كعادتي مع غواية الأقلام الجديدة، المصفوفة، بأشكالها المتجددة البديعة على الوجهات الزجاجية بمحلات المدينة، كلما دخلت مكتبة لأشتري علبة سجائر، تتراءى لي كما العرائس العاريات على صفحات المجلات، فتجدني أتهاوى كالمراهق في داخلي وأحرك مصلصلا ومجلجلا ما بجيبي من نقود معدنية لأطلب نموذجًا أو اثنين، لكن حالما أتخطى عائدا عتبة غرفتي ألقي بهما في درج أشيائي وأستمر في الكتابة بالقلم الأول القديم، واحتياطي من الحبر قد زاد، فأخلص في نفسي إلى أني مع سائل الحبر في حشوة القلم كالصائم مع سائل في قنينة العصائر فيقتنيها بالعميائية الغريزية وحين يكسر صيامه لا يجد له رغبة كبيرة فيها، من أول قطرة ماء الغروب تندفع إلى عروقه مع صوت المدفع قوة الله أكبر.
الصيام! كم كنت منضبطا فيه مذ احتفل بي أهلي بالعسل والحلوى وأنا أقتحم تجربته في سن الثامنة، لا أقبل بأن يمر رمضان وقد حذف مني يوما من يوميات جوعه وعطشه، ومع ذلك وجدتني مع من حشروا في تلك السيارة المغلفة بالسواد، أرى من خلف زجاجها الناس ولا يراني أحد سوى الله والجن، وكنت مصرا على أن الجن يرونني من حيث لا أراهم، فالزجاج المطلي بالسواد الخادع لا يحجب عنهم رؤياي. كانت أداة الجريمة بائنة عليهم، رائحة الكرانتيكا* والبيض المسلوق من أمس تنبعث ممن هم حولي من أولئك الشباب الذين ضبطوا في الزوايا القصية من حواري الحي، وأنا الحريص على عدم فتح فمي لأني لو فتحته لاختنق الكل من الخلوف النتن الذي يملؤه بسبب الجوع والعطش.
نظر إليّ رئيس المخفر، بعينين يغيبان داخل محجريهما وينسدل عليهما كالجريد اليابس من عنق النخلة ليحجبهما عن الرؤية حاجبان كثان يغزوهما شيء من الشيب. كان شباب منطقة الجديد يسمونه الجن، لأنه يرى بعيون أعوانه ويعرف ما يدخر الناس ببيوتهم بل بمعدهم من طعام. مرة كتبوا على أحد حيطان مجموعة سكنات حي المسلمين البالية التي بناها الاستعمار، من عجائب الحي أن الجن تجلى به، يقصدون القبطان سلطان بعد أن وصلنا دائرته وأغلق خلفنا الأبواب، وأنا كل خشيتي أن يقول لي افتح فمك لنتأكد من صيامك، وتساءلت حينئذ لماذا لم يخترع المسلمون أداة لكشف حالة الصيام من عدمها، بالنفخ في أنبوب جهاز مثل ذلك الذي اخترعه الغربيون لمعرفة نسبة الكحول عند سائق السيارة في الحواجز الأمنية، كان ذلك سيسهل على مصالح الأمن التقاط من يخل بنظام الصيام، فلا تحتاج الشرطة إلى مخبرين عن غير الصائمين ولا استكمان المنتهكين للشهر الكريم. لعنت هذا التخلف، وقلت في نفسي أكيد سوف يطلب رؤية لساني إن كان بساطه قد ابيض وتيبس كالحطبة جراء الظمأ المأجور وقربان الجوع، وساعتها سيقرف مني ويضحك الجمع من رائحة أمعائي المتصاعدة إلى فمي، وليس بذاكرتي من الدين ما أرد مدافعا به عن نفسي وموقفي. وبعد صمت ساد حدود الدائرة التي رسمها في أذني بقرع كعب قدمه وهو يطوف حولي سألني من دون اختبار لساني: لماذا فعلت هذا؟
