زحمة النهايات
خاص ألف
2017-09-30
عادت وتناولت مجددا هاتفها المحمول بعدما سلمتني فرق ثمن الكتاب الذي اشتريت ووضعته لي في كيس بلاستيكي أبيض عليه علامة الشركة، قلب باللون الأخضر يخترقه شكل كتاب مفتوح محاط باسم دار النشر، راسمة إثر ذلك بشفتيها الرقيقتين ضحكة هادئة في وجهي، بعد أن همست لخليل بكلمات حرصت دون جدوى، على أن لا تتسرب إلى الأذان المحيطة، كي لا أبدو بخيلا، أصررت له فيها على أن لا أعيره الرواية أبدا، وأنه عليه أن يتعلم شراء لأشياء ولا يكتفي دوما باستعارتها.
لكني أنا أيضا كنت أخبث من أسألها عن سبب ذلك الابتسام بصوت، لست ممن يروق للآخر لا شكلا ولا مضمونا، أعرف هذا جيدا بل ومقتنع به مذ وعيت شكلي ونفسي، أذكر أن إحداهن قالت لي مرة، في أرقى وصف تلقيته في حياتي من البنات، عجزت حتى هاته للحظة عن تصنيفه أهو غزل أم ثناء، أم مجاملة كاذبة؟ "أنت متوازن في نسقك ! من يومها دسست هذا التعريف عني المادح المالح في رف سحيق من خزانة ذاكرتي، اسحبه كلما دعت الحاجة إليه أو اقتضاه الموقف، كهاته اللحظة، ولكني فعلا ما قصدت مغازلتها أو إجبارها على أن تبتسم لي بصوت، لأني أدرك أن هذه في النهاية، لا تعدو أن تكون عاطفة تجارية، يا ما ابتسمت لي خادمات الفنادق، ومضيفات الطائرات، وممرضات العيادات الخاصة دون العمومية، لكن سرعان ما تبرد الضحكة مع تمزيق الفاتورة المسددة !
سحبت الكاتب ورحت أورِّقه بأصابعي كالباحث عن صور، مع أني لم أشتهي يوما الكتب المصورة، كل كتب مكتبتي الصغيرة بالبيت صورها بالأحرف السوداء، فتساءلت هل حقا أنا مقتنع بعدم جدوى ابتسامتها من كلامي، وأنها احتاجت ذلك فقط حتى أدفع لها النقود، دخلت في دوامة من التحليل والاستنطاق والتخيل الداخلي، كأني حملت معي روايتان وحدة ورقية والأخرى صورية بدأت تتخلق في خيالي فاحترت بأيهما انشغل مع بداية الشهر الجديد.
لكن خليل ظل وفيا طوال مرافقته إياي المعرض لسماجته في تصرفه المنفلت قولا وفعلا، خصوصا وأنا أبوح له بالحكاية، يعتقد أني اصطنع له الحكي من الروايات التي أصبت مؤخرا بحمى قراءتها بزعمه، هو بذاته من وصفها بحمى مع أنه الأعلم من غيره أنني قديم هاته الحُمى التي وصفني بها، كان أبي يقفل شهره برواية فرنسية ويبدأ الأخر بأخرى جديدة، وكل ما فعلته أني أخذت عنه العادة مترجمة إلى العربية، مذ فهمت منه سر المتعة، لم ينف خليل هذا ولكن سماجاته ورغبته غير المنقطعة في تتفيه الأشياء وجعلها وقودا للضحك والتسلية، لا يسع أحد إيقافها فيه، قال لي:
- اطمئن نحن أيضا قد روضتنا الحكومة على القراءة وصرنا أكثر شعوب الأرض الآن من يقرأ !
- هلا كففت للحظة عن السخرية؟
- كلا، لست أسخر، عزيزي أما أترى أن أوراق الفواتير قد كثرت وتضخمت وتكاد تكتب على وجهتين، ماء، كهرباء، هاتف وضرائب.. فالمواطن صار يقرأ أكثر من 10 ورقات في الشهر أضربها في عدد شهور السنة، صرنا إدا مجتمع يقرأ وقريبا سترسل لنا الحكومة مجلدات من الفواتير، وقتها ستترك الروايات وتتفرغ لأدب الفواتير..
تركته مسترسلا في تهكمه، قبل أن يلاحظ الاستياء وقد غزا مجددا وجهي فعاد يسألني بالجد اللازم عما دار بيني وبين الشابة القابضة بمحل بيع الكتب الأدبية، قلت له
ألم تسمع؟
لا لم أسمعكما.
وأين كان عقلك ؟
في زائرات رفوف المعرض !
ولما تريد أن تعرف الآن
لأفك معك اللغز الذي خرجت به من المعرض !
صحيح أني كنت في حاجة إلى فك اللغز الذي خرجت به من عندها، والذي خشيت أن يتغلب على لغز الرواية التي اشتريت، فاحترت في الرد عليه هل أخبره بما قلته وسبب ابتسامها بصوت أمامي، أم بما أتخيل أنا أنه سبب تلك الابتسامة الصوتية؟
وضع قنينة من فمه، ومسح السائل عصير الخوخ المتسرب من حاشية شفتيه بكم قميصه كعادته في الأكل والشرب من أيام الصغر، ثم أخذ مني الرواية وصار يتصرف معها كما فعلت أنا أول ما دفعت ثمنها للقابضة الشابة قبل أن تبتسم لي بصوت، فعاود مرارا تمرير أوراق الكتاب بسرعة بإبهامه، كأنما يبحث عن شيء ما مخبوء في طياتها، كنت أراقب حركاته وتقاسيم وجهه وهي تتحرك بمنحنيات غير متوازية كالموج الهادر القادم من اقاصي الشاطئ المقبل من البحر، تأكدت أنه يستجمع قواه الجارفة بالأسئلة الجافة، وقد كان فلا، ومع أني حسبت في الأول أنه سيسألني عما تتحدث الرواية، وأجيبه كعادتي بأني لست ممن يضغط العوالم في أقراص بذاكرته لرويها للكسالى من أمثاله، وإذا به ق ألقى الكتاب جانيا في صحن الطاولة أخرج هاته المحمول العريض، يجوب من خلاله رف الفيديوهات وسألني:
هل شاهدت هذا الفيديو لعالم مصريات مصري، حقق أعلى عدد من المشاهدة في اليومين الماضيين؟
وعمَّ يتحدث؟
نهاية العالم حبيبي ! يقول أنها ستكون غدا، بمذنب سيضرب الأرض انصرم من زمن من نبتون وهو الآن على مشارف مدارنا !
لا أهتم في العادة للكلام عن النهايات، كم من نهاية قيلت وأصبحنا في اليوم الموالي في بداية، فكيف بنهاية يرسمها عالم مصري ومختص في المصريات زيادة عن ذلك ! لكني تذكرت ابتسامة صاحبتي قابضة معرض الكتاب، شكلها من هواة الفيديوهات المحمولة على الهواتف الجوالة، تتصفحها كلما فرغت من تحصيل الأثمان، لا أدري إن كانت جادا مع مشكل النهايات وحلقته الأخيرة "نهاية العالم" فقلت لنفسي ماذا لو كان عالم المصريات المصري هذا محقا، هل سألقي بثمن الرواية هكذا هدرا، لن أقدر أنا حقا على قراءة ثلاث مئة صفحة في ليلة واحدة مقدار ما يقرأه العربي في تسعة مائة وخمسة وتسعين يوما ! هل هذا معقول؟ وإذا لم يعد أمامي سوى إعادة الكتاب إلى صاحبه بجناح المعرض الخاص بالأدب، واسترجع دراهمي من القابضة وبالمرة أكتشف إن كانت ابتسامتها الأولى غير جدية بالفعل، ارتحت لهذا الحل المصطنع بعدما شعرت بالحاجة لنفاق ذاتي، حملت الكتاب، وأنا أهم واقفا لأعود إلى قصر الكتاب حيث يقام المعرض وقلت لخليل:
لقد عرفت سبب ابتسامة القابضة بمعرض الكتاب، فهي ربما شاهدت مثلك الفيديو سأعود إليها الآن، تظن أنني لن أصل إلى الاستمتاع بنهاية الرواية، ومع ذلك أصرت أن تبيعني إياها.
ألقيت نظرة على الساعة الحائطية بالمقهى وفوجئت بفترة المعرض المسائية قد انتهت !
بشير عمري
قاص جزائري
عبد الباقي
2017-10-01
عشت تفاصيل هته القصة في ثنايا كلماتها و كأني أرى حتى تفاصيل وجهك ووجه صاحبك فيها . غمرتني رغم قراءتي المسترسلة لها رائعة والروعة فيها اللغة التصويرية . هي باختصار "رسم باللغة"
08-أيار-2021
28-أيلول-2019 | |
10-آب-2019 | |
23-آذار-2019 | |
16-شباط-2019 | |
22-كانون الأول-2018 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |