قصة/حكاية قلب خرافية-كتبها:إدغار ألان بوـت:د.
يوسف حطيني
خاص ألف
2017-05-06
قصة/حكاية قلب خرافية-كتبها:إدغار ألان بوـت:د.
يوسف حطيني
2008-03-02
حقّاً.. أنا متوترٌ جداً جداً ، عصبياً بغيضاً كنتُ .. ومازلت، ولكن لماذا تقول إنني مجنون؟ إن اعتلال صحتي صقل أحاسيسي ولم يدمرها، ولم يبلدها. وفوق كل ما كان، فإن حاسة السمع مرهفة، فقد سمعت كل شيء في الفردوس وفي الأرض . وسمعت أشياء كثيرة في الجحيم.. إذاً.. كيف تقول إنني مجنون؟
امنحني أذناً مصغية ولاحظ كيف سأخبرك بقصتي كاملة، وأنا أتمتع بموفور الصحة، والرزانة .
من المحال أن أخبرك كيف خطرت الفكرة الأولى في خاطري، ولكنني ذات مرة تخيلت أنها تلازمني ليلاً ونهاراً، الباعث لم يكن موجوداً، الانفعال لم يكن موجوداً أيضاً. لقد أحببتُ الرجل العجوز، وهو لم ينزل بي الأذى أبداً، ولم يوجه لي أية إهانة، ولم تكن لديّ رغبة للسطو على ذهبه، أظن أنه كان بعيد النظر، نعم هكذا كان، إحدى عينيه تشبه عين نسر، عين باهتة زرقاء، تعلوها غشاوة ضبابية، وكلما ركزت نظرها عليَّ جرى دمي بارداً، لذلك، بصورة تدريجية، عقدت العزم على أن آخذ حياة الرجل العجوز، وهكذا حررت نفسي من تلك العين للأبد.
والآن، هذه هي النقطة الأساسية، تتوهم أنني مجنون، المجانين لا يعرفون شيئاً، ولكنك ستراني، سترى كيف بدأت بشكل واعٍ، مع بعض الحذر وبعض الحكمة وبعض الخداع.. ذهبتُ إلى العمل!
لم أكن لطيفاً مع الرجل العجوز أكثر من المعتاد خلال الأسبوع الذي سبق قتلي إياه. وفي كل ليلة، حوالي منتصف الليل، أدير مزلاج باب غرفته وأفتحه. أوه، بلطف شديد.
وبعدئذٍ عندما أكون قد جعلته مفتوحاً بما يكفي لرأسي، أضع رأسي في المنارة، كل شيء مغلق.. مغلق تماماً، وهكذا ليس ثمة ضوء يشع إلى الخارج، عندئذ أُدخل رأسي. أوه.. ستضحك لرؤية كيفية إدخال رأسي ببراعة إلى الداخل. حرّكته ببطء شديد.. ببطء شديد.. وهكذا لم أزعج نوم الرجل العجوز. لقد استغرق إدخال رأسي كلِّه إلى داخل الفتحة ساعة كاملة، بعيداً بشكل كافٍ لأستطيع أن أراه مستلقياً على فراشه. ها.. هل يمتلك الرجل المجنون ذكاءً كهذا؟ بعدئذ، عندما صار رأسي كله في داخل الغرفة، فتحتُ باب المنارة بحذر، أوه، بحذر شديد، بحذر (بالنسبة لمفصلة الباب)، فتحته بحيث يسقط شعاع أحادي على عين النسر. وهذا ما فعلته لسبع ليالٍ خلت. كلّ ليلة في منتصفها تماماً، ولكنني وجدتُ العين مغلقة دائماً، وكان من المحال القيام بالعمل، ذلك لأنني لم أكن مغتاظاً من الرجل العجوز بل من عينه الشريرة، وفي كل صباح، عندما يتنفس النهار، كنت أذهب إلى غرفة نومه، وأتكلم معه بجرأة، أناديه باسمه، بصوت قوي، وأسأله كيف مرّت الليلة، وهكذا فأنت ترى أنه رجل عجوز يصعب فهمه، في الحقيقة، مشتبه به كلّ ليلة تماماً في الثانية عشرة حدّقت فيه بينما كان نائماً.
في الليلة الثامنة كنتُ أكثر حذراً في فتح الباب، تتحرك الدقائق في ساعة الجدار، بشكل أسرع مما هو عليه الحال في ساعتي.. لم أشعر قط قبل تلك الليلة بذلك الامتداد لقوتي الخاصة.. وذكائي.
استطعت بشق النفس أن أسيطر على شعوري بالابتهاج، لتفكيري أنني فتحت الباب، شيئاً فشيئاً، وهو لم يحلم أو يفكر بعملي السري الذي سأقدم عليه. أضحكتني الفكرة تماماً، وربما سمعني، لذلك تحرّك في الفراش فجأة، وكأنه أجفلَ. الآن ربما تظنّ أنني أعود إلى الخلف، ولكن لا. كانت غرفته سوداء كأنها مطلية بالزفت، مع ظلام كثيف، (لأن مصراعي الباب أغلقا بسرعة بسبب الخوف من اللصوص) ولأنني عرفت أنه لن يستطيع أن يلاحظ الباب المفتوح فقد حافظت على دفعه بثبات.. بثبات.
أدخلت رأسي إلى الداخل، وكنت على وشك أن أفتح المنارة عندما ارتطم إبهامي بعلبة قصدير مثبتة هناك، بينما قفز الرجل العجوز في فراشه صارخاً: "من هناك؟"
حافظت على استمرار هدوئي، ولم أقل شيئاً، طوال ساعة كاملة لم أتحرك أية حركة، وفي غضون ذلك لم أسمع صوت استلقائه. كان ما يزال جالساً في فراشه ينصت متأهباً، في تلك اللحظة، قمت، ليلة بعد ليلة، بالإصغاء إلى موت الساعة المثبتة على الجدار..
الآن.. سمعت أنيناً هزيلاً، وعرفت أنه أنين ذعرٍ مميت، لم يكن أنين ألم أو حزن، لا.. كلا.. لقد كان صوتَ اختناق، ذلك الصوت الذي ينشأ من أعماق الروح، عندما تُفرط في الرعب. عرفت الصوت جيداً، ليالٍ عديدة، تماماً في منتصفها، عندما يكون العالم كلّه نائماً، كان يتدفق من صدري، يتعمّق، مع صدى صوته المخيف، الرعب الذي أذهلني.
قلت إني عرفت ذلك جيداً، عرفت بمَ شعر الرجل العجوز، وأشفقتُ عليه، على الرغم من أنني كنت في أعماقي أضحك ضحكاً خافتاً. عرفت أنه كان يتمدد ضعيفاً تماماً منذ حدوث تلك الضجة الطفيفة، عندما عاد إلى فراشه، كان خوفه قد ازداد في داخله، لقد كان يحاول أن يتوهم أن لا سبب لها، ولكنه لم يستطع، كان يقول لنفسه "إنه مجرد فأر يجتاز الأرضية" أو "إنه مجرد جُدجُد أطلق سقسقة وحيدة".
نعم، لقد كان يحاول أن يطمئن نفسه بهذه الافتراضات، ولكنه وجد كل ذلك دون جدوى، لأن الموت كان قد تقدم نحوه. طارده خلسة بظله الأسود، وطوّق الضحية. وكان ثمة تأثير محزن غير مُدرَك، للظل الذي مكّنه (على الرغم من أنه لم ير ولم يسمع)، أن يشعر بوجود رأسي داخل الغرفة.
عندما انتظرتُ وقتاً طويلاً، بصبر شديد، دون أن أستمع صوت استلقائه في فراشه، عزمت على فتح شقّ صغير جداً جداً في المنارة، وهكذا فتحته، لا تستطيع أن تتخيل كيف فعلت ذلك خلسة، خلسة، إلى حدّ أن الشعاع الباهت الأحادي الذي يشبه خيط العنكبوت، أطلق من الشق، وسقط على عين النسر.
كانت مفتوحة باتساع، باتساع، وأنا ازددت غضباً، عندما تفرّست فيها، رأيتها بكامل وضوحها، بكل ازرقاقها الباهت، بغشاوتها البشعة فوقها، مما أحدث رجفة في أوصالي، ولكنني لم أستطع أن أرى شيئاً آخر، على وجه الرجل العجوز، أو على جسده: ذلك لأنني وجّهتُ الأشعة، كما بواسطة الغريزة، تماماً على البقعة الملعونة.
والآن.. ألم أخبرك عن خطأ تصوراتك بشأن ماهية الجنون، ولكن فوقه الأحاسيس الخطيرة، الآن أنا أقول إن وصول صوته المنخفض الكليل السريع إلى أذنيّ، في ذلك الهزيع من الليل، يحدث عندما لُفَّ بالقطن. عرفتُ ذلك الصوت بشكل جيد جداً، لقد كان نبضُ قلب الرجل العجوز، وهذا ما زاد من حدة غضبي، كقرع الطبل الذي يحفّز الجندي على البسالة.
ولكن حتى الآن أنا أحجمتُ وما زلت محافظاً على هدوئي، لقد تنفّست بصعوبة، ومكثت في المنارة دون حراك، جرّبت كيف أستطيع بثبات أن أحافظ على الشعاع فوق عينه، في غضون ذلك، ذلك القرع الجهنمي لقلبه ازداد. وصار أسرع فأسرع.. أصخبَ فأصخب في كل لحظة.
إن رعب الرجل يجب أن يكون مفرطاً، إنه يصبح أصخب، أنا أقول: أصخب في كل ثانية، هل تصغي إليّ جيداً؟ لقد أخبرتك: إن الرجل كان عصبياً: وكذلك أنا. والآن في ساعة الموت الليلية، في وسط الصمت البغيض، للمنزل القديم، حيث الضجيج الغريب الذي يشبه هذا الذي يقودني إلى رعب لا يمكن أن أسيطر عليه.
وفيما بعد، لبضع دقائق أطول، أحجمت وبقيت واقفاً. ولكن النبض أصبح أصخب فأصخب. فكّرت أن القلب سينفجر، والآن قلق شديد استبدّ بي، والصوت سيكون مسموعاً من الجيران. كانت ساعة الرجل العجوز قد حانت! مع صرخة مفزعة عبرتُ المنارة ووثبت إلى داخل الغرفة، صرخ مرة واحدة، واحدة فقط، وفي لحظة جررتُهُ على الأرض، وسحبت سريره الثقيل فوقه، ابتسمت بعدئذ بابتهاج، لاكتشافي أن هذا الصنيع قد تمّ. ولكن، لدقائق عدة، استمرّ القلب في النبض بصوت مكتوم، وهذا، من ناحية أخرى، لم يثرني، إنه لم يكن مسموعاً عبر الجدار.
وحين انقطع، كان الرجل العجوز ميتاً، وأنا حرّكت السرير، وتفحّصت الجثة. أجل، كان ميتاً كحجر.. كحجر. وضعت يدي على القلب وثبّتها هناك لدقائق، لم يكن هناك نبض، كان ميتاً كحجر، عينه لن تكون قادرة على إزعاجي أكثر..
إذا كنت ما تزال تظن أنني مجنون، فأنت لن تفكّر أبعد من ذلك عندما أصف لك التدابير الوقائية الذكية التي اتخذتها لإخفاء الجثة. مضى الليل، وأنا عملتُ بسرعة، ولكن بصمت، قطعت رأسه وذراعيه وقدميه.
بعدئذٍ أخذت ثلاثة ألواح خشبية من أرضية الحجرة، ووضعت أجزاء الجثة كلّها بين حجارة البناء.. بعدئذٍ أرجعت الألواح بذكاء، ببراعة فائقة، بحيث أن عيناً بشرية، حتى عينه، لا تستطيع أن تتبين أي شيء خاطئ.
لم يكن هناك شيء بحاجة للغسل، ولا لطخة من أي نوع، لا بقعة دم، أياً كانت. كان لدي حذر شديد من أجل ذلك، الحمّام أزال كل شيء. ها! ها!
عندما قمت بوضع نهاية لهذا العمل، كانت الساعة تشير إلى الرابعة، وما زال الظلام يشبه ظلام منتصف الليل، وعندما دق جرس رأس الساعة، سمعتُ طرقاً على الباب الخارجي، نزلت إلى الأسفل لأفتحه بقلب منير، ولماذا أخاف الآن. ثمة ثلاثة رجال دخلوا، قدموا أنفسهم، بلطف تام، كضبّاط في الشرطة، لقد سمع أحد الجيران صرخة خلال الليل، أثارت انتباهه إلى أن مؤامرة ما قد أوقظته.. تشير المعلومات أن شكوى قد قُدّمت إلى مكتب الشرطة، وأنهم (أي الضباط) انطلقوا لتقصي الأمر.
ابتسمتُ، ولماذا أخاف؟ أبديت ترحيباً بالرجال اللطفاء، الصرخة، قلت لهم، كانت صرختي في الحلم. الرجل العجوز، كما أشرتُ، كان غائباً، في الريف. أخذت زائريَّ جميعهم إلى أرجاء المنزل كلها، طلبت إليهم أن يفتشوا، أن يفتشوا جيداً، وقدتهم، على طول، إلى حجرة نومه، أريتُهم ثروته آمنة لم تمسّ. وإفراطاً مني في الثقة أحضرت مقاعد للغرفة، وأبديت لهم رغبتي في أن يجلسوا ليرتاحوا من تعبهم، بينما أنا نفسي، في جرأتي الوحشية، بسبب ابتهاجي بالنجاح، وضعتُ مقعدي على البقعة، التي تستكنُّ فيها جثة الضحية في الأسفل.
كان الضباط راضين، كان سلوكي مقنعاً لهم، وكنت هادئاً على نحو استثنائي. جلسوا، وبينما كنتُ أجيب عن أسئلتهم بمرح، تحدّثوا، من غير تكلّف، في أشياء مألوفة، ولكن قبل أن يمضي وقت طويل، شعرتُ بنفسي أُصبح شاحباً، ومتمنياً أن يذهبوا. آلمني رأسي، وتوهّمت رنيناً في أذني، ولكنهم ما زالوا يجلسون ويتحدثون بلا تكلّف. الرنين يصبح أكثر وضوحاً.. الرنين يستمر ويصبح أكثر وضوحاً: تحدّثتُ بلا تحفظ، لأطرد هذا الإحساس. لكنه استمرّ وغدا واضحاً لا لبس فيه.. حتى، في النهاية، وجدت أن الضجة لم تكن داخل أذني.
غدوت الآن شاحباً جداً دون شك، ولكنني تكلمت بطلاقة أكثر، وبصوت قوي واضح. حتى الآن الصوت يزداد، ولكن ماذا أستطيع أن أفعل؟ كان صوتاً خفيضاً، بليداً، سريعاً، يشبه إلى حدٍّ بعيد، الصوت تصدره الساعة، عندما تُلفُّ بالقطن، تنفست الصعداء، فالضباط لم يسمعوه حتى الآن. تكلّمتُ بشكل أسرع، وأكثر حماساً، ولكن الضجة تزداد باطّراد. لماذا لم يذهبوا حتى الآن؟؟ أنا أذرع الأرضية جيئة وذهاباً بخطوات ثقيلة. وعلى الرغم من أن مراقبة الرجال أثارتني وأغضبتني غضباً شديداً، فإن الضجة ازدادت باطراد.
يا إلهي! ماذا أستطيع أن أفعل؟ لقد حنقتُ واهتجتُ وشتمتُ، ودوّرت الكرسي الذي كنتُ أجلس عليها، وحككته بشدة على الأرض، ولكن الضجة طغت فوق كلّ شيء، وازدادت باستمرار، إنها غدت أكثر صخباً.. أكثر صخباً.. أكثر صخباً.. وما زال الرجال يتحدثون بسرور، ويبتسمون. هل كان من الممكن ألا يسمعوه؟
يا إلهي! يا ذا القدرة الكلية! هذا ما فكّرت، وهذا ما أفكّر فيه. ولكن كل شيء كان أفضل من هذا الألم المبرّح، كل شيء كان أكثر احتمالاً من أن تتم السخرية بهذه الطريقة. أنا لا أستطيع أن أحتمل هذه الابتسامات المزيفة أكثر من ذلك. شعرت أنّني يجب أن أصرخ أو أموت، والآن، مرة ثانية.. أصغي! أكثر صخباً.. أكثر صخباً.. أكثر صخباً..
"ساذجون".. لقد صرخت :"لا نفاقَ أكثر! أنا أعترف بصنيعي، أنتزعُ الألواح الخشبية، أستمعُ، أستمعُ، إنه نبض قلبه البشع..
تعليق