العالم كساحة معركة": هجرة الفن السوري اليوم وآفاق الاستمرارية في البلدان التي يتواجد فيها
جمانة الياسري
2017-01-06
أتت النسخة الأولى من هذا النص ضمن ورشة العمل التي نظمتها مؤسسة "اتجاهات، ثقافة مستقلة" في بيروت في الثامن من أيلول/سبتمبر ٢٠١٣ ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي في سوريا وفي ظل التحولات التاريخية الراهنة. دارت معظم محاور الورشة حول علاقة الفن والثقافة بالعمل الإغاثي والتنموي في وقتنا الحالي، كما تناولت واقع هجرة الفن السوري اليوم وآفاق استمراريته في البلدان التي يتواجد فيها. بعد مضي أكثر من عامين على هذا الرصد الأول للتحولات الجغرافية والجيوسياسية التي تطرأ على الفن السوري منذ عام ٢٠١١، وفي ظل مأساة اللاجئين التي تهز العالم منذ صيف ٢٠١٥ بشكل خاص، رأينا أنه من الضروري طرح تساؤلات جديدة حول واقع الفن السوري اليوم كعملية خلق وإبداع تجري بشكل رئيسي في الشتات، تتأثر بالعالم بالقدر نفسه الذي تأثر به.
منذ أكثر من أربعة أعوام، اضطر معظم الفنانين السوريين إلى مغادرة فضاءات عملهم ومراسمهم وشبكات العلاقات التي كانوا ينشطون من خلالها. في البداية، شكَّلت البلدان الإقليمية المجاورة (لبنان، الأردن، الخليج العربي، مصر، تركيا...)، وجهة الرحيل الأساسية لقربها الجغرافي والثقافي من سوريا. إلاَّ أنه سرعان ما تحولت بيروت وعمان والقاهرة وغيرها من المدن العربية، إلى محطات أولى اضطروا في أغلب الأحيان إلى تركها من جديد للحاق بالذين مضوا منذ خروجهم الأول من سوريا إلى أوروبا أو إلى أماكن أخرى من العالم. ومع الوقت، نشأت سلسلة كبيرة ومعقدة من التحديات النفسية والمهنية التي يعاني منها اللاجئ السوري عموماً: البعد الجغرافي عن سوريا وعما يجري فيها اليوم وما يتولَّد عنه من إحساس بالعجز أمام الكارثة، تغيير المحيط الاجتماعي والمهني، إجراءات إدارية صعبة وطويلة من أجل الحصول على إقامات وتراخيص عمل، مشكلة عائق اللغة واختلاف المرجعيات الثقافية في بعض الأحيان… والقائمة تطول وقد يكون على رأسها صدمة يقين عدم وجود تاريخ محدد للعودة، وضرورة التجذُّر في مكان جديد، منهم من وجد نفسه فيه بمحض الصدفة وبعد العديد من التنقلات. كما أن الحديث عن هجرة الفن السوري يفرض علينا أيضاً التفكير في تعددية وخصوصية وجهات الرحيل، إذ قد يتبادر إلى الذهن أن الصعوبات أكثر شدة في البلدان الأوروبية، والحقيقة أن توتر الأوضاع إقليمياً قد يجعل عملية التأقلم وإعادة الانخراط أكثر تعقيداً في البلدان العربية التي باتت تشدد إجراءات السفر والإقامة على السوريين، فعلى عكس الدول الغربية، لا يوجد في البلدان العربية قوانين خاصة وواضحة على صعيد اللجوء السياسي والإنساني، ولا تقدَّم أي استثناءات للعاملين في المجال الفني، وقد يكون حتى العكس هو الصحيح، وذلك مما قبل عام ٢٠١١ بكثير. كما أن هناك المئات من الحالات التي قوبلت فيها طلبات تأشيرات فنانين وفاعلين ثقافيين سوريين للمشاركة في أنشطة ثقافية وفنية عربية بالرفض، ونذكر هنا على سبيل المثال كيف تمَّ إلغاء كافة النشاطات السورية من الدورة الرابعة لمهرجان وسط البلد في القاهرة D-CAF (٢٠١٤) الذي تنظمه مؤسسة الشرق، لتعذُّر حصول تأشيرات دخول إلى الأراضي المصرية للفنانين السوريين المدعويين. أي أن الفنان السوري الذي استطاع بعد رحلة شاقة الحصول على لجوء في باريس أو برلين، أصبح محروماً من حرية التجوال داخل العالم العربي، وهو أمر يزيد من صعوبة الرحيل عن سوريا مما لا شك فيه، إذ يبدو لنا أن الفنان السوري ليس منفياً اليوم عن بلده الأم فحسب، بل عن العالم العربي بأثره.
لسنا هنا بصدد مناقشة أسباب الرحيل، ما يهمنا هو معرفة تأثير هذه الهجرة القسرية على طبيعة النتاج الفني من الناحية الجمالية والفكرية، إضافة إلى التحولات التي يجلبها على صعيد آليات الإنتاج والنشر، وكيفية تلقي هذه الأعمال على المستوى الدولي. ويبدو أن البلدان الأوروبية التي أعطت في الكثير من الأحيان أولوية لاستضافة الفنانين والمثقفين السوريين، كانت واعية للإشكاليات التي قد تنبع عن زيادة متوقعة في حالات الهجرة هرباً من تأزُّم الأوضاع في الشرق الأوسط، وذلك منذ وقت مبكر. نخص هنا بالذكر فرنسا، التي كانت سباقة في منح تأشيرات وإقامات لمجموعة من العاملين في الحقل الثقافي الذين كانوا مقربين أصلاً من الجالية الفرنسية في سوريا، إذ نظَّمت وزارة الثقافة والاتصالات الفرنسية بالتعاون مع وزارة الخارجية الفرنسية لقاءً في مطلع أيار ٢٠١١، أي بعد أشهر قليلة من بدء الثورات العربية، تناولت فيه أولويات العمل الثقافي في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط في ظل التحولات التاريخية الجارية، وكانت هجرة الفنانين والفاعلين الثقافيين العرب إلى أوروبا هرباً من الأنظمة القمعية ومن العنف المستفيض، على رأس المحاور التي ناقشها الحضور. أتت التساؤلات من منطلقات اقتصادية وإدارية بحتة في ظل أزمة اقتصادية عالمية كانت الميزانيات التي تُمنح عادةً للثقافة ضحيتها الأولى. إلا أن هجرة الفن السوري اليوم لا تؤدي إلى طرح إشكاليات على صعيد آليات الإنتاج الثقافي وحدها، فهي تثير أيضاً تسؤلات حول البعد الفكري والجمالي لهذه الممارسات: كموضوع مسؤولية الفنان، خطر حدوث قطيعة مع الداخل السوري، العلاقة الوطيدة وربما الإشكالية التي نشأت مؤخراً بين الفن والعمل الإغاثي، الحد الفاصل بين التوثيق والإبداع، أهمية إنتاج أعمال فنية ترتقي إلى مستوى الحدث التاريخي، ضرورة وضع هذا النتاج المعاصر ضمن سياق تاريخ الفن السوري الملتزم سياسياً الذي أُنتج قبل عام ٢٠١١، كيفية تعامل الساحة الفنية العالمية ووسائل الإعلام الغربية مع مجمل هذا النتاج… وغيرها من النقاط المهمة التي قد يستدعي تحليلها بدقة إلى الاستعانة بحقل العلوم الإنسانية وإجراء أبحاث نقدية عميقة وموسَّعة.
ناقشت ورشة العمل التي نظمتها "اتجاهات" عام ٢٠١٣، موضوع لامركزية الثقافة السورية منذ بدء الأحداث التي تشهدها البلاد، وكان المقصود به العلاقة بين العاصمة دمشق وبقية المناطق السورية. والواقع أنه بات بإمكاننا الحديث عن عولمة الفن السوري اليوم، بمعنى إنتاجه في الخارج وتفاعله مع محيطه الجديد عربياً كان أم غربياً. زد على ذلك الدور الحاسم الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي في نشر هذه الأعمال والتي تحولت مع الوقت إلى ناشر عام وصالات عرض افتراضية لنصوص وأعمال بصرية يتم إنتاجها في أماكن مختلفة من العالم، والأمثلة على ذلك باتت تُعد ولا تحصى: من حالات (ستاتوس) عبود سعيد التي نُشرت في كتاب بعنوان (أذكى رجل على فيسبوك)، صدر باللغة الألمانية، الانكليزية والاسبانية، إلى دمى"مصاصة متة" وأفلام "أبو نضارة"، مروراً برسومات سلافة حجازي التي تدين بشكل أساسي هيمنة الجماليات العسكرية التي خلَّفها نظام البعث والآثار النفسية لعقود من القمع، و"قبلة" غوستاف كليمنت التي وضعها تمام عزام على أحد جدران سوريا المهدمة في عمل حمل عنوان "غرافيتي الحرية"، يُعتبَر حتى الآن أكثر الأعمال السورية التي تمت مشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ناهيك عن عشرات - إن لم تكن مئات - الصفحات التي تحاكي المأساة السورية بأسلوب تهكمي أو توثق تاريخ سوريا المعاصر بأساليب إبداعية. وهنا نريد التنويه إلى مبادرة استثنائية تقوم بمهمة جبارة من أجل رصد كل ما يتم نشره على الشبكة العنكبوتية من أعمال فنية متعلقة بما يحدث في سوريا اليوم، وهو موقع الذاكرة الإبداعية للثورة السورية.
ينقسم الفنانون السوريون منذ اندلاع الأزمة إلى فئتين أساسيتين: من استطاع الاستمرار في عمله عبر أقنية نشر وترويج جديدة، أو حتى اعتماداً على شبكة علاقاته التي أسسها في سوريا، وذلك بشكل أساسي بفضل الدور الذي لعبته بعض المراكز الثقافية الأوروبية في دمشق والتي راحت منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي تدعم الساحة الثافية المستقلة بشكل أساس، مقدمةً بالتالي بديلاً للأجندة الثافية الرسمية التي تروِّج لها وزارة الثقافية السورية وغيرها من المؤسسات الحكومية المعنية بالشأن الثاقي؛ وآخرون، وهم كُثُر، باتوا يعيشون قطيعة حقيقية مع نشاطهم الفني. ليست تحديات العيش في مكان جديد وحدها التي دفعت العديد من الفنانين السوريين إلى الابتعاد عن نشاطهم الإبداعي، وإنما أيضاً إحساسهم بالمسؤولية أمام ما يحدث في سوريا منذ عام ٢٠١١. زد على ذلك الإحساس بالذنب بسبب الرحيل وتفرّغ الكثيرين منهم إلى الأنشطة الإغاثية وإلى التحوُّل إلى ناطقين باسم الشعب السوري يخاطبون الرأي العام في البلدان المستضيفة، إن كان عبر مختلف المنابر الإعلامية أو عبر مناظرات عامة يحضرها جمهور سوري وأجنبي، وإن بقي الحضور السوري والعربي هو الطاغي عموماً. هكذا عاد الفنان السوري إلى حلبة العمل السياسي وتحوَّل العالم إلى ساحة معركته، وإن بقي دوراً إشكالياً إلى حد ما على مستوى العلاقة مع الداخل وذلك بسبب وضع الفنان السوري الملتزم سياسياً في مجتمعه الأساس، حيث كان قد تمَّ عزله عن مختلف شرائح المجتمع لأكثر من أربعة عقود، هذا إن لم يتم نفيه من البلاد أو ملاحقته أمنياً، الأمر الذي أدى إلى الحد من قدرة الفن السوري على التأثير سياسياً وفكرياً على نطاق واسع لفترة طويلة من الزمن. إلاَّ أن هناك أمثلة عديدة أيضاً عن مبدعين سوريين استطاعوا المضي قدماً في الخارج عبر خلق أقنية تفاعل بين عملهم الإبداعي ومسؤوليتهم التاريخية، مستفيدين من إمكانيات ترويج جديدة واهتمام عالمي متزايد بالفن السوري والعربي عموماً منذ بدء مع أطلقت عليه تسمية "الربيع العربي". من بين هذه الأمثلة، يمكننا ذكر الروائية سمر يزبك التي لجئت إلى باريس في صيف ٢٠١١، حيث أكملت كتابة مذكراتها حول بداية الصراع في سورية ("تقاطع نيران"، ٢٠١٢)، بالتزامن مع الترجمة إلى الفرنسية التي سبقت الطبعة العربية لدى دار الآداب في العام نفسه. سمح نجاح هذه الشهادة النسوية عن المرحلة بتسليط الضوء إعلامياً على صاحبتها، ووضعها في الصفوف الأولى في اللقاءات الثقافية والفكرية والسياسية التي يتم تنظيمها في فرنسا وغيرها من البلدان الغربية للحديث عن المأساة السورية. ينبغي هنا أيضاً التذكير بالصدمة السينمائية والإنسانية - بالمعنى الإيجابي - التي أحدثها عرض فيلم (ماء الفضة) للمخرج أسامة محمد، المقيم أيضاً في باريس، بعد عرضه في مهرجان كان السينمائي عام ٢٠١٤. أتى هذا الفيلم المصنوع بين "هنا وهناك" وبالاعتماد على الكثير من المواد الموجودة أصلاً على يوتيوب، ليجبر العالم على رؤية ما يتحاشى النظر إليه من عنف وقمع، وليطرح سؤال صناعة السينما في وقت تتدفق فيه صور تتفوق بقسوتها على أعلى درجات الخيال، كما طرح سؤال المسافة وشرعية الفن المصنوع بعيداً عن مكان حدوث الكارثة التي تحرضه. استمر عرض (ماء الفضة) لفترة طويلة في صالات العرض الباريسية وفي مختلف أنحاء العالم، وهو شيء نادر بالنسبة لأي فيلم وثائقي، كما أثار الكثير من الجدل في وقت راح يشعر فيه معظم السوريين بأن العالم لا يكترث لمأساتهم قط. من المؤكد أن هذا الحضور الفني والثقافي السوري في الخارج يلعب دوراً غاية في الإيجابية على صعيد التوعية والإخبار، خاصة وأنه يأتي في الكثير من الأحيان ليجيب عن سؤال: "ما الذي يحدث اليوم حقيقةً في سوريا؟". ذلك إلى جانب إعادة الاعتبار إلى الإبداع السوري عموماً، الذي بات يحظى اليوم باهتمام واسع، وإن كان بشكل أساسي بسبب هيمنة سرديات الكارثة على المخيلة الغربية فيما يخص هذه المنطقة من العالم عموماً، والنظر إليها كأرض خصبة لحروب ونزاعات تبدو للكثيرين غاية في التعقيد وأزلية. إلاَّ أن الأعمال المرافقة للثورة والحرب ليست وحدها التي يتهافت عليها الناشرون ومدراء المهرجانات والمعارض ومنظمو المؤتمرات منذ عام ٢٠١١، فقد سمح الظرف التاريخي بنفض الغبار عن أعمال سورية سابقة، خاصة تلك التي كانت تتطرق إلى الواقع السياسي والاجتماعي في سوريا البعث، ويبدو أن السينما والفنون البصرية والأدب من أكثر المجالات التي استفادت من مستجدات المرحلة وتأثيرها على خلق أقنية ترويج جديدة للفنون وللثقافة. نذكر هنا على سبيل المثال، كيف عاد فيلم (الطوفان في بلاد البعث) الذي أخرجه الراحل عمر أميرالاي عام ٢٠٠٤، ليصبح مرجعاً أساسياً لتاريخ سوريا الحديث، أو الإقبال المتزايد على أدب السجون الذي كُتب قبل عام ٢٠١١، وأهم مثال على ذلك النجاح الواسع الذي حققته رواية (القوقعة) لمصطفى خليفة الصادرة عن دار الآداب في لبنان عام ٢٠٠٨.
من ناحية أخرى، ترتبط استمرارية الفن السوري في أماكن تواجده أيضاً بظرف الإنتاج الخاص بكل مجال فني على حدة، فمن يعمل في المسرح، وهو المجال الأكثر تعقيداً بسبب شروط العرض الحي، ليس كمن يعمل في السينما أو الفن التشكيلي، والموسيقى لها أيضاً شروطها الخاصة، كما هو الحال بالنسبة إلى الأدب. بالتالي، إن هجرة الفن السوري اليوم تضع الفنان أمام تحولات عملية في ظرف الإنتاج أيضاً، ومجمل هذه التحولات ينعكس بشكل مباشر على عمل الفاعل الثقافي السوري المرافق بدوره لعمل الفنان، كما يخلق حاجات جديدة على صعيد التشبيك والتمويل والإدارة. من ضمن هذه التعقيدات، لا يمكننا تجاهل توتر العلاقات المتزايد بين الفن السوري الذي يتم إنتاجه داخل سوريا - عندما يكون ذلك ممكناً - والفن الآتي من المهجر، مما يدفعنا إلى التفكير في سؤال شرعية الخطاب الفني ومسؤولية الفنان المنفي في ظل الكارثة التاريخية. تقودنا هذه النقطة الأخيرة إلى التساؤل أيضاً عن القيمة الفنية لهذه الأعمال بمعزل عن الشهادة التاريخية التي تقدمها، فالحديث عن مستقبل الفن السوري لا يمكن عزله عن ماهية المنتج الثقافي كمادة يتم "استهلاكها" من قبل متلقي يجد فيها تعبيراً عن حالة تعنيه، إضافة إلى قدرتها على مداعبة مخيلته وتحقيق لذة جمالية لديه. قد يكون هذا السؤال سابقاً لأوانه في وقتنا الحالي، كما قد يطرح تساؤلات أخلاقية قد تميل إلى إعطاء أولية لقيمة العمل الفني كشهادة تاريخة على حساب قيمته الجمالية. ولكن أيكفي حقيقة أن يتناول عمل فني ما موضوعة الثورة والحرب ليكون مهماً؟ وهل عدم تناول هذه الموضوعة من قبل فنان سوري ما اليوم، ينفي شرعية عمله؟ كلاهما يعَّبران عن الزمن وعن اللحظة الراهنة، ويخضعان لسلسلة من العوامل الموضوعية والعملية، إضافة إلى نسبية وتفاوت تلقي هذه الأعمال على عدد متلقيها. هنا يأتي دور الباحث والفاعل الثقافي الذين من حقهما، بل ومن واجبهما أيضاً، البحث عن أدوات قراءة تتناسب وهذا الإنتاج الوفير، المحترف وغير المحترف على حد سواء، من أجل وضع أسس لتلقي ونشر الفن السوري المعاصر بغض النظر عن مكان إنتاجه وعن درجة محاكاته لواقع المأساة. ليس ما يصنعه الفنان السوري اليوم مجرَّد وثيقة أو شهادة تاريخة، فنتاجه جزء لا يتجزأ من تاريخ الفن العالمي كما ستتم دراسته وتحليله بعد سنوات من الآن مما لا شك فيه. وقد تكمن هنا مسؤولية الفنان السوري الحقيقة بصفته مؤلف نصوص وصور قادرة على البقاء ما بعد اللحظة التاريخة والسياسية التي شكَّلتها، إضافة لكونه أحد مدوني التاريخ. من ناحية أخرى، يبدو لنا من الضروري عدم تجاهل البعد الاقتصادي للفن، لأن الفنان والفاعل الثقافي كلاهما بحاجة إلى توفُّر إمكانية العيش والاستمرار، وهذا هو تماماً الحد الفاصل بين الاحتراف والهواية. الفنان المحترف "يبيع" عمله ليعيش، وإن لم "يبع" فهو أمام مشكلة اقتصادية تهدد استمراريته كفنان وتدفعه في العديد من الأحيان نحو مهن أخرى. في الوقت نفسه، وإن أدَّت الكارثة السورية إلى خلق اهتمام حقيقي بالإبداع السوري على المستوى الدولي، إلا أن التقييم يبقى خاضعاً في معظم الأحيان لمعايير المدير الفني الغربي (الناشر، منسق المعارض، مدير المهرجان…)، ولمعرفته بتوقعات جمهوره، إضافة إلى قراءته الخاصة لتاريخ المنطقة والتي غالباً ما يطغى عليها طابع ما بعد-احتلالي، وإن كان بشكل غير مقصود، فهو أمر ناتج عن قرون من قراءة النتاج الفني غير الأوروبي بما لا يخلو من بعض أو كثير من سوء الفهم. والحقيقة، أنه ربما بات بإمكاننا الحديث عن استشراق جديد مفتون بسرديات الكارثة العربية المعاصرة (قد يكون منذ الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ على أثر ضربة ١١ سبتمبر، صعود الحركات المتطرفة في المنطقة والفوضى السياسية المتفشية إقليمياً)؛ ثم أتى ما يحدث في سوريا منذ أكثر من أربعة أعوام ليرسِّخ النظر إلى هذه المنطقة من العالم كبؤرة "شقاء أبدي"، وبالتالي التعامل مع نتاج فنانيها كمرآة لهذه الكارثة بشكل شبه حصري. هذا لا يعني أن هذه الخيارات هي حكماً خاطئة أو غير منصفة، إلاِّ أنها تضعنا أمام إشكاليات جمالية وإيديولوجيا على مستوى التلقي والعلاقة مع الجماهير في أمكان مختلفة من العالم. كما تدفعنا إلى التفكير أيضاً في طبيعة العلاقة بين الفاعل الثقافي السوري وغير السوري أمام الفن السوري اليوم، وأهمية دور المدير الثقافي والباحث السوري والعربي عموماً على صعيد إعادة النظر في سرديات المنطقة وتقديم هذه الأعمال بما يسمح بصياغة خطاب مضاد يعكس تنوع المجتمع السوري وتعددية حكاياته ووسائل تعبيره الفنية. في هذه الحالة، نرى أنه قد يكون من مسؤولية المُنتج الثقافي السوري المقيم الآن خارج سوريا - أو غير الغربي عموماً -، أن يلعب دور الوسيط و/أو المستشار بالعلاقة مع المُنتج الثقافي غير السوري، إضافة إلى مسؤوليته على صعيد خلق أقنية تواصل خلَّاقة بين من بقي في سوريا ومن هم في الخارج.
هكذا نرى أن تناول موضوع هجرة الفن السوري اليوم وآفاق استمراريته في أماكن تواجده، يبرز مجموعة من القضايا المتعلقة بتحولات مكانية وجمالية وإنتاجية التي يمكن تشبيهها هنا بعملية الانزياح، ليس فقط عن المركز (دمشق)، وإنما أيضاً عن طبيعة الممارسات الفنية والثقافية نفسها، توجهاتها، الهدف منها، وكيفية تلقيها على المستويين السوري والعالمي. بالتالي، يبدو لنا من الضروري رسم خارطة جديدة للثقافة السورية تكون حدودها العالم. ومن المؤكد أن مسح إقليمي ودولي من هذا النوع سيسمح لنا برصد احتياجات الحقل الثقافي السوري في واقعه الجديد كعملية خلق تحدث شئنا أم أبينا في الشتات، وتعاني من خطر القطيعة مع داخل باتت العودة إليه بمثابة حلم مستحيل. هذا لا يعني أن الفن الملتزم والمستقل توقف داخل سوريا، وإن كان لا يحظى بالتسليط الإعلامي نفسه المتاح لمن هم في الخارج، ربما أيضاً بسبب علاقته مع المؤسسات الحكومية التي قد تبدو إشكالية، وإلاّ ما الذي يفسر على سبيل المثال تهافت المتقدمين على الانتساب إلى معهدي المسرح والموسيقى في دمشق حتى الآن، وعلى الرغم من التشديدات الأمنية في العاصمة؟ اليوم، يجلس طلبة المعهدين بمختلف أقسامه للاستماع إلى محاضرات عن الموسيقى والمسرح والفن، وعلى الرغم من القصف المستمر والحواجز التي قطعت أوصال المدينة، يعودون كل يوم طالبين المزيد. صحيح أن الفن السوري يعيش اليوم بجزء كبير منه في الشتات، ويواجه تحديات وتحولات جذرية، ولكنه مستمر أيضاً في الداخل، ويبدو لنا من الضروري أن يبقى التواصل قائماً بين مجمل هذه المخيلات السورية بصرف النظر عن أمكان تموضعها في العالم.
تعليق