طاولة مستديرة لتحضير الفتّة!
ميخائيل سعد
2019-01-12
رنّ الهاتف، فانتفضتُ، وهو رد فعل “سوري” لم أستطع التخلص منه رغم مرور السنوات، وإذ بأحد المعارف القدماء يدعوني إلى عشاء على “طاولة مستديرة” -وهذا تعبيرٌ للإشارة إلى ديمقراطيته- يتم أثناءه مناقشة الثورة السورية ومآلاتها بعد ثلاث سنوات من انطلاقتها. قبلت الدعوة لسببين: أولهما الحديث عن سورية وثورتها، وثانيهما العشاء مع آخرين، الأمر الذي يُعدّ مكسبًا بحد ذاته، عند هذا “السوري” الذي يُوصف بالبخل الشديد، علمًا أن هذا الوصف لا يزعجه، فهو يعتبره من علامات التأقلم مع “الغرب” الذي لا يحبّه، ولكنه يتأقلم مع قيمه عندما يريد جمع المال فقط.
كنت أقرع الباب قبل الموعد المحدد بخمس دقائق، وكان قد سبقني حوالي عشرة سوريين. جلسنا قليلًا في الصالون الفاخر؛ مساحة وفرشًا، ثم طلب منا صاحب الدعوة الانتقال إلى غرفة الطعام لتناول المقبلات، التي ستفتح شهيتنا على الحديث السوري. كانت غرفة مميزة فعلًا، وطاولتها الدائرية منسجمة تمامًا مع بقية خزائن العرض زجاجية الواجهات، التي تحوي كثيرًا من الفضيات والخزفيات، ولكن ما لفت انتباهي هو زوايا “العفش” كله؛ في الصالون وفي غرفة الطعام، كانت كلها مدورة! قلت لنفسي وأنا أبحث عن كرسي فارغ أحتله: كفاك يا رجل ظنونًا بالناس، وتفسيرات مرضية عن الزوايا المدورة، والطاولات المستديرة والكلام المدوّر، وتعلّم أن تقبل الآخرين كما هم، فالسوريون يقومون بثورتهم من أجل العدالة والحرية والديمقراطية. عندما جلست على كرسي مقابل صاحب الدعوة، كنت قد وبخت نفسي الأمّارة بالظنون، بما يكفيها لترتدع عن غيّها وشكّها بالناس.
كانت الابتسامة المرسومة بعناية، لا تفارق وجه الرجل، وهذا لا يتناسب أبدًا مع سمعته وبخله. فجأة دخلت سيدة وبيدها “طشت” من الخبز اليابس ووضعته وسط الطاولة، وباليد الأخرى “زبدية” من الفخار، وضعتها أمام صاحب البيت، ثم خرجت.
شرح لنا الرجل، باستفاضة استراتيجية، العملَ لتحضير صحن الفتة، معتبرًا هذا التمرين مدخلًا للعمل الثوري وتدريبًا عليه، وأنه يجب على كل واحد منا أن يُعِدّ طعامه، وأن عليه أن يأخذ قطع الخبز اليابس ويكسّرها إلى قطع صغيرة، ثم يحملها ليضعها في الزبدية، التي يجب أن تبقى أمامه دون أن تتحرك، لأسباب سيشرحها لنا فيما بعد.
باشر المدعوون العمل، كما طلب السيّد، وكنت أغلي غضبًا، وهو يتكلم قبل الوصول إلى مرحلة العمل. أخذت أول رغيف يابس وكسّرته، ووضعته أمامي على الطاولة وليس في الزبدية. قال صاحب البيت: يا أخ ميخائيل إنك تفتّ خارج الصحن… اعتبرت نفسي لم أسمع، وقررت المتابعة على أمل أن أنهي العمل، ثم أحضر الزبدية لأضع الخبز فيها، وتابعت التكسير بطريقتي؛ وإذ بصوت صاحب البيت يعلو، متخليًا عن ابتسامته، قائلًا بنبرة زاجرة: أخ ميخائيل، عدتَ مرة أخرى للفتّ خارج الصحن، وعدم التقيد بشروحاتي. توقفت عن العمل ونظرت في عيني المضيف قائلًا: إذا كنت تريد أن تركب على أكتافنا، بصحن فتة حمص، فماذا ستفعل بنا لو كانت الدعوة على خروف محشي مثلًا؟! بل ماذا ستفعل بسوريا كلها إذا أصبحت حاكمًا “ثوريًا”، لا سمح الله؟
تركتُ البيت وأنا أكاد أطير فرحًا بحرية الانعتاق من شروط الفتة والطاولة المستديرة والمزايدات الثورية.
قد يقول أحدكم إن تصرفي غير مبرر وليس مهذبًا. وكان يمكن أن أوافق على ذلك، لو أنني لا أعرف أن الرجل كان، حتى وقت قريب، يدفع تبرعات سخية “لشبيحة” النظام ليتم إرسالها إلى دمشق.