يوم استجوبني اللواء جميل الحسن
عدنان عبد الرزاق
2017-09-23
ثمة أسماء أمنيين بسورية الأسد، لم يؤت لها على ضوء وذكر حتى اليوم، ربما يجلس كثيرون في مدارس بطشها وإجرامها، تلاميذ نجباء، من أمثال العقيد سهيل الحسن "النمر"، أو العميد عصام زهر الدين الذي توعد كل سوري يعود إلى وطنه بالقتل قبل أيام، معلناً عن استقلال عصابة الجيش عن نظام الدولة، خلال تسجيل مصوّر بثته وسائل تواصل سورية، لم يستطع الفيديو الثاني "الاعتذار" محوه من ذاكرة السوريين.
وجميل الحسن من تلك الأسماء، وربما يكون في مقدمتها، لما لرئيس جهاز المخابرات الجوية، في منظومة بشار الأسد الأمنية، من جرائم يتناقلها السوريون بألم، بعضها ما سجله من قتل وحشي وبيده، لثوار درعا مطلع الثورة عام 2011، أو ما يحكى عن جرائمه بحق النساء المعتقلات وتمثيله بالجثث.
أذكر ليلة لقائي بالحسن كما لو أنها حدثت للتو، لما حملته من تفاصيل ومفاجآت، ولن أطيل بالتمهيد والتشويق، رغم الأهمية حتى لكتّاب السيناريو أو مؤرخي مرحلة الأسدين، الوريث والوارث.
في ليلة من صيف 1997 وبينما كنت محرراً مناوباً في جريدة البعث، سمعنا كما معظم أهالي دمشق، صوت انفجار قوي، اهتزت لشدته دعائم بناء الجريدة التي شيدها الروس بشكل مقاوم للزلازل والانفجارات.
كما جرت العادة، ولأن صاحب القرار الوحيد هو رئيس التحرير، تركي صقر، والذي حدثتكم عن بعض مآثره خلال رئاسته تحرير جريدة البعث ومديرها العام لفترة وجيزة، امتدت من 1984 حتى عام 2000، اتصلت بالمقسم ليصلني مع المدير العام.
وفعلا وصلني وأعلمت صقر، بتهذيب وصوت منخفض، عن الأنباء التي تواردت وتفيد أن انفجاراً كبيراً حصل شرقي العاصمة السورية. متسائلاً، هل نوقف الصفحة الأولى وصفحة التتمات (في سورية، وقتذاك، كانت الصفحة 11 مرتبطة بالأولى وتنشر فيها تتمة أخبار الأولى) ريثما نستعلم عن الخبر، أم إن شاء حضرته أتابع أنا على الأرض، تفاصيل الخبر ونصور، علّنا نسجل سبقاً للجريدة.
راقت له فكرة السبق، وقال بصيغة الأمر التي لا تقبل الاستفسار والجدل "عدنان خذ مصوراً وسيارة واذهب لموقع الانفجار، واعلمني عن سببه وموضوعه قبل النشر" وأغلق الهاتف.
كشاب متحمس ظن أن فرصة حياته المهنية قد حانت، بسرعة تدبرت أمر المصور والسيارة، وذهبنا أولاً إلى مخيم اليرموك، جنوبي دمشق، نظراً لتواتر الأخبار أن الانفجار في المخيم، أو قريب منه.
هناك، وأذكر أن رئيس قسم الشرطة كان أشقر وضخماً ومن محافظة دير الزور (فاتني اسمه)، وللأمانة تعامل بحماس واتصل لي بقيادة الشرطة وحاول أن يجعلني أمسك رأس الخيط، لكنه لم يفلح، فقال: الدوريات جميعها متجهة لمنطقة شبعا (على طريق مطار دمشق الدولي) اتبع الدوريات وستصل إلى المكان.
غادرنا قسم شرطة اليرموك، بعد أن تواصلت مع الجريدة من هاتف العميد الديري السلكي (لم يكن في سورية هواتف محمولة وقتذاك) وتبعنا دوريات الشرطة، إلى أن وصلنا إلى مكان قريب من قصر المؤتمرات، وهناك توقفت دوريات الشرطة.
تقدمنا شبه متسللين أنا والمصور، وطلبت من السائق أن ينتظرنا بين سيارات الشرطة
نزلت وسألت عن الانفجار ومكانه، ولماذا تتوقف الدوريات هنا، فجاءني الجواب من رجال أمن، يبعد الناس عبر الصراخ وسباب الجميع، وأنه ممنوع اقتراب أي أحد من مكان الانفجار.
تقدمت شبه متسلل أنا والمصور، وطلبت من السائق أن ينتظرنا بين سيارات الشرطة وسيارات المدنيين والدراجات النارية، وفعلاً حالفني الحظ واقتربت من حفرة ضخمة إلى جانبها أشجار مقطوعة، وحولها رجل مهيوب، يسأل بعض سكان المنطقة ومحاطاً بحراسة.
وبدافع الصحافي وربما الفضول أو التهوّر، سألت المزارع الذي يستجوبه العقيد الحسن (كان جميل الحسن برتبة عقيد على ما أذكر) هل شاهدتم ناراً مصاحبة لسقوط الصاروخ، وللأمانة لا أعرف لماذا سألت ذلك السؤال الذي ربما لا طعم له سوى التدخل وأني هنا، وما إن أنهيت سؤالي حتى سألني العقيد "مين هنت ولا؟"
بثقة أجبت، عدنان عبد الرزاق من جريدة البعث، فترك الرجل المستجوب، وبعد استحضاري من اثنين من المرافقة لقبالته، سألني، كيف وصلت إلى هنا ومن أرسلك؟
قلت أنا في مهمة صحافية، وكلمت الدكتور تركي صقر، وهو من كلفني بمتابعة الانفجار لنشره في عدد الغد، وهذا المصور برفقتي، وأشرت إلى حيث كان المصور فلم أجد أحداً (هرب المصور مذ سحبني مرافقوه).
طلب من المرافقة تفتيشي وأخذ بطاقتي الصحافية وهويتي الشخصية، وتوعدني بكلمات مسؤولية ومن العيار الوطني، إن تم نشر أي خبر، وأكد، إن تم نشر الخبر أو الكلام به، فأنا المتهم الوحيد، أخذ بطاقاتي وطلب أن آتيه غدا صباحاً لمكتبه في مطار المزة.. ومن ثم قال "انقلع بسرعة".
عدت لمكان السيارة وإذا بالمصور الذي ينتظرني، يرشقني بحفنة من النصائح التي تتعلق بالتهور ورضى أمي عليّ لأن سيادة العقيد تركني، وذهبنا للجريدة لأكلم المدير العام أولاً عمّا حدث.
أذكر أن تركي صقر تعامل ببرود شككني وكأن العقيد كلمه قبلي، وقال: عادي بكرا روح جيب هويتك، أنهيت عملي وتمت طباعة الجريدة دون خبر الانفجار، وذهبت إلى بيتي لأعيش ليلة ليلاء، رسمت وعشت خلالها، جميع السيناريوهات المرعبة، بعد أن استفسرت من بعض الأصدقاء عن جميل الحسن.
في صبيحة اليوم التالي، ذهبت إلى مطار المزة القريب من مبنى الجريدة، وكنت في حدود التاسعة عند الباب الرئيس، شرحت للحرس قصتي، اتصل بمكتب سيادة العقيد، من ثم طلب إليّ الدخول لغرفة صغيرة قريبة من الباب الرئيس، والانتظار ريثما يناديني.
انتظرت نحو ساعة، لكن أحدا لم ينادني، فخرجت وسألت أول عنصر التقيته "انتظرت ساعة لكنكم ل ..." وقبل أن أكمل، صرخ "ادخل نحن نناديك".
عدت للغرفة التي تحوي تلفاز "القناة السورية" وللأمانة قدموا لي قهوة وسمحوا لي بالتدخين، وذلك حتى الساعة الثانية ظهراً، جاءني عنصر حرس وقال: روح وبكرا تعال الساعة التاسعة.
غادرت إلى الجريدة، وصعدت إلى الطابق السادس حيث مكتب المدير العام، طلبت إلى السكرتيرة رؤيته، وفعلا وبعد أقل من ساعتين، دخلت. وشرحت للدكتور صقر ما حدث، وتساءلت بمنتهى الهدوء والأدب "يا دكتور أنا ماني متهم، ذهبت بناء على طلبكم، يا ليت حضرتك تتدخل، قالوا لي ارجع بكرا"، فهز رأسه وقال خلص خلص، أنا بحكي العقيد جميل...بكرا روح ع المطار.
عشت ليوم آخر بوساوسي التي زادتها شهادات بعض من خدم بالأمن أو الدفاع الجوي من الأصدقاء الذين سألتهم عن الحسن، وترقبت بخوف أن ينشر أي خبر عن الانفجار، وما إن أشرقت شمس اليوم التالي حتى أسرعت لمطار المزة.
على الباب حرس آخر، شرحت له وقلت أني أتيت بالأمس وقالوا لي... قلي خلص خلص، اتصل بمكتب سيادة العقيد، وطلب بعدها أن أدخل إلى الغرفة إياها.
دخلت وأعيد سيناريو الأمس، من تلفزيون سوري وفنجان قهوة حتى الساعة الثانية ظهراً، وقتها، دخل الغرفة شاب أنيق وعلى الأرجح بطل في إحدى الرياضات، كمال أجسام رفع أثقال كاراتيه، وسألني أأنا الصحفي، قلت بأدب أحسد عليه، نعم، قال تعال معي.
ذهبنا مشياً لنحو ربع ساعة أو أقل بقليل، وإذ بمكتب منعزل ومرتفع بنحو عشرين درجة، صعدنا وتركني عند مكتب سيادة العقيد.
قال لي مدير المكتب، انتظر لأخبر سيادة العقيد.
دقيقة عاد، وقال ادخل، دخلت مكتباً ليس من الوثارة كما يجب ويستأهل هكذا عقيد، وكان سيادته خلف مكتبه.
ما إن رميت التحية المسائية حتى قال "شو عم تطبقوا حرية الصحافة يلي علموكم ياها بالكليات" أردت التبرير، فقاطعني: "كلمني الدكتور تركي وقال إنت شاب كويس، بس أوعا اسمع أو أقرأ أي شيء عن الانفجار".
وعدت وأقسمت وابتسمت، أخذت هويتي وبطاقتي الصحافية.. وغادرت متلمساً رأسي كما يقال في أمثال السوريين.
ربما تسألون، وماذا عن الانفجار وأين كان وما قصته؟ وخاصة أنه مرّ عليه عشرين سنة ويمكن الإفشاء به...
الانفجار يا سادة كان قريباً من قصر المؤتمرات، وكان يومذاك الرئيس اللبناني الياس الهراوي يزور الرئيس حافظ الأسد، وما علمته عن الانفجار أنه صاروخ أرض أرض، قيل إنه خرج من قطعة عسكرية سورية عن طريق الخطأ.. ولكن لا معلومات، وللأمانة، لدي حتى الآن، عن مصدر الصاروخ وهدف إطلاقه أو من هم مطلقوه.
م