الطائفية وصراع المتشابهات /2
مروان عبد الرزاق
خاص ألف
2017-10-22
3 التدخل الأجنبي-الاستقلال
وبالمقارنة، كان وضع المسيحيين واليهود، أفضل من الطوائف الإسلامية، أي الشيعة والإسماعيليين والدروز، رغم عدم المساواة بينهم وبين المسلمين، وفرض الجزية عليهم، وشروط أخرى لاإنسانية، كحرمانهم من ركوب الخيل، ووضع صليب حديدي في الرقبة، وبسببه كانوا يسمون أقباط مصر "عظمة زرقاء" إلخ.
وكان "نظام الملل" العثماني، ينظم علاقة الدولة مع أفراد المجتمع وفق انتمائهم الطائفي وعن طريق رؤسائهم الذين حصلوا على صلاحيات كاملة للتحكم في شؤون الطائفة دينياً ومدنياً. إلا أن هذا النظام مع إنه كان يكفل نظرياً الحرية الدينية للطوائف غير الإسلامية، إلا أنه رسخ التقوقع الطائفي والمذهبي في المجتمع.
وخلال القرن التاسع عشر "اتسع التصدّع القديم عبر القرون المختلفة بين السنة والأقليات الدينية، نتيجة التدخل الروسي والفرنسي والبريطاني في شؤون الخلافة بحجة حماية الأقليات، مما ولَد كراهية السنة للأقليات واعتبارهم خونة" (19). وفي (1839) أصدر الخليفة قانون "التنظيمات"، ثم القوانين التي عرفت ب "الخط الهمايوني" عام (1856) والتي بموجبها يتساوى مواطنو السلطنة بالحقوق والواجبات بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو قوميتهم، في محاولة لحركة إصلاح "الرجل المريض". لكن هذه الإصلاحات الإدارية، لم تمنع الصراع الطائفي والمجازر التي حدثت في لبنان، مثلاً، عام (1860) بين الموارنة المدعومين من فرنسا، والدروز المدعومين من العثمانيين، والتي بلغ ضحاياها بعشرات الآلاف. وكذلك الاضطهاد التاريخي والمجازر بحق السريان والشركس والأرمن، قبل وخلال الحرب العالمية الأولى (1915) وبعدها، حيث تشير الإحصائيات إلى أرقام مختلفة حول عدد الضحايا تقدر بمئات الألوف، وتم تهجير الباقين إلى سورية والعراق.
في العموم "كانت المجموعات المحلية العشائرية واللغوية والدينية تشكل في مجموعها جاليات مغلقة. وكانت هذه الجاليات هامشية وبعيدة عن السلطة وصنع القرار التاريخي" (20). "وظل نظام المجتمع المغلق سارياً خلال النصف الأول من القرن العشرين، والذي سماه في الأربعينيات (جاك ويلرس) بعقدة الأقليات، ووصفها كالآتي، "حساسية جماعية مرضية تجعل أي تحرك لجالية مجاورة يبدو وكأنه خطر محقق، أو تحد لهذه الجالية، فتقوم بتوحيد كل المجموعة بالكامل أمام أدنى هجوم أو تعد يُرتكب ضد أي من أعضائها" (21)
ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتبدد حلم العرب بإقامة دولتهم القومية. ثم جاء تقسيم سايكس-بيكو لبلاد الشام، وإخضاعها للانتداب الفرنسي والبريطاني، ليدشن مرحلة جديدة، وخضوع العرب للسادة الأوروبيين الجدد.
حيث عمل الانتداب الفرنسي في سورية على "تحريض الولاءات الطائفية، والتقسيم الطائفي للمدن السورية"، وكذلك "تجنيد العلويين والأقليات في الجيش واستخدامهم لقمع الفتن والانتفاضات" (22) مما ساهم في المزيد من العداء الطائفي بين "السنة" من جهة، وباقي الأقليات من جهة أخرى. لكن التقسيمات الطائفية للمدن السورية اللامنطقية، واللاواقعية لم تستمر طويلاً، لأنها لم تمتلك الأسس الاقتصادية والجغرافية لاستمرارها، وقد تم رفضها من قبل السوريين بكافة طوائفهم.
و"عندما نالت سورية استقلالها عام (1946)، كانت دولة في كثير من النواحي، دون أن تكون أمة، وكانت كياناً سياسياً، دون أن تكون مجتمعاً سياسياً" (23). حيث كان الشعب السوري ممزقاً بين ولاءاته المناطقية والطائفية الداخلية من جهة، والانتماءات القومية والإقليمية من جهة أخرى.
وإن هشاشة في "الطبقة" السياسية، ونظام المجتمع المغلق عموماً، والتنافس الانقلابي على السلطة، جعل من الجيش الأداة الأهم في الحياة السياسية، وانقلاباته المستمرة والتي بلغت عشرة انقلابات بين عامي (1946-1970). بمعدل انقلاب كل عامين.
ومع كل انقلاب كان يرافقه تصفية جديدة، ومحاولة لتفصيل دستور جديد. ولذلك اكتسب تركيب الجيش أهمية قصوى. وقد تزايد عدد المنتسبين للجيش من الطبقات الوسطى والفقيرة بعد الاستقلال، مترافقاً مع تشكل البذور الطائفية الأولى في الجيش. وحسب بطاطو "في عام 1955 بلغ عدد ضباط الصف من العلويين نسبة 55%".(24). ومع أن التجار "السنة" القاطنين في المدن كانوا يبتعدون عن التطوع بالجيش، إلا أنهم كانوا يشكلون نسبة لا بأس بها من الضباط.إذ نلاحظ أن قادة الانقلابات الثلاثة (حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي) كانوا من السنة. بالإضافة إلى "النحلاوي" الذي قام بانقلاب الانفصال، وهو من الضباط الدمشقيين.
بعد انقلاب الانفصال (1961) أصبح الاستقطاب الطائفي أكثر وضوحاً. حيث "وصل الضباط الدمشقيون إلى أوج قوتهم بقيادة "النحلاوي"، لكن سرعان ما تم انهيار قوتهم، بسبب "عدم دعمهم من غير الدمشقيين"، وبسبب "عدم طاعة الجنود وضباط الصف لأوامر قادتهم الدمشقيين بتحريض من الشيوخ العلويين والسنيين" (25) "وتم طرد النحلاوي ومن معه من الضباط الدمشقيين (1962) واستبدالهم بضباط من الريف يضمرون الحقد والكراهية للدمشقيين" (26).
لكن رغم أن نظام المجتمع المغلق، كان يتضمن الطائفية الكامنة في "عقدة الأقليات". إلا أن التاريخ لم يسجل-بحدود معلوماتي-أية صراعات دينية، أو طائفية عنيفة، منذ الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية، وحتى صعود البعث. وبالعكس استطاعت الروح الوطنية التي قاومت الانتداب الفرنسي، أن تتغلب على التقسيمات الطائفية التي عمل عليها الفرنسيون، وتعيد لسورية وحدتها الوطنية. وكذلك بعد الاستقلال، لم يكن للعامل الطائفي أي دور في الصراعات السياسية، والانقلابات العسكرية التي سادت في تلك المرحلة. وربما يعود ذلك إلى أن اللاعبين السياسيين، بمن فيهم جنرالات الانقلابات، كانوا من "السنة"، والإسلام السياسي الممثل بــ "الإخوان المسلمين" لم يتجذر ويكتسب القوة السياسية والاجتماعية والعسكرية، في الساحة.
4-انقلاب (1963)
ليس صدفة أن يتم تشكيل "اللجنة العسكرية" البعثية عام 1959، للإشراف على تنظيم الجيش، والتي ضمت خمسة عسكريين وأن يكون جميعهم من الأقليات- ثلاثة علويين واثنان إسماعيليان-(محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد والمير والجندي). ثم توسيعها إلى خمسة عشر مع محافظة العلويين على الأكثرية عام 1963، والتي شكلت العمود الفقري لانقلاب(آذار-1963) ثم انقلاب(23شباط-1966). "واختلفت اللجنة العسكرية عن قياديي البعث الكلاسيكي الذين كانوا من المدنيين ويفضلون العلاقات السياسية العلنية على التخطيط السري المميز للسياسة العسكرية"(27) التي اتبعتها اللجنة العسكرية في التحضير للانقلاب، وتطييف الجيش واعتباره الأهم من الحزب.
ومن الطبيعي أن تتصف العقلية العسكرية بالانقلابية. وإذا أضفنا انتماء القادة العسكريين إلى الطبقة الفلاحية، وأيضاً الأقلوية المذهبية، نستطيع أن نتفهم العقلية التي رسمت استراتيجية النظام منذ انقلاب (1963) وتكتيكاته اللاحقة. والتي اعتمدت على القوة العسكرية، أو العنف بالدرجة الأولى، والسرية، والتآمر، وتجريم الطائفية، والقوة المفرطة تجاه الآخر المشبعة بالانتقام والثأر.
وقد وضع انقلاب (8آذار1963) الأسس الأولى لسيطرة الضباط البعثيين. وكان التآمر على حلفاء الأمس من أهم التكتيكات التي اتبعها الضباط البعثيون.
وفي البداية تحالفوا مع الضباط الناصريين والوحدويين. إلا أن الضباط البعثيين بدؤوا "باستدعاء العديد من الضباط وضباط الصف الذين تربطهم بهم أواصر عائلية أو عشائرية أو إقليمية(محلية)، لتقوية مراكزهم الجديدة" (28). ومقابل ذلك شملت التسريحات مئات الضباط وضباط الصف من أبناء المدن الكبرى وخاصة من "السنة"" (29). وتوالت الأحداث بسرعة، حيث انسحب الناصريون والوحدويون من مجلس قيادة الثورة والوزارة (أيار1963). وتوج الخلاف بالانقلاب الثامن الفاشل لجاسم علوان الناصري(تموز1963). وكانت فرصة للبعثيين بتصفية الناصريين والوحدويين في الجيش، وكانوا أغلبيتهم من السنة. واستكمال الاستدعاءات لملء الفراغ. وأغلب الذين تم استدعاؤهم كانوا من الأقليات، وبشكل خاص من العلويين (30).
وبعد تطهير الجيش من الناصريين، أصبح التكتل الطائفي في الجيش واضحاً وعلنياً، ضد السنة. لكن هذه المرة ضمن حزب البعث. "وبدأت روائح هذا التكتل تفوح بقوة". وبدأت اللجنة العسكرية وأغلبها من الأقليات، وهي المسؤولة عن تنظيم أمور الجيش، بترتيب وضع الجيش وفق الولاء الطائفي، والسيطرة على مراكز القوة. ولإرضاء أهل السنة، وحتى لا تبدو الأمور مكشوفة كان يتم إسناد بعض المراكز العليا لضباط سنة. لكن "إشغال وظيفة عسكرية عليا لا يعني بالضرورة التمتع بسلطة مستقلة" "إذ كان الولاء الطائفي يعلو على الانضباط العسكري" (31).
واتهام أمين الحافظ لصلاح جديد بالطائفية. أصبح واضحاً وجود انقسام معسكرين في الجيش، تكتل الحافظ السني، مقابل تكتل جديد والأسد العلوي، مدعوماً بالضباط الدروز بزعامة سليم حاطوم. وانتهى هذا الانقسام بالانقلاب التاسع(23شباط1966)، وسيطرة الأسد وجديد، وتصفية بقايا الضباط المعارضين من اتباع أمين الحافظ.
وبعد شهور قليلة، تلت الانقلاب الفاشل لسليم حاطوم "الدرزي" في (أيار 1966) تمت تصفية الضباط الدروز، ثم بعض الضباط الحوارنة(1968-كتلة أحمد سويداني)، "بحيث لم يعد ممكناً تشكيل أي تكتل خاص بهم في الجيش". وقد وصف سليم حاطوم النظام آنذاك "دولة علوية ذات رسالة خالدة"، بعد هروبه إلى لبنان. والمقصود بذلك صلاح جديد وحافظ الأسد. "وقد بقي الكثير من الضباط السنة، لكن أهميتهم، أن كانوا مهمين، كونهم أفراداً، لا جماعات، وبالمعنى الاحترافي أكثر منه بالمعنى السياسي" (32).
ثم انتقل الصراع إلى داخل البيت الواحد الحزبي والطائفي معاً. بين صلاح جديد وحافظ الأسد. وتم تقاسم المواقع. حيث سيطر الأسد على الجيش، وفصل الجهاز العسكري عن المدني. وسيطر جديد على الجهاز المدني. ومن الطبيعي أن لا يحتمل النظام الاستبدادي، أو السلطاني الجديد، وجود أكثر من طاغية واحد. ومن الطبيعي أيضاً أن ينتصر صاحب القوة الفعلية على الأرض، وهو الجيش. وتم ذلك في الانقلاب الأخير، في (تشرين 1970) تحت عنوان(التصحيح)، بقيادة الطاغية حافظ الأسد، وإرسال قيادة الحزب والدولة إلى السجن حيث قضوا بقية حياتهم هناك. وتم العمل على تنظيم الجيش بقيادة الضباط العلويين، بحيث لم يعد ممكناً تكوين أي تكتل في الجيش من خارج البيت أو من داخله.
فالمعيار الأساسي في تشكيل النظام الجديد هو الطائفية. لكن هذه المرة الطائفية الأقلوية. وعندما تصل الأقلية الطائفية للحكم، ولشعورها بأنها لن تكون قادرة على الإمساك بالسلطة لفترة طويلة، فإنها ستعمل بالدرجة الأولى على تثبيت سلطتها، ولن يشغلها التفكير بالتأسيس لهوية وطنية. لأن معيارها الأساسي نقيض للوطنية.
5-انقلاب (1970)
مع نجاح الإنقلاب لم يواجه الأسد أية معارضة حقيقية على الأرض. ومباشرة بدأت الخطوات الأولى "لأول حاكم على سورية من أصول فلاحية" لتثبيت واستقرار السلطة. وكانت الأولوية للجيش والأجهزة الأمنية. حيث بدأ الطاغية بتشكيل القوات الخاصة النخبوية (الحرس الجمهوري، والقوات الخاصة، والفرقة الثالثة، وسرايا الدفاع) ومهمتها حماية النظام الجديد، وليست رديفة للقوات العسكرية النظامية التي أُعيد تشكيلها من جديد، لتكون الحاضنة الأكبر للنظام، و"التي راح يبعدها عن السياسة منذ 1970" (33). بالإضافة إلى شبكة الأجهزة الأمنية العسكرية والمدنية بفروعها المختلفة، والتي كانت جميعها بإشرافه شخصياً.
وكان "الدور الأكبر في التشكيلات الجديدة لأبناء الريف عموماً، والعلويين بشكل خاص. حيث كان 61% من الضباط الذين اختارهم الأسد بين عامي (1970-1997) ليحتلوا المواقع الرئيسة في القوات المسلحة والتشكيلات العسكرية النخبوية وأجهزة الأمن والاستخبارات كانوا من العلويين. وكان القادة الكبار الإثنا عشر من عشيرته الكلبية، وعشيرة زوجته الحدادين. وكان سبعة من هؤلاء الاثني عشر من أقرباء الأسد المباشرين بالدم والزواج، مثل رفعت وعدنان مخلوف وشفيق فياض. إلخ الذين قادوا أهم وحدات النخبة العسكرية والأمنية الضاربة بين 1970-1984.. إلخ"(34).
لقد نجح الطاغية في التأسيس لنظام أمني، وعسكري "ميليشاوي" أخطبوطي، مهمته الدفاع عن السلطة، وانتشر في كل قطاعات مؤسسات الدولة والمجتمع. حيث لم يكن هناك مؤسسة اقتصادية أو اجتماعية مستقلة، وبعيدة عن سيطرة الأجهزة الأمنية التي تشرف بشكل مباشر وغير مباشر على تنظيمها وإدارتها. ولم يتمتع حزب البعث الحاكم بأية سلطة مستقلة عن المخابرات. وتم اعتقال كل الأصوات المعارضة من مختلف التيارات.
كما نجح أيضاً بإبعاد الجيش عن السياسة، ومنع تشكل أي تكتلات معارضة، وذلك بإعادة تنظيمه من جديد. وتحويله إلى جيش عقائدي، وأصبحت مهمة "القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى، مسؤولة عن سلامة أرض الوطن، وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية"، كما ورد في دستور (1973).
وأصبح الضباط العلويون هم القادة وأصحاب القرار في كل الفرق العسكرية، وبرعاية المخابرات العسكرية. وقد تزايد اعتماد الأسد على أبناء الطائفة "الذين كانوا يقودون فرقتين من مجموع فرق الجيش الخمس"، منذ بدء زمن الاضطرابات (1978) الذين "أصبحوا يقودون ست فرق في 1985، وسبع فرق في 1992 من بين فرق الجيش النظامي التسع" (35). ولم يكن للضباط السنة القادة أي دور مهم، أو أي قرار مستقل. وقد اعتمد الأسد على عدد من الضباط السنّة بمواقع قيادية عليا مثل: قائد القوى الجوية (ناجي جميل)، ورئيس الاركان (حكمت الشهابي)، ومدير المخابرات العامة، ووزير الدفاع (مصطفى طلاس).. إلخ. "ولكن لم يكن لأي من هؤلاء الضباط في أي لحظة سلطة اتخاذ القرارات الحاسمة أو القيام بمبادرات مستقلة. وكانت سلطتهم مستمدة من الأسد، ولم يكن لهم أي دعامة عسكرية خاصة بهم " (36). وقد تم وصف طلاس مثلاً، بأنه "لا يحل ولا يربط، وليس له دور في الجيش إلا دور الذيل من الدابة"(37).
وعلى المستوى السياسي، تم الاستيلاء على الحزب بسهولة، وتأييده للانقلاب. والذي استخدم "كعربة رئيسة لبسط نفوذه" (38) على المجتمع. وتم فتح الأبواب للمنتسبين الجدد، بحيث أصبح رافعة لتغلغل المؤيدين في مؤسسات الدولة. "وكان عدد أعضاء الحزب في عام 1971 (65,398)، وارتفع إلى (1,008,343) عام 1992, في حين كان عدد أعضاء الحزب عند انقلاب 1963 لا يتجاوز (400) عضو"(39). " وطغت "القاف" المقلقة على شوارع دمشق ومقاهيها" كما لاحظ سامي الجندي(252بطاطو). وفي مدينة حلب عام 1970 لم يتجاوز أعضاء الحزب 70 عضواً"(292). وكذلك في دمشق، حيث كانت البرجوازية المتمركزة في دمشق وحلب، تنظر بعين العداء لحزب البعث، منذ قرارات الإصلاح الزراعي، وتأميم الشركات الصناعية والبنوك، التي بدأت خلال مرحلة الوحدة، واستكملها البعث بعد 1963. في حين كان العلويون "يعتبرون بأن البعث هو حزبهم ويمثل مصالحهم فعلاً" (40).
وأما الأحزاب الأخرى المتبقية (الاتحاد الاشتراكي والحزب الشيوعي)، فقد انقسمت بين مؤيد ومعارض للانقلاب. حيث جمع الطاغية الجديد المؤيدين في "الجبهة الوطنية التقدمية" بقيادة حزب البعث باعتباره "الحزب القائد للدولة والمجتمع"، ودستور جديد قام بتفصيله على مقاسه كي يكون الحاكم الأوحد، دون أي منازع. وأغلق باب السياسة على الجميع.
ومن أجل كسب تأييد أهل "السنة" وتجارها في دمشق وحلب. تضمن الدستور في (1973) أن "الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع" ثم أضاف إليه أن "دين رئيس الجمهورية هو الإسلام". ورداً على اتهامه بأنه ينتمي إلى "طائفة من أهل البدع"، وبالإيعاز منه أصدر "ثمانون من رجال الدين العلويين بياناً رسميا يؤكدون فيه على نحو قاطع أن كتابهم هو القرآن، وأنهم مسلمون شيعة، وأنهم مثل أغلبية الشيعة الاثني عشرية" (41). وصادق على البيان موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، الذي أكد على الوحدة المرجعية للشيعة والعلويين.
بالإضافة إلى سعيه لاحتواء بعض علماء السنة وإدخال قسم منهم لمجلس الشعب "كفتارو مثلاً"، وتبرعات شخصية للمدارس الشرعية والأئمة، ودعم التوجه والتبرّع لبناء مساجد جديدة، والصلاة في مساجد السنّة. إلخ. وكذلك قدم الوعود لتجار دمشق بالتراجع عن قرارات التأميم، وتوسيع سقف التجارة، مما جعلهم يأملون في المشاركة في السلطة الجديدة. وأيضاً عمل على زيادة تمثيلهم في حزب البعث. حيث كان تمثيل "السنة" في الحزب ضئيلاً بين 1963و1970. ومن أجل كسب تأييدهم ارتفعت نسبة تمثيلهم في القيادة القطرية إلى 7,9% في 1970. ثم انخفضت في 1975، وعادت للارتفاع والاستقرار منذ 1980 إلى 66% (42)
ورافق تطييف الجيش ومؤسسات الدولة، تجريم الطائفية والحديث عنها على المكشوف. والمعروف أن (صلاح جديد وحافظ الأسد) كانا من المشرفين المباشرين على إدخال العلويين إلى الجيش والحزب. وفي الوقت ذاته حاربوا كل من يتحدث عن الطائفية بشكل علني، وذلك لأن أي حديث عن الطائفية سيتناول سلوكهم الطائفي، ويكشف خططهم للآخرين. ومثال ذلك محاربتهم لـ"محمد عمران" واتهامه بتشكيل كتلة طائفية علوية، والمجاهرة بضرورة حصول العلويين على حقوقهم، وقوله "إن الفاطمية يجب أن تأخذ دورها"(43)، حيث تم نفيه ثم اغتياله عام 1972في بيروت. وبدون شك لم يكن الاغتيال بسبب ذلك فقط، إنما بسبب سياسي وهو الصراع على السلطة حيث كان عمران يشكل خطراً ومنافساً على سلطة الأسد وجديد. وأصبحت تهمة الطائفية أو "إثارة النعرات الطائفية" هي التهمة الجاهزة لكل معارض سياسي، سواء كان علمانياً أو قومياً أو ليبرالياً، أو ماركسياً أو إسلامياً. فالنظام هو الوحيد الذي يصنع الطائفية، ولا يحق لأحد الحديث عنها، ومستفيداً في الوقت نفسه من الدعوات الطائفية "السنيّة"، مثل اتهام "أمين الحافظ" وغيره من الضباط في حلب ودمشق لصلاح جديد بأنه طائفي.
ومقارنة "منيف الرزاز منذ نصف قرن، حول من هو الأكثر، أو الأقل إجراماً، بقوله، إن الذي "يصنع الطائفية هو الأكثر إجراماً من الذي يكشفها" (44) تدفعنا إلى القول بأن المجرم الأول هو الذي يصنع الطائفية، ومن الضروري كشف هذه الطائفية حتى يمكن إزالتها. لكن أيضاً، المجرم الآخر، هو الذي يكشف الطائفية، ويرد عليها بطائفية معاكسة مشابهة، إقلية أو أكثرية، كما حصل مع "الإخوان المسلمين"، في عام 1964و1980.
وبالتوازي مع تشكيل القوى العسكرية والأمنية، استكمل الطاغية بناء اقتصاد السلطة، الذي بدأ منذ انقلاب (1963)، مع قوانين التأميم والإصلاح الزراعي، والتي سميت بالقوانين الإشتراكية، ثم الشروع ببناء القطاع العام الصناعي، ليصبح النظام الرأسمالي الأول، (رأسمالية الدولة) مستفيداً من دعم الدول النفطية بعد حرب (1973) مع إسرائيل، باعتبار سورية دولة مواجهة ومقاومة للاحتلال.
وكان المتضرر الأكبر من الانقلاب هو الرموز الإقطاعية-البرجوازية المتمركزة في المدن الكبرى، حلب ودمشق وحماة، والتي فقدت ثروتها، بعد قوانين الإصلاح الزراعي (1963-1964)، والاستيلاء على المساحات الواسعة من الأراضي، وكذلك مراسيم التأميم للشركات الصناعية في حلب (شركة الططري وعداس والشهباء والأخضري). وفي دمشق(نيسان1964)، (شركة المغازل والمناسج، وشركة الدبس). وفي اللاذقية (الشركة العامة لصناعة الأخشاب)، وأيضاً البنوك الخاصة، وحصر التجارة والتصدير بيد النظام، بحيث أصبح النظام الرأسمالي الأول. وكذلك تم إبعادها عن السلطة كما كانت في الخمسينيات. وبالتالي كانت العدو رقم واحد للنظام الجديد.
وهنا يبرز السؤال الهام والإشكالي وهو: هل كان انقلاب (1963) انقلاباً عسكرياً عابراً فقط، أم هي ثورة كما يسميها النظام؟ وماهي الأسباب الفعلية التي جعلته يستمر في السلطة؟
بالتأكيد، ببساطة إنقلاب البعث لم يكن ثورة. لأن الثورة يقوم بها الشعب المدني وليس ثلة من العسكريين الذين اغتصبوا السلطة بالعنف، كما حصل في (آذار1963). لكن أيضاً لم يكن إنقلاباً عسكرياً فقط، إنما كان إنقلاباً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً كاملاً على بنية المجتمع والطبقة السياسية الحاكمة في الخمسينيات، والتي كانت تسودها العلاقات الإنتاجية الإقطاعية-البرجوازية.
وهذا الإنقلاب واستمراره هو حالة موضوعية للتطور التاريخي لسورية، وليس حالة قطع أو انحراف للمسار الطبيعي الذي يتغنى به البعض بوصف مرحلة الخمسينيات كمرحلة ذهبية مشرقة في تاريخ سورية، ويتحسر على عدم استمراريتها، على طريقة الثورة البريطانية (1688)، والتي انتقلت خلال ثلاثة قرون بشكل سلمي من سيطرة الكنيسة-الإقطاع، إلى الدولة الرأسمالية الحديثة.
فالتاريخ لا يقبل الفراغ خلال مراحل تطوره المتلاحقة. ورأسمالية الدولة التي أقامها البعث ليست آلية "إشتراكية" خاصة به. إنما هي وسيلة اعتمدت في كل دول العالم المتقدم والمتخلف. وهي آلية رأسمالية، وليست إشتراكية. إنها "عتبة الإشتراكية" كما وصفها لينين. وكل المنظومة السوفيتية، بما فيها البلدان المتخلفة ومنها سورية لم تتجاوز هذه العتبة، إلى أن انهارت.
وأمام عجز البرجوازية عن الاستجابة للإستحقاقات التي تواجه المجتمع، كان لابد من بروز قوة عسكرية، أو سياسية، أو اجتماعية، حتى تملأ الفراغ، وتسد العجز. وفي حالتنا السورية كان انقلاب البعث. والمأساة في هذا الانقلاب، ليس في تأسيسه لنظام شمولي على كافة المستويات، وهو نظام تجاوزته أغلب المجتمعات بسلام.إنما المأساة في طائفية النظام الشمولي، والتي كانت كابوساً على كل السوريين بطوائفه المتعددة، وتحرف الصراعات الاجتماعية إلى صراعات طائفية مدمرة للمجتمع، بدلاً من ثورات الشعب ضد الدكتاتورية والاستبداد الشمولي لنيل الحرية.
واستمرار سيطرته لمدة نصف قرن تعود إلى: سيطرته على الجيش والعمل المبكر على تطييفه أولاً، والنظام الأمني الأخطبوطي الذي فرضه على المجتمع، واستجابته لحل المسألة الزراعية عبر قوانين الإصلاح الزراعي، والعمل على التنمية الاقتصادية وخاصة في السبعينيات ثانياً، والتغني المزيف بالمسألة القومية ثالثاً.
***
إن نقل أو نشر أي شيء من هذه الدراسة دون تفويضٍ مباشر من الكاتب" مروان عبد الرزاق " يعتبر خرقاً لقوانين الملكيّة الفكرية ويحاسب عليه ضمن القوانين المتداولة.
يتبع ...
ألف / خاص ألف