حيرني الأمر في البدء، غير أني عدت وافترضت أن القبطان سلطان يكون قد سجل أول إخفاق له في معرفة سر أحد الأهالي، وأن الرقيب المكلف بي يكون قد رفع تقريرا خاطئا عن حركة فمي وهو يجتر ما تدفع به معدة الذاكرة من وساوس المكان والزمان، ولم يحسن استراق صوت جهازي الهضمي في لحظة من لحظات يومي، ساعتها ازداد يقيني بأنني موضع خطأ ولست ممن توجب اعتقالهم في قارعة الشارع في برنامج ذلك اليوم، لكن ما السبيل للتدليل، فلا قارورة ماء ضبطت معي، لأني في العادة لا أشرب إلا ماء حنفية البيت الذي أبيته في قلة طينية حمراء، اشتريتها من عطارة عمر أخي مبروك، ولا صورة التقطت لي وأنا أشعل سيجارة في قارعة الطريق أو تصاعد دخانها من سقف بيتي، ولا علبة سجائر وجدوها في جيبي، ولم أذكر أني ثبّتُ النظر في امرأة بأزقة الحي الجديد الذي أقضي فيه ثلاثة أرباع يومي، وكل نسائي هن من خزينة ذاكرتي وإنتاج خالص من خيالي وليس الصوم عن الخيال بالمستطاع، فقد نمسك عن الأكل والشرب والجنس لفترة ما إلا الخيال، فهو كجهاز المناعة دائم العمل، يسد فراغات الصمت القاتل. الخيال أقدم سينما صامتة ركبت داخل الإنسان ولا تتوقف حتى يموت، وكم أتحسر على الخيالات المدفونة في المقابر حين أزور كل جمعة قبر أبي، وكيف لم تخرج من هؤلاء وكيف ماتوا بها وربما نعيش نحن بها لكن من دون أن ننسبها لأحد منهم، هي الأنفس مقبرة للأخيلة الحية، صارت ثروة غير متجددة طمرت تحت الثرى، وحين أقرأ على شواهد القبور لا أجد سوى اسم ولقب وتاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة وطلب الدعاء بالمغفرة للميت فأرفع رأسي لأرى مساكنهم الطينية ذات السقوف الصفيحية بالحي الجديد وأقول في نفسي من قال إن السينما الصامتة نطقت هنا، فوجدتني اللحظة أستنطق نفسي وأستحضر الأسئلة التي يتوجب عليّ أن أستحضرها من باب أن المسؤول أعلم بها من السائل، لكنه كان عليّ أن ألتزم بمنطق اللحظة وأجيب عن سؤال القبطان سلطان، فرحت أجيب بسؤال:
ـ ما الذي فعلته سيدي؟
ـ ألا تعلم بأنها نعمة وعلينا أن نحمد الله عليها ونشد عليها، وأنت العارف المثقف الراقص بالقلم؟
ـ بلى هي نعمة لكني ملتزم بها، ومستمسك بها!
وهنا ثارت ثائرة الضابط، كنت أرى الصومة وقد طارت من فمه، وأنا أقيس بقاياها بما لديّ من مسطرة الشريعة التي اكتسبتها سنوات الثمانينات، من دكاكين الوعظ ذات السقوف الجريدية والأعمدة النخلية بالوادي الجاف للحي الجديد، غير أني أبقيت على تلك المسطرة مخفية في أغوار ذاكرتي ولا أدري حتى كيف طلعت من ظلمة تلك الأيام.
ـ ليس لدي وقت للمسخرة الكلامية، أنت تكسر الصمت وتكثر من الصوت الناشز!
وطرح أمامي عديد أقلامي التي أغوتني في مكتبة ناصر بمنطقة بورياح بالحي الجديد، المكتبة التي تاجرت في كل شيء إلا الكتاب، أقلام بعضها فرغت جعبة حبره البلاستيكية وبعضها لا يزال مشروع كلام قادم تأكدت أنه قد أجهض طالما أنه دخل هذه الدائرة الأمنية، نسيت تهمة الصوم وحتى الصمت والصوت، وحتى قبل أن أخرج السؤال أجابني بحنق ونزق:
ـ اقتحمنا بقوة القانون غرفتك بالبيت الطيني على ضفاف الوادي الجاف بالحي الجديد، فوجدناك متلبسا بعدم الإمساك، والقانون واضح هنا.
وقتها فهمت أن رائحة فمي ليست تهم في شيء، وأمعائي الخاوية ليست تعني شيئا في رحلتي القسرية إلى قصر السؤال الأمني الكبير، وكم من أمعاء جاعت واستمتعت بحرية الجوع دون رقيب ولا حسيب، ولو قدر وأنشئت جائزة للصائمين قسرا من الصابرين والصامتين لتوج بها نصف الحي تقريبا!
"ما أغباني..".
قلت في نفسي روائح الفم لا تهم وروائع الكلم الذي يخرج منه عبر القلم هو الذي سيكون محل تفتيش.
عاد الضابط وطرح أمامي كل فصول الروايات التي طبعوها مباشرة من مواقع الجرائد والشبكة العنكبوتية حيث أرسم الأحلام وأقص رؤياي على غير إخوتي، فقال لي:
ـ الشرعية ثابتة وليست تحتاج صوتا نتنا منك، والشريعة صامتة والكل مذعن، وقبل أن نرسل بك إلى القاضي لينظر في شأنك، قف واستدر باتجاه الحائط.
سمعت صوت سحب لطاولة طويلة، يعاد ترتيبها وتوضع عليها أشياء بلا أصوات محددة، ثم صار فلاش آلات التصوير ينعكس من الحائط على وجهي، قبل أن يطلب منى الاستدارة، فوجدت أقلامي على الطاولة وكل منشوراتي المطبوعة، فوضع القبطان سلطان ورقة أمامي قائلا:
ـ امض هذا التعهد..
ـ أي تعهد؟
فحصت الورقة كاملة أمامي وصرت أقرأها بتمعن، والعطش يكتسح آخر مساحات من جسمي والأوكسيجين يتقلص في دمي، وأمعائي عواؤها صار بالمدينة صدى لعواء الذئاب في قرِّ الشتاء بقعر الغابة يتعالى في ظلمة المكتب الذي لم يستطع الضوء الخافت لمصباح ضعيف أن يبدده، ولا أدري كيف أعاد العنت مسطرتي الشرعية للظهور والحضور في مأزق لحظتي تلك وحولت كل كلمات الورقة التي عليها نقطة بالقلم تشير إلى الموضع الذي علي التوقيع فيه، ورقة تبدو خشنة قديمة، تميل إلى الصفرة، لا أدري أمن قدم تاريخ صناعتها أم من طبيعة المنتوج، متروك في أسفلها موضع الإشارة إلى تاريخ التحقيق فارغا عبر نقاط متتالية ليُملأ بالقلم، مطبوعة على آلة الرقن القديمة برغم وجود الحاسوب أمامي على مكتب كاتب الضبط.
وبعد أن وقعت على التعهد وخرجت مغادرا الدائرة الأمنية، رن هاتفي المحمول فصاح في أذني:
ـ أينك يا رجل لقد عطلت عملنا، هيا عجل لنا بإرسال المادة أرجوك، فالمطبعة تطالبنا بإحضار العدد للطبع..
تظاهرت بأن المكالمة كانت خطأ، ورحت أسرع في الخطو مبتعدا عن الدائرة الأمنية، وأنا أقول بصوت مرتفع بأني نذرت اليوم صوما فلن أكلم أحدا لعشرية!
وقبل أن أدخل إلى أحشاء الموبايل لأسحب منه الشريحة وأكسرها بأسناني وأسحقها كما عقب السيجارة بكعب حذائي، سمعته لآخر مرة يقول لي:
ـ لست مخطئا في الرقم، أنا رئيس التحرير أكلمك من لندن.. هل تسمعني..؟
ثم انطفأ الصوت!
*كاتب جزائري
ــــــــــــــــــــــــــ
* الكرانتيكا أكلة شعبية، تُعدّ من مادة الحمص الغذائية، تباع في غرب الجزائر ويتناولها الفقراء على نطاق أوسع.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...