القربان عبر التاريخ : لعبة التجلي والتخفي.
كريم اسكلا
خاص ألف
2017-04-22
يعتبر عيد الأضحى أوالعيد الكبير كما يعبّر عنه المغاربة، أو عيد القربان كما يعبّر عنه الإيرانيون، مناسبة لتجديد الإرتباط بالماضي الإنساني، فعبرالعيد الكبير يحيي المسلمون مناسبة تجدد تفاصيل رحلة أبدية للنبي إبراهيم / لبطل أسطورة- بلغة الإنثروبولوجيا-. حج وأدعية وأضحية... إنها مجموعة من الشعائر الدينية التي تتقاطع مع جملة من الطقوس التي صاحبت الإنسان منذ وجوده. فكيف تستمر وتتجدد مجموعة من الأساطير الغابرة من خلال ممارسة ذات أبعاد دينية ثقافية إقتصادية؟ وإذا كانت جلّ المجتمعات القديمة تضحي من أجل " قيم ومبادئ إنسانية كبرى " كالإيثار والصبر والتضحية من أجل التغيير والتجديد، فإننا نتساءل لماذا وبماذا تضحي المجتمعات المعاصرة ؟
القربان عبر التاريخ : لعبة التجلي والتخفي.
تُثبت العديد من القرائن الأثرية والتاريخية أن ظاهرة الأضاحي أو القرابين ظاهرة تاريخية عرفتها جلّ المجتمعات الإنسانية منذ الأزل، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ففي العصر الحجري الأوسط مثلاً كان الإنسان يقطع أجزاء معينة من جسمه انطلاقاً من معتقدات خرافية صرفة. لتتحول الأضحية مع بداية العصر الحجري الحديث إلى تقديم تضحية بشرية مختارة ومصطفاةبعناية للتقرب بها في مواسم الخصوبة والحصاد مثلاً.
وكانت احتفالات المايا تتركز على تقديم الأضاحي البشرية لنيل مرضاة الآلهة. وكانت عادة التضحية تمارس فوق الأهرامات الحجرية المشيّدة في ساحات الإحتفال، حيث كانت العطايا من المنتجات الزراعية ودم المتعبد الذي يحصل عليه بشقّ شفتيه أو لسانه أو عضوه التناسلي. أما أسمىدرجات التكريم فتكون بتقديم الضحايا البشرية، حيث كانت الأضحية تُقتل فوق قمة هرم الإحتفالية بضربة سهام أو بشق صدرها بسكين حاد من حجر الصوان لينتزع القلب فيقدم كقربان.
ولم تتوارَ ظاهرة تقديم القرابين مع بروز المدنيات الكبرى، بل اتخذت لها أشكالاً وأقنعة مختلفة ومتمايزة... فالبابليون مثلاً كانوا يتقربون من الآلهة بتقديم "قربان التكفير" الذي يحل فيه الحمل مكان الإنسان. كما نجد فكرة التضحية قائمة في الميثولوجيا اليونانية كشكل تطهيري عبر التقرب بخنزير أو كلب أو ديك أو الإغتسال في ماء البحر، بل نجد أيضاً شكلاً من أشكال القربان البشري في أثينا، وفي غيرها من المدن الأيونية وبالذات في عيد ترجيليا. وفي الدين الروماني كان تقديم القرابين يتم بأيدي جماعة الكهنة.
وللتضحية أهمية كبيرة أيضاً في الأديان التوحيدية حيث رافقت مفهوم الخلاص، ففي اليهودية مثلاً، حيث غضب الله على الإنسان بسبب «الخطيئة الأولى » التي ارتكبها آدم، لأكله من شجرة المعرفة الإلهية المحرمة. وبسبب ذلك خرج من الجنة. بدأت الكفارة في العهد القديم فتجلّت في تقديم الذبائح وإيقاد المحرقات، التي كانت تقدم تكفيراً عن شرور الإنسان وآثامه، سواء من قبل آدم وحواء وقايين (قابيل في القرآن الكريم) وهابيل أو إبراهيم وإسحق ويعقوب أو أيام موسى... إلى أن نصل إلى خروف الفصح الذي قدّمه شعب إسرائيل الخارج من أرض مصر قرباناًلتحرره. كما أن عملية الختان تعتبر من طقوس التضحية، واستمر كل ذلك باعتبار أن الله منزه عن مصالحة الخطاة دون كفارة.
وفي المسيحية، نجد أن كيان هذه الديانة يقوم كله على فكرة الفداء، فهي ليست ديانة تحتوي على فكرة للخلاص، بل هي بالأساس فكرة خلاصية. والخلاص هنا لا يمكن فهمه إلا من إثم الخطيئة الأولى/ الأزلية. ولا تكون كفارة الروح إلا بفداء السيد المسيح.
وفي الإسلام، تتأسس مجموعة من العبادات والشعائر على مفهوم التضحية والفداء انطلاقاً من الزكاة والصوم ثم نحر أضحية الحج، كما أن مجموعة من العادات والتقاليد تعتبر تكثيفاً رمزياً لمفهوم القربان كالهبات والعطايا للزوايا والأضرحة والأولياء. إضافة إلى الفداء بالجسد عبر "المجاهدين والفدائيين" الذي يمكن أن نقرأه على أنه قربان بشري.
لماذا وبماذا تضحّي مجتمعاتنا اليوم ؟
يذهب العديد من الباحثين إلى تفسير ظاهرة القرابين البشرية وفق التفسير الفرويدي وذلك بربطها بظهور الطوطم، حيث وظّفَ فرويد الدلالات الرمزية الأسطورية لتفسير النشأةالأولى للنظام الأخلاقي، انطلاقاً من حيّزين أسطوريين، الأول من خلال أسطورة "قتل الأب وأكله" بطابعها الأنتروبولوجي، وحيز آخر يتمثل في أسطورة أوديب بتجلياتها السيكولوجية. فحسب أسطورة "الوليمة الطوطومية" قرر الأبناء التنازل عن إشباع غرائزهم المتوحشة لصالح النظام الإجتماعي، وقد شكّل هذا التنازل - كما يرى فرويد- أساس النظام والعدالة والقانون والقيم الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية القديمة، لتشكل بذلك مهد الحضارة ومنطلقها الإنساني، وذلك لأن الحضارة لا تقوم إلا على مبدأ الإيثار ونكران الذات وتنظيم الإشباعات الغريزية. وحسب أسطورة أوديب، جريمة قتل الأب، يتشكل لدى الفرد ( شعور بالذنب بلاذنب)، فتلك الخطيئة المزدوجة لقتل الأب وإتيان المحرم تقوده إلى أعظم الندم فقأً للعين وتيهاً في الأرض تكفيراً عن الإثم والذنب. ليظهر الطوطم كبديلٍ مقدس عن الأب تعبيراً عن الندم. بالتالي تكون القرابين تقرّباً إلى الأب المقتول.
لكن بطبيعة الحال هناك تصورات مخالفة لهذا التفسير منها اعتراضات برونيسلاو مالينوفسكي الذي يرى أن اهتمام البدائي بالطوطم هو وليد حاجة اقتصادية صرفة.فمالينوفسكي يرى أن كل ثقافة حية هي عبارة عن كيان كلي وظيفي متكامل، على اعتبار أن عملية تفسير العنصر الثقافي داخل النسق الكلي، لا تتم إلاّ من خلال الأداء الوظيفي. ومن ثمة يربط مالينوفسكي الثقافة بالإحتياجات الإنسانية -على اعتبار أن هناك علاقة بين احتياجات الإنسان ككائن حي بيولوجي وبين أساليبه في إشباع هذه الإحتياجات (نسق القرابة - نظام التموين - المأوى - وسائل الحماية - الأنشطة المختلفة - التربية - وسائل حفظ الصحة. من هذا المنطلق قد نعتبر أن عيد الأضحى يأتي لخلق التوازن الإقتصادي " في منظومة الإقتصاد الإسلامي" بين مجتمعين متصارعين مجتمع رعوي ومجتمع زراعي، فبعد عيد الفطر الذي تزدهر فيه تجارة "مجتمع الزراعة" لابد من طقسٍ لتروج فيه تجارة "مجتمع الرعي".
أما دولوز وكاتاري و رينيه جيرار فيرون في طقس التضحية محاولة لتجنّب العنف. ومن المعلوم أن المدرسة الغشتالتية في علم النفس قامت على آراء مشابهة. فهناك من اعتبر تقديم القرابين للآلهة خطة مُحكمة البناء من اللاشعور الجمعي تقتضي صب فائض العُنف المنتشر في المجموعة على " كبش "، بهذا يكون سلوك التضحية مخرجاً لتصريف النزوع البشري إلى العنف اتجاه الذات والآخر. هكذا تنتقل وظيفة القربان إلى شرعنة للعنف في زمان ومكان وتجاه موضوع محدد. إنه شكل من أشكال التنفيسعن العنف الجوهري في سيكولوجية الإنسان الذي تغذيه غريزة الموت.
كل تلك الممارسات الملطخة بالدم، والتقسيم والتفتيت للحم خروف العيد، تكتنز فرصة لتغذية ليس فقط بطوننا من اللحم ولكن أيضاً تغذية رغبات سادية ومازوشية في التمزيق والتقتيل، وإشباعاً لرغبة مكبوتة في أكل اللحم النيئ أو المشوي التي لا زالت تشدنا إلى سالف عهد البشرية ما قبل اكتشاف النار، وكأنها نزعة كانيبالية أو كارنيفورية مخففة.
وحسب الفكر الإسلامي يعتبر عيد الأضحى شعيرة دينية يستعيد بها المسلمون مسار نبوات الدين التوحيدي، فالمقصد من هذا الفداء ليس الخلاص أو التكفير عن خطيئة ما. بل هي مناسبة لتكثيف رمزي لقصة النبي إبراهيم مع ابنه إسماعيل / أو إسحاق حين رأى أنه أمر بذبح ابنه، نشير هنا إلى إسماعيل وإسحاق معاً لأن هناك خلافاً بين العلماء حول المعني بالذبح من أبناء إبراهيم. ما يهمنا في هذا المقام أن القصة من جهة تبرز جانب الخضوع المطلق لأوامر الله والأب، ومن جهة أخرى جانب المكافأة مكافأة الأب بالبشارة وبكبش ومكافأة الابن بتحقيق النبوة. وقد طرح الباحث تركي علي الربيعو سؤالاً جريئاً في كتابه " الإسلام ملحمة الخلق والأسطورة " حيث" قال: « لماذا كُتِب على الإنسان أن يضحّي بأحد أولاده إرضاءً لآلهته المتعطشة للدم واللحم البشري؟ » ليجيب على سؤاله بخلاصة موجز: « قدرية لا معقولة.. الإستسلام والخضوع والنكوص على الذات ».
هذا التفسير للعيد الكبير يواري وظيفته الإقتصادية، باعتباره يعزز "قيم اقتصاد تضامني" بحيث يتم صرف فائض القطيع، ويكرس "الإحسان " إلى الفقراء والمساكين. وترويج تجارة لن تبور عبر السياحة الدينية / الحج إلى البيت الحرام.
يعتبر العيد الكبير أيضاًمساحة لتغذية رغبة دفينة في " قتل الأبناء "، فعكس "القصة الأوديبية"، حيث يقتل الابن ـأباه، نجد في الثقافة العربية الإسلامية الأب هو الذي يقتل الابن أو يضحي به على الوجه الأصح كما يتبين من تحليل القصة الإبراهيمية، لماذا لم يحاول الأب تأويل الرؤيا بفك وتحليل معانيها الرمزية والبحث عن تأويل الأحاديث واكتفى بمنطوقها الصريح؟ في الثقافة العربية الإسلامية عوضَأن يحول الأبناء "الأب" إلى" وليمة طوطومية" كما الشأن بالنسبة للمجتمعات الغربية وما يستضمره ذلك من قطائع ابستيمولوجية قام بها الغرب مع الأب الماضي/ الوصايا/الباطريك/... اختارت مجتمعاتنا أن تؤسس بمخيالها وليمة معاكسة من "المشوي والنيئ " من لحم أبنائها وما يستضمره ذلك من كبح لجماح الأبناء/الأتباع/المريدين/ الرعايا...
إن حضور رغبة " قتل الأبناء " في طقوس العيد الكبير قد يفسر لنا ذلك الإرتباط العاطفي بين الأطفال وأضحية العيد... هنا قد نفهم ذلك الشعور الذي يتوالد على مدى أيام يتفاعل فيها الأطفال مع كبش أو ماعز أو ثور... وكأنه رفض لا شعوري للذبح...لقد توقفنا عند مجموعة من القبائل التي يصل فيها تماهي الأبناء مع الأضحية/الكبش إلى مستويات عالية، كيف لا يتعاطف الأطفال الصغار إذن مع "كبش" كان من الممكن أن يكونوا هم مكانه...فأنقدهم من تأويل غير مكتمل لرؤيا ربانية. ففي مجموعة من المناطق بالمغرب وكما عايشنا في بعض قبائل دادس بالجنوب الشرقي المغربي مثلاً، لاحظنا كيف كانت/ ولازالت بعض العائلات تعمد إلى تكحيل عيني الأضحية ووضع" المسواك- أوراق شجرة الجوز" والملح في شدقيها، وتخضيبها بالحناء، كما تعمد إلى القيام بالشيء نفسه لأبنائها من كلا الجنسين (الكحل والحناء والرش بالملح ) . وفي هذا استحضار لرموز ثقافية من الموروث الديني الذي يتحدث عن " كبش أملح، أعين، أقرن، عليه عهن أحمر". فأملح في اللغة يتأرجح بين التزيين ووضع الملح وسواد الرأس...والأعين هو الذي عظم سواد عينه واتسع. بهذا قد تكون تلك الطقوس المصاحبة للنحر من تكحيل وتخضيب الكبش/ والابن ما هي إلا محاكاة لنموذج الكبش الذي افتدي به إسماعيل/ إسحاق.
عوضَ أن تستلهم مجتمعاتنا قيم الإيثار والعطاء والتجديد والتغيير من طقوس القربان، باعتبار أن التضحية بالجسد والدم خطوة لتجديد الدماء وبناء نظم جديدة، وعوض أن تحل وتفكك "العقدة الأوديبية" بتسامٍ يصنع حضارة، تتشكل فيها " عقدة إسماعيلية " أو "إسحاقية "، تلك العقدة التي تجعل الأب ينزع إلى وضع أبنائه تحث "جلبابه" أو "مديته" باعتباره صاحب تجربة/ رؤيا. كأن المجتمعات الحالية لم تتذكر من "ملحمة " إبراهيم وإسماعيل سوى فعل الذبح والنحر.
لقد استطاعت هذه "العقدة الإسماعيلية' أن تتسرب إلى كل أشكال الحياة، على المستوى السياسي لتتكرس منظومة التبعية المطلقة "للأب" الروحي للإيديولوجية أو الحزب أو الدولة، أو على المستوى الفكري والثقافي...ليتحول المثقف إلى مريد يكرر أقوال شيخ زاويته. فيتحول الفرد بذلك إلى "مخصي"، فكيف له أن يكون "أوديبياً".
نضحي " بإسماعيل/إسحاق " ونكافئ " إبراهيم " الذي أراد نحره ! إن مجتمعاتنا تضحي بأبنائها وتقتلهم لتنعم بقطع من اللحم النيئ والمشوي والمطبوخ، تضحي بهم برميهم في الزنازين والمعتقلات أو بالدفع بهم للإنتحار على شواطئ الهجرة أو الموت البطيء بالمخدرات والمنشطات أو بتعليم أعلن إفلاسه أو بمعارك جانبية يقاتل خلالها الأخ أخاه فلا ينتبها لغطرسة "الأب"...تقتلهم بالرمي بهم إلى المنافي المغضوب عليها فإن لم تقتلهم لعنة الطبيعة قتلهم الإحساس "بالحكرة" والإهانة. تضحي بهم...لتنعم باستقرار " نيئ " وهش ومزيف تقطر منه دماء مذابح سابقة، تضحي بهم لتنعم بوعود تنمية "مشوية ومطبوخة " على جمر ورماد شهداء الحرية والعدالة والكرامة. تضحي بأبنائها لمقاومة الإستعمار أو لإسقاط ديكتاتورية أو لتحسين شروط الإستبداد، وفي آخر المطاف يجلس "الأب" مع "المستعمر" "والخائن" و "الفاسد" على مائدة وليمة "مشوي وقديد " من لحم هؤلاء الحمقى من المناضلين والمقاومين الحقيقيين، وليمة مزينة بحلويات "دساتير وديمقراطية وانتخابات" لذة للمشاهدين، ويتجرعون " كؤوساً مترعة " من عرق الكادحين والعمال والفلاحين والمستحمرين الذين يفدون الوطن بكل شيء ولا يفديهم "الوطن" بأي شيء. فما الفائدة إذن من ذبح الأكباش مادمنا نضحي بالأبناء فعلياً ورمزياً كل حين؟
سلام على كل "إسماعيل وإسحاق " في العالمين.