصاص! طين، خشب، شمع، رمل. إنها خلطة سحرية من جمال طبيعة غنّاء!
يُحكى أن الكيميائي الفرنسي جاك نقولا كونتيه، هو مَن اخترع قلم الرصاص من تلك الخلطة السحرية، في يوم ما من عام1792. ربما ينبغي ها هنا توجيه شكر مجلَّل بروح قلم الرصاص لمخترعه. يُحكى أيضاً أن كلمةPencil الإنكليزية تعود إلى الأصل اللاتينيّ: penicillus وتعني "الأثر الصغير". ربما هذا هو إذاً معنى أن يكون القلم، قلمَ رصاص، خفيف الظل، رشيق الأثر، مكتنز المعنى ككونٍ ينحشر في كوخ صغير.
أما سلام الروح والعقل والوجدان الكونيّ هنا، فهو لروح مَن دوَّنَ أول نوتة موسيقية عرفتها البشرية في "رأس شمرا"، ولمخترعي الأبجدية الأُوَل حتى الآن، كتَبَة أبجدية "أوغاريت" بروح أقلامٍ نقشت إشاراتٍ مسماريّة فوق لوحٍ طينيّ مشويّ تفوح منه رائحة القمح والزيتون والكَرمة والخصب الإنساني الأرجوانيّ المرصَّع بالعاج وبالكهرمان واللازورد، في الساحل السوري، يوم عرفَ هذا الساحل في القرنين14-13ق.م، حضارة كبرى أسّها الكتابة والموسيقى. في الطين كما في التدوين يقبع سِرّ دفين.
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |