إنه الدفتر الصغير في جيب أبيك أو محفظة أمك، الدفتر السحري، ذو الاستخدامات المتعددة: جزدان، دفتر حساب، مكان لحفظ بطاقة الباص، وبعض الخمسات والعشرات من النقود الورقية، وصفات الجارات لتحسين “طبخة المحشي تبع بكرة”، ودفتر تسجيل لبعض ألعاب التركس والطرنيب.
مركون بزاوية مقدسة بالقرب مما كان يطلق عليه “التلفون الأرضي” في حينه، معزز مكرم لا يعلوه الغبار لكثرة الاستعمال، فأضحت الطاولة التي يقع عليها منصة للمفقودات، فأغلب المفقودات الصغيرة ستوجد بالقرب منه، فعند سؤال “الست الوالدة” عن “الراشيتات الطبية” ستجيب: بالقرب من دفتر التلفونات. الأقلام المفقودة، علبة السجائر والقداحة، والنظارات، قبل إتمام سؤالك عنها سيجيبك صوتها بتذمر: “جنب دفتر التلفونات”. المفاتيح، المعلومات التي أخذتها من صديقك البارحة عن وظيفة الرياضيات .. أيضاً هناك .. حتى الموبايل “الهاتف المحمول” في مرحلة من المراحل إن أضعته وهو في وضعية الصامت سوف تجده هناك، أجهزة التحكم عن بعد كلها هناك، لتتحول الطاولة التي عليها دفتر التلفونات إلى مثلث برمودا منزلي تجد عليه أشياء لم تجدها في بطن الأرائك أو أسفل السرير.
لهذا الدفتر قدسية وكثير من الرمزية، فعندما تبدأ زوايا أبجدية “أ ب ج” دفتر التلفون الصغير بالتهاوي لقطع صغيرة في الجيوب، كثيراً ما يعاد إلصاقها بالـ”سكوتش” مع عبارة: “لسا بيضاين”. وتعاد كتابة بعض هذه الحروف مع اصفرار أوراقه بمرور الأيام، وتذوب الأرقام في قمصان الآباء عند الصدر، وتختفي بعض الأرقام لتجد ألفاً أو دالاً أو هاءً في أسفل جزدان الأم.. لكن يصعب التخلص من ذلك الدفتر الذي يتغير وزنه مع ما يحمله من أوراق شخصية وغير شخصية.
يحمل هذا الدفتر سجلاً لتاريخ تطور العائلة، فعلى صفحاته، أرقام أول طبيب أطفال ذهبت إليه ولربما ما يزال مسجلاً هناك، إضافة إلى أرقام معاهدك أو أساتذتك الخصوصيين، فبمجرد أن تفتح دفتر التلفون السوري ستتذكر وجوه البقال أبو حسن، وأبو عبدو بياع المازوت وأبو يوسف بياع الغاز. أولى أرقام أصدقائنا كأطفال سجّلناها هناك، لتكتب بخط يدنا بفخر في دفتر الهواتف: “بيت أبو قصي”.
دفتر تلفونات دفتر تلفونات كما وتعتبر من علامات وصول فتى إلى عمرٍ مناسب هي حصوله على دفتر للهواتف ما يعني أن لديه من يتصل به، فيتفاخر مراهقون كثر بإخراج الدفتر أمام أصدقائهم، وغالباً ما يحتوي الدفتر على 3 أو 4 أسماء حقيقية بالإضافة لأرقام العائلة، أما الباقي فهي أسماء وهمية لفتيات وهميات. أما دفاتر تلفونات البنات فلطالما خضعت للرقابة المشددة، خوفاً من أن تكون سميرة سمير ابن الجيران، أو لا سمح الله تكون نوران نور واحد ومذكر وابن اللحام.
من الأرقام التي لا يبرر وجودها إلاّ دفتر التلفونات السوري أرقام جيران الأصدقاء والعائلة، ففي مرحلة من المراحل لم يكن الهاتف قد دخل كل البيوت، فكان على العائلات السورية الاتصال بأبو جوان في القامشلي جار أبو وئام وتيسير للحديث معهم، وفقاً لأوقات محددة، يتم الاتفاق عليها سلفاً.
يتمتع دفتر التلفونات السوري بوجود الكثير من “الأبو” و”الأم”!! وبالأخص أسماء أبو محمد وأبو عبده وأم عبده وأم محمد 1 2 3 4 إلخ .. أو أم محمد1، بيت إحمى أم محمد أرضي ..إلخ، والمميز أن أهل البيت يتمتعون بالقدرة على التمييز بين الأبوات والأمهات أجمعين.
مع رأس السنة، غالباً ما تفكر الشركات بهدية للسنة الجديدة وبعد كثير من الأفكار المبتكرة يعود الجميع إلى الهدية الأمثل إما دفتر للهواتف، أو أجندة للعام المقبل السعيد تحمل في صفحاتها الأخيرة مكاناً مخصصاً لأرقام الهواتف.
من الذكريات الأليمة لدفتر التلفونات السوري وقت التجديد والتي تتوازى مع عملية تغيير الأرقام وتحديثها، بعد تحول الأرقام من خماسية إلى سداسية وفيما بعد إلى سباعية، فكانت هذه المهمة الخاصة تقع على كاهل الابن الأوسط في العائلة الذي بات يقرأ ويكتب ولم يمتلك بعد خاصية التذمر المستمر من المهام الموكلة إليه.
في دفتر التلفون تتمتع أرقام الأطباء، والمهندسين بمكانة خاصة، فيصر السوريون على كتابتها مسبوقة بالدال والميم المشهورة، حتى وإن كان د.حمد قد حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة للعلوم السياسية غير معروفة في ليتوانيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عن أطروحته عن كتاب نجاح العطار نكون أو لانكون (مجلد بجزأين).
بعيداً عن النوستالجيا انتقل فيروس دفتر التلفونات السوري إلى دفتر تلفونات الموبايل، ليعامل كثير من السوريين دفتر التلفونات الرقمي بالطريقة نفسها التي عامل بها ذلك الدفتر الصغير الموجود “في جيبة البنطال الورانية”. فاستخدم بالطريقة نفسها، فهو مكان لتسجيل كود البنك، وكلمات مرور للياهو والهوتميل، وصولاً إلى باسورد راوتر الانترنت فقد كان الوسيلة الأسرع لحفظ الأرقام.
واستمرت عادات دفتر التلفون السوري مع الأجهزة الذكية فيضاف الاسم الأول مع صفة الشخص. فبقي أبو سميح الفوال وبقي سليم مخابرات على دفاتر التلفونات الذكية. وبالطبع ومع الثورة السورية بدأ تمويه الأسماء مع “السيمات المحروقة” فباتت الأسماء حروفاً ورموز وظهرت على دفتر التلفونات السوري أسماء مثل شادي حاجز الميسات، وكريم جواز سفر.. وبينما يتفاخر موالون بامتلاكهم أرقاماً لضباط مخابرات سابقين ولاحقين، يخفي أصدقاء الثورة أرقام أصدقائهم في الأماكن التي خرجت عن سيطرة النظام.
احتفظ السوريون في بلدان اللجوء بعادات دفتر التلفون السوري، ككتابة الاسم الأول للأصدقاء مضافاً إليه اسم البلد، فتجد أسماءً في دفتر التلفونات السوري للاجئ مثل: إريك الدهان، ستيفان مصلح الحمام، أوPhilip FR ، أو Gorge Eng، بالإضافة طبعاً إلى حسان المهرب، ملاذ رفيق سهام من الشام يلي رح يجيب الظرف من دبي.
وتراكمت أرقام حفظناها لسنوات، بما فيها أرقام أبو عبده صاحب المحل الذي كنت تسكن قرباً منه، والذي أصبح في السويد، ولم يعد ذاك رقمه، وأبو جورج البسكليتاتي، وغيرها من أرقام لم تعد بحاجة إليها تظهر على شاشتك وأنت تبحث عن رقم ما، كأرقام طوارئ المياه والكهرباء والتي كننا نكتبها خطأ “طوارق”.
ستراقب وأنت تبحث بين الأسماء أرقام هواتف الأهل والأصدقاء وكيف تغيرت وفقاً لرحلتهم من مكان لمكان، فنجد في كثير من الهواتف: ابن عمي شام، بنت عمي حمص، ابن عمي اليونان، ابن عمي هولندا، بيت عمي أميركا، عمي تركيا، ابن عمي 2 لبنان، بنت خالتي دبي، عمي الصين، بيت أهلي شام، بابا موبايل، ماما مصر، ماما بيروت، ماما تركيا، وأخيراً بابا فرنسا ماما فرنسا. الأسماء الواردة في هذه التدوينة من محض الخيال السوري لذا وجب التنويه
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...