لماذا ولدت الدولة وما معناها وما هي وظيفتها؟
2008-04-08
لفهم هذا السر المغيب ينقل الدكتور (إمام عبد الفتاح إمام) في كتابه (الطاغية) هذه الواقعة عن الفيلسوف (توماس هوبز): "جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك وبغير قانون بحيث تعم الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد وكان الهدف من وراء ذلك هو أنه بنهاية الأيام الخمسة وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى فإن من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد إذ تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية".
ويبدو أن الخليفة (يزيد) الأموي قام بتجربة اجتماعية ناجحة من هذا النوع عندما استباح مدينة النبي ص كما يذكر المفسر والمؤرخ (ابن كثير) عن وقعة (الحرة) فضربت بالمنجنيق واستبيحت ثلاثة
أيام كاملة وسرقت ونهبت واغتصب فيها ألف عذراء من بنات الصحابة أو كما يقول ابن كثير " ومفاسد عظيمة ليس لها حد ولا وصف".
وأمام هذه المتحارجة التي لم يجد الفقهاء لها مخرجا قالوا بأنه لا يجوز الخروج على الإمام الفاسق لما في ذلك "من إثارة الفتنة ووقع الهرج وسفك الدماء الحرام ونهب الأموال وفعل الفواحش مع النساء"؟
ولم يخطر في بالهم إلا حلين لا يتقدمان في طريق الحل إلا بإلغاء كل حل بين العبودية والانقلاب الدموي.
وغاب عن بال الجميع كيفية صناعة المجتمع وفق المنهج النبوي بالمقاومة السلمية. ومازلنا حتى اليوم محتجزين في قبضة السيف الأموي.
وإذا كان الأمويون أنجبوا عمر بن عبد العزيز العادل ثم اغتالوه فإن العباسيين ذبحوا الأطفال وأكلوا على سجادةٍ يحشرج تحتها بني أمية، ونبشوا قبورهم ثم صلبوا بقايا جثة أحدهم. وفي الصراع على السلطة احتز المأمون رأس أخيه الأمين. وأما سلاطين بني عثمان فكانوا يستفتحون العهد الأميري بقتل جميع أخوتهم بفتوى من شيخ الإسلام أن الفتنة أشد من القتل.
وفي كتاب (القوة) لـ (روبرت غرين) عن "القواعد الثماني وأربعين للإمساك بمفاتيح السلطة" يذكر قصة عجيبة عن (إيفان الرهيب) أن سكان العاصمة فوجئوا في 3 ديسمبر من عام 1564 م بمغادرة الملك موسكو إلى قرية صغيرة وتركها لمصيرها بدون حاكم. وخلال شهر ذاق الناس الأمرين من الفوضى والقتل وفي 3 يناير 1565م أرسل إيفان إلى أهل موسكو رسالة يقول فيها أنه تنازل عن العرش.
هرع رجال الكنيسة وأعيان البلد إلى قرية الملك إيفان يستعطفونه الليالي ذوات العدد أن يعدل عن رأيه ويعود إلى العرش وينقذ البلد من الفوضى.
قال لهم في النهاية إذا كانت هذه رغبتكم فسوف أعود ولكن بشرط واحد هو:"السلطة المطلقة" وليس غيرها أو دونها؟.
وعندما عاد إيفان الرهيب إلى موسكو هتف الناس طويلاً بحياة العاهل العظيم واعتبروا ذلك اليوم عيداً للحرية والشكر وهم يضعون أغلال العبودية في أعناقهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.
ويذهب الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه (السلطان Power) إلى أن أعظم مشكلة اجتماعية تواجه البشر هي التوفيق بين الرغبات الفردية والذوبان الاجتماعي " إنه من المجدي للمخلوقات البشرية أن تعيش في جماعات ولكن رغباتها تظل فردية إلى حد كبير، خلافا لرغبات النحل التي تعيش في خلاياها، ومن هنا تنشأ المتاعب الاجتماعية والحاجة الماسة إلى قيام حكومة".
ولكن المشكلة هي أنه بقدر الحاجة إلى ولادة الدولة بقدر مخاطر نشوئها من احتكار السلطة بيد طاغية أو رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ويقرر (راسل) أن الحل صعب بين (فوضى الغابة" و"طغيان الدولة" وأن "الفوضى والطغيان يتشابهان في نتائجهما المدمرة ومن الضروري التوصل إلى حل وسط إذا أريد للمخلوقات البشرية أن تنعم بالسعادة".
ويذهب (ابن خلدون) في مقدمته إلى أن "الاجتماع الإنساني ضروري وأن الإنسان مدني بالطبع" وينطلق في نظريته هذا من ضرورة الاجتماع الإنساني بأمرين: "الحماية" و"الغذاء" فلا يمكن للفرد الواحد أن يطعم نفسه كسرة خبز بدون اجتماع الأيادي والعديد من الصناعات.
جاء في المقدمة أنه حتى : "قوت يوم من الحنطة لا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة". ولكن هذا الاجتماع لا يعني بالضرورة ولادة "الدولة". ولذا اعتبر (هوبز) أن الإنسان ليس حيوانا سياسيا ولا هو مدنيا بالطبع ولكن تطور الدولة كان عملاً ثقافياً أكثر من كونه أمرا غريزياً وهو بهذا ينقض نظرية (أرسطو) عن الإنسان. أما في (علم النفس) فيرسم (أبراهام ماسلو) الحاجيات الإنسانية في هرم من مكون من خمس طبقات، يأتي في القاعدة منه طبقة مكونة بدورها من خمس حاجيات فيزيولوجية هي "الطعام والشراب واللباس والسكن والجنس".
ويأتي فوقها مباشرة طابق (الأمن الاجتماعي). وجمعت الآية بين الأمرين (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
وفي قمة الهرم يأتي "تحقيق الذات" وهو حصر على 5% من الناس وما بينهما يأتي "روح الانتماء" و"تقدير الذات.
ولكن ما معنى هذا كله؟
يبدو بشكل واضح أن الدولة نظام سياسي ولد على القوة واحتكار العنف من كل المجتمع مثل "شفاطة" قوية سحبت كل العنف من يد كل الأفراد واستأثرت بكل العنف في يدها مقابل "توفير الأمن" للأفراد الذين يعيشون في كنفها وهو ثمن باهظ للتخلي عن الفردية مقابل الاندماج في الحياة الاجتماعية، ولكن بنفس الوقت لم تنشأ الحضارة لولا هذه الغلالة الواقية من الأمن التي تحسم النزاعات بين الأفراد.
إن منظرا بسيطا من حادث ارتطام سيارتين وحضور البوليس يعطينا معنى حضور الدولة من خلال ممثليها (الشرطة) حاملين مسدساتهم جاهزين لردع أي متمرد على النظام وهي ما يسميها (راسل) القوة العارية.
ونحن قد تعودنا منذ الطفولة على رؤية الشرطة بأسلحتهم أو القوات المسلحة في استعراضاتها العسكرية للصواريخ والمدافع تحمل التهديد المبطن لمن تسول له نفسه تعكير الأمن.
وهي عار كبير على الجنس البشري باستعراض أدوات القتل، ولكن الجنس البشري ليس إلا في أول رحلته الانثروبولوجية والحضارة ليس لها من العمر إلا ستة آلاف سنة مقابل وجود الإنسان على الأرض منذ ستة ملايين من السنين.
ومرحلة العنف هذه تشبه وضع الطفل في أول رحلة الحياة وهو لا يعرف كيف ينظف نفسه وهي مرحلة لا نخجل منها في طفولتنا لأنها ضريبة التطور.
و(احتكار العنف) بيد الدولة كان من جهة جيدا لأنه في ظل الدولة نشأت الحضارة كما كان بناء الدولة بالمقابل لعنة، فمع وضع اليد على القوة والجند والمال أصيبت الدولة (بمرضين) كل واحد منهما يمثل فظاعة لا تطاق:
(أولاً) برمجة الحروب مع دول الجوار طالما كان الأمن مضمونا في النطاق الداخلي للدول وليس بين الدول. أي لم يوجد من يحسم النزاعات بين الدول مثل الذي حصل داخل الدولة الواحدة في هيمنتها على حسم النزاعات بين الأفراد. فهذا هو مصدر نشأة الحروب بين الناس فالحرب ظاهرة مترافقة في الصراع بين الدول أو أثناء تحلل الدول.
وكما يقول (علي الوردي) في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) في تفسيره "سبب التنازع البشري:
أن "الحكومة استطاعت أن تحسم النزاعات بين رعاياها بواسطة أجهزة القضاء والشرطة وما أشبه، وهذه الأجهزة قد تكون متفسخة أو جائرة ولكن وجودها خير من عدمه فلولاها لتحول النزاع بين الأفراد إلى قتال عنيف وأكل بعضهم بعضا. ويصح أن نقول مثل هذا عن الحروب التي تنشب بين الدول، فهذه الحروب ستظل مستمرة إلى أن تظهر قوة عالمية قاهرة تحكم في منازعات الدول. إن الدول الآن تعيش في نفس المرحلة التي عاش فيها الأفراد قبل ظهور الحكومات المحلية فكل دولة تريد أخذ حقها بحد السيف"
و(ثانياً) الطغيان الداخلي على الأفراد فمع تملك القوة يبدأ البشر بادعاء الإلوهية.
رأينا هذا واضحاً في ملوك آشور وأور والفراعنة أو ممارسة ذلك بدون ادعاءه حتى اليوم في جو الديكتاتوريات.
يرى (جون لوك) في (الحكم المدني) أن:" الطغيان يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون". وأن "الشرطي الذي يتجاوز حدود سلطاته يتحول إلى لص أو قاطع طريق. بل إن جرمه يكون أعظم إذا صدر عمن عظمت الأمانة التي عهد بها إليه" أما (جون استيوارت ميل) فيرى أن هذه الأحادية كارثة" أولئك الذين يريدون إخماد الرأي الآخر هم أنفسهم غير معصومين من الخطأ ومن ثم فهم عندما يرفضون الإصغاء لأي رأي مخالف فإنما يزعمون لأنفسهم العصمة من الخطأ".
إن جذر (الطغيان) حسب القرآن مرتبط (بامتلاك القوة) "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" و كما يقول اللورد (اكتون): "كل سلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقاً" وموقف الطاغية كما يرى (مونتسكيو) هو"موقف ذلك الذي يقطع الشجرة من أجل قطف ثمرة.
وينقل (راسل) عن كونفوشيوس هذه القصة فعندما "مر على مقربة من جبل (تاي) أبصر بامرأة تقف إلى جانب أحد القبور وتبكي بمرارة وحرقة. فسارع المعلم إليها. وبعث بتلميذه (تسي ـ لو) يسألها: أنك لتبكين يا امرأة وكأنك احتملت من الأحزان فوق الأحزان. فردت المرأة تقول: وكذاك الأمر فقد قتل نمر من قبل والد زوجي في هذا الموقع. وقد قتل زوجي أيضاً. وهاهو ولدي قد مات نفس الميتة أيضاً. فقال المعلم: ولماذا .. لماذا لم تتركوا هذا المكان؟ فردت المرأة: ليست هنا حكومة ظالمة. فقال المعلم آنذاك تذكروا قولها يا أولادي: إن الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر".
والخلاصة أن أخطر أمراض الجنس البشري اثنان: (الحرب بين الدول) و(الطغيان ضمن الدولة الواحدة) ورسالة الأنبياء جاءت في هذا المفصل الخطير فدعوا إلى تحديد جرعة عنف الدولة بما يخدم غرض "الأمن" لا يزيد، وأن الدولة تقوم عن "تراض منهم وتشاور" فهذا هو التوحيد سياسياً أي خضوع جميع البشر لكلمة "السواء" وأن لا يتخذ بعضهم بعضا "أربابا" من دون الله.
ويكفي كل دولة بضعة آلاف من العساكر ولا حاجة لشراء طيارات بمليار دولار ونيف. ويأتي الجهاد ـ بشقه المسلح ـ ضمن هذا المنظومة فهو ليس "أداة" بيد (تنظيم مسلح) يقوم بقلب أنظمة الحكم بالقوة، بل أداة بيد (دولة راشدية) وصلت إلى الحكم برضى الناس، كما أنه ليس أداة (لنشر الإسلام) بل دعوة لإقامة (حلف عالمي) لرفع الظلم (الفتنة) عن الإنسان أينما كان ومهما دان، فيمن أخرج من دياره أو منع من حرية المعتقد والتعبير، فالجهاد موجه ضد الظالمين ولو كانوا مسلمين وغير موجه ضد الكافرين عندما يكونوا عادلين.
والجهاد بهذا يشبه مؤسسة الدفاع المدني على مستوى الأرض لإطفاء الحرائق حيث نشبت.
وعن حلف (الفضول) للدفاع عن المستضعفين وكان في الجاهلية قال عنه رسول الله ص "لو دعيت له في الإسلام لأجبت" وهو المفهوم الذي تبلور عند فيلسوف التنوير (إيمانويل كانت) عندما دعا في كتابه (نحو السلام الدائمZum ewigen Frieden) إلى قيام (أمم متحدة) تزيل الظلم من الأرض وتنهي حالة الحرب.
وما يحتاجه الناس اليوم هو أمم متحدة تحكمها كلمة السواء، ويحذف منها حق الفيتو، وتملك قدرة تنفيذ القرارات الموافق عليها بالأغلبية فيما يشبه برلمان أرضي.
وبذلك تضع الحرب أوزارها.
08-أيار-2021
08-نيسان-2008 | |
02-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |