لجحش أفهم من صاحبه! كان والدي، رحمه الله، رجلاً مسالماً رغم خدمته في سلك الشرطة "الوطنية"، مع بداية الدولة الوطنية، التي كان من شروط الانضمام إليها أن يحمل المتقدم الشهادة الابتدائية، وأن يكون قادراً على تطبيق القانون، دون عسف وطني في التنفيذ. وهكذا التحق والدي في سلك الشرطة في بداية الخمسينيات، وأعتقد أن السنة كانت عام 1950. قبل ذلك، لم يكن يملك الوقت للجلوس معنا، نحن أولاده، إلا بعد أن نال تقاعده عام 1970، وهو عام استيلاء حافظ الأسد على السلطة في سورية. وبعد أن افتتحت مكتبة لبيع الكتب في حمص، كان حاضراً دائماً معي، يروي لي، عندما يكون راضياً عني، بعض الحوادث الطريفة التي جرت معه في طفولته وشبابه، أو التي كان قد سمعها من الأشخاص الأكبر عمراً. من تلك القصص، هذه الطرفة التي سمعها من الجيل الأكبر عمراً. في عشرينيات القرن الماضي، انشغلت القرى الأرثوذكسية، الواقعة في "جبل الحلو"، بالتحضير لزيارة "المطران"، وهو حدث جلل يحصل أقل من عدد المرات التي يقول الناس فيها إن "العدرا" ظهرت لهم، فكان لا بدّ من أخذ كافة الاحتياطات التي "تبيّض" وجه مختار وأعضاوية قرية "ب"، وهي القرية الكبيرة التي سيزورها المطران الأرثوذكسي، وفي الوقت نفسه كي تغيظ القرى "المارونية المارقة" القليلة في المنطقة. وصلت دعوة من مختار "ب" إلى مختار قريتنا للحضور والتشرف بتقبيل يدي المطران والتبرك بلمس عباءته، ونقل ما سيقوله لسكان القرى الأرثوذكسية في الجبل. في ذلك الزمن كانت وسيلة التنقل الأشهر هي الجحش (الحمار)، فهو ليس بحاجة لمن يرشده إلى الطريق، يكفي أن يعرف، الذي يعتلي ظهره، التحكم جيداً "بالرسن"، وسحبه يميناً أو يساراً، مع استخدام القدمين "لنكل" بطن الحمار، لحثّه على تنفيذ أوامر "القائد". في صباح يوم السفر، كان الحمار جاهزاً؛ حمولة جيدة من الهدايا التي تم جمعها من الفلاحين، جاطان نحاسيان من العسل البري، لأن المواد المغشوشة من السمن والعسل تضر بصحة المطران، ومرضه قد يستدعي غضب يسوع المسيح وأمه مريم، لأنهما يحبان المطران، لذلك يجب تقديم أفضل ما عند الفلاحين كي يبقى بصحة جيدة. بالإضافة إلى ما سبق ذكره، كان مختار قريتنا قد جمع أفضل "ديوك" القرية، وبعد ذبحها وتنظيفها تم وضعها في "الخرج" الموضوع على ظهر الحمار المسكين. ولأن زوجة مختار قريتنا تربطها قرابة دم مع مختار قرية "ب"، كان لا بدّ من حمل بعض الهدايا العائلية له، مثل "ألفيّة عرق"، وكيس من زبيب العنب، وبعض "هبابيل التين المجفف"، وكل ذلك تم وضعه في خرج الحمار، وما زاد عنه تم وضعه في صرر قماشية مربوطة على جانبي "الجلال". بعد التأكد من أن كل شيء في مكانه، صعد المختار على ظهر حماره ونكله في بطنه معلنا بداية الرحلة "المقدسة". المسافة بين القريتين لا تتعدى خمسة كيلومترات، ولكنها في الواقع تعادل أكثر من مشقة السير عشرين كيلومتراً، لأن الطريق وعر متعرج، ويجب صعود جبال وهبوط وديان من أجل الوصول. كان الاحتفال مهيباً، فقد حضره "المؤمنون" من القرى المجاورة، وكان الطعام وافراً. وقد اهتم مختار قرية "ب" بمختار قريتنا لأسباب متعددة، وأجلسه قربه، غير بعيد عن المطران، ووضع أمامه صينية مليئة بأقراص الكبة المشوية، المدهونة بالسمن العربي. وبمجرد مباركة المطران للطعام، بدأ الناس بتناول وجباتهم. همّ مختار قريتنا بالنهوض، معلنا شكره للداعي، ولكن صاحب البيت أصرّ عليه أن يتابع أكل الكبة الشهية، فليس كل يوم يتوفر اللحم والسمن والبرغل لتحضير هذه الوجبة الفاخرة، مقدماً له بيده "قرصاً" من الكبة، طالباً منه أن يأكله من "شان" زوجته أم جورج، فأكل الرجل أول مرة، والمرة الثانية كانت من شان المختار، والمرة الثالثة كانت من شان المطران، وهكذا إلى أن كاد الرجل يسقط أرضاً. بعد انتهاء الغداء، قبل الرجل يدي المطران وشكر قريبه المختار وصعد على ظهر حماره، الذي خفّ عنه حمل العودة كثيراً، وأطلق له "الرسن" للعودة إلى البيت. في الطريق كان صوت الماء المتدفق من نبع جبلي يغري العابر قربه بالتوقف والشرب، فكان الحمار سباقاً بالتوجه للنبع، شرب حتى ارتوى ثم رفع رأسه معلناً الاكتفاء، والاستعداد لمتابعة السير، ولكن المختار الذي بدأ يتألم من البرغل الذي "نفش" في كرشه، طلب من الحمار أن يشرب أيضاً، وعندما لم يستجب الحمار للطلب، "نكله" بكعبيه في بطنه، قائلا له: من شان أم جورج اشرب أيضاً، فلم يستجب الحمار، كرر المختار: من شان المختار خود غبة ماء، ولكن الحمار حرن ولم يقرب فمه من الماء، قال المختار: هذه المرة لن تستطيع الرفض: من شان المطران اشرب أيضاً، فبقي الحمار صامداً في رفضه. عندها قال مختار قريتنا حكمته التي ذهبت مثلاً: والله يا حماري، طلعت أفهم من صاحبك، وبتعرف أكثر منو شو بيفيدك وشو بيضرك….
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...