خامساً: العنف الطائفي
- للعنف مستويات، ودوافع متعددة. ويتميز العنف الجمعي عن العنف بمفهومه الفردي العام، بأنه عنف تكون دوافعه جمعية، أي تخص جماعة من البشر، وليست فردية، أو شخصية. حيث يكون الفرد متماهياً مع الجماعة. وقد يكون جماعة ضد جماعة، أو فرداً ضد جماعة، أو فرداً ضد فرد. كما هو العنف العنصري (الأبيض ضد الأسود)، أو العنف الديني، والطائفي.
- ويعتبر التمييز الطائفي أحد أشكال العنف الطائفي، بمستواه الأدنى. وقد مارس النظام السوري-وكذلك العراقي، الشبيه المعكوس-التمييز الطائفي منذ بداية تشكله، باختيار أركان النظام الأساسية من الطائفة العلوية. وتشكلت تدريجياً "الطائفية المستترة"، كما يسميها البعض. لكن هذه "المستترة" تظهر إلى العلن عندما يتهدد النظام، الذي يمثل الطائفية السياسية، حيث يتصاعد العنف لأعلى مستوياته، ويتخذ الصراع منحى الصراع الوجودي، يحكمه شعار "إما أنا، أو أنتم" أو "إما نحن، أو أنتم". وتصبح المجازر الجماعية والقتل على الهوية الطائفية هي السائدة. وهذا الذي حصل في إحداث الثمانينيات، وخلال الثورة السورية، بانكشاف عورة النظام الطائفية، والقوى الطائفية الشبيهة به والمعكوسة، أي الإخوان المسلمون.
- ومن التاريخ القريب، ومازالت في الذاكرة استباحة النظام في الثمانينيات لمدينتي حلب وحماة، وقتل عشرات الآلاف بدوافع سلطوية طائفية، وبأدوات طائفية. وهي الميليشيات الطائفية (سرايا الدفاع والوحدات الخاصة، والحرس الجمهوري) التي تم تشكيلها بعد انقلاب (1970). والمجازر التي ارتكبها النظام، في المدن ضد المدنيين، وفي السجون، لا يمكن تفسيرها بعنف المستبد فقط، إنما هو عنف "مركب"، بتعبير صديقنا-حسن النيفي- يزاوج بين عنف المستبد، وعنف الطائفة الأقلوية، الخائفة من عودة الأكثرية للحكم من جديد. والمجازر التي ارتكبها النظام منذ انطلاقة الثورة أكثر من أن تُحصى في كل المدن السورية: الغوطة، وبانياس، وداريا، والحولة، والبيضا بطرطوس، ونهر حلب. إلخ . وكلها مجازر طائفية استعملت فيها كل الأسلحة، بدءاً بالسكاكين والذبح على الطريقة "الداعشية"، وانتهاء بالأسلحة الكيماوية. إن المجازر الجماعية ضد المدنيين هي مجازر إرهابية، وعندما تكون موجهة ضد طائفة بعينها، لا يمكن وصفها إلا بالإرهاب الطائفي، ومرتكبها لا يوصف إلا بالطائفي.
- إن الصعود المذهل للتعبئة الطائفية والمجازر الطائفية من جانب النظام، وتعبئة طائفية سنية مقابلة ومماثلة في "استشراسها" كما يقول العظمة، هو دليل على طائفية النظام وليس نفي لطائفيته.
سادساً: الطائفية والأيديولوجيا
- إن القول إنه " لا طائفية بلا أيديولوجيا. فالطائفية هي تعصب ديني ينطلق من التمسك بمعتقدات معينة، ورفض الآخر، ومن ثم محاولة فرضها بالقوة على الآخر ومحاربته بناء عليها"-كما يقول سلامة-هي مقدمة صحيحة، لاستنتاج خاطئ بأن النظام غير طائفي. لأن المقدمة تقتصر على الصورة الشكلية للنظام، وليس إلى ماهيته، أي مكوناته الأساسية والجوهرية.
أولاً: ليس هناك طائفة دينية بدون أيديولوجيا، والعلويون في سورية ينتمون للمذاهب الباطنية، وبالتالي أيديولوجيتهم غير واضحة للخارج، ولهم طقوسهم الخاصة بهم، مثل كل الطوائف، بغض النظر عن الاتهامات التي تُلصق بهم من قبل المذهب السني أو الشيعي.
وثانياً: الذين يمثلون الطائفية السياسية-النظام السوري- ليس بالضرورة أن يكونوا متدينين، كما هي الطائفية السياسية التي تم تعريفها سابقاً. ولا يهمهم نشر الأيديولوجيا الدينية الطائفية، وخاصة هي أقلوية جداً، كما أنه لم يعد ضرورياً محاربة الآخر وفق هذه الأيديولوجيا وفرضها عليه بالقوة، كما كان يجري في العصور القديمة، وكما توضحت في الصراع الصفوي-العثماني على العراق. إنما المهم السيطرة السياسية. والأيديولوجيا الطائفية تستثمرها الطائفية السياسية، وتعمل من خلالها على تجييش المشاعر الطائفية، بقصد دعم الطائفة كخزان بشري للوصول إلى السلطة، والحفاظ عليها. بمعنى آخر، المهم بالنسبة إلى الطائفية السياسية أن تعمل على ترسيخ الطائفية، داخل الطائفة التي يعمل على تمثيلها ككتلة اجتماعية منسجمة، ولم يعد مهما التبشير الديني، بعد أن أخذت الأديان والطوائف حدودها الاجتماعية والجغرافية في العصر الحديث، عصر ما بعد الإمبراطوريات الدينية، وآخرها الإمبراطورية العثمانية.
وثالثاً: التركيبة الخاصة لماهية النظام السوري، منذ استيلائه على السلطة، وهي مزيج من الجسد الطائفي، والأيديولوجيا الاشتراكيةوالقومية المزيفة. وهذه التعمية الأيديولوجية هي سمة الأنظمة الإستبدادية، والتي تشبهها من المعارضة، في العصر الحالي، الذي تتجاذبه قوتان: قوة الماضي وبنيته السياسية والاجتماعية، وشعارات الحاضر و المستقبل، كالوطنية والقومية والليبرالية. إلخ . والتي لم تتحول حتى الآن إلى قوة قادرة على كنس خرافات الماضي وبناه التقليدية. ولذلك لا قيمة لشعارات النظام السوري، حول الوطنية والعروبة والتحرير، مقابل الجسد الطائفي الذي يحمل هذه الشعارات.
سابعاً: الطائفية والعلمانية
- يرى البعض أن النظام لا طائفي لأنه علماني. وهذه خرافة، وتندرج ضمن حجج الإسلاميين لتشويه العلمانية ورفضهم للنظام الديمقراطي وتندرج أيضاً ضمن التعمية الأيديولوجية بأن النظام قومي. فالعلمانية الإستبدادية على الطريقة الشمولية السوفيتية قد كنسها التاريخ وتوضح زيفها. وقد أضاف النظام السوري للاستبداد الشمولي، اللادينية-بالمفهوم الإسلامي-المنحدرة من التقاليد القروسطية للعلويين، الطائفة الأقلوية، والفلاحية، والمسكونة بـ "عقدة الأقليات"، وهي التي أسست لنظام طائفي من أسوأ الأنظمة الفاشية في العالم المتخلف، كما تم تفصيل ذلك في الصفحات السابقة. في حين إن العَلمانية هي خاصة بالنظام الديمقراطي الحديث. ولا يمكن أن تنفصل العلمانية عن الديمقراطية في الدولة الحديثة.
ثامناً: الرئيس، النظام، الدولة
- في الحالة السورية، العلاقة بين الرئيس والنظام وأدواته، هي علاقة عصبية قائمة على الرابطة العائلية والطائفية. إنها كتلة متماسكة، وجعلت لنفسها مصالح ومصيراً مشتركاً. رغم كل الانتقادات التي توجه للنظام من قبل الطائفة بسيطرة أو قيادة عائلة الأسد للنظام. وبالتالي لا يمكن التضحية برأس النظام، دون انفراط عقد النظام ككل.
- ولم يعمل النظام على إقامة الدولة ومؤسساتها، التشريعية والتنفيذية والقضائية المستقلة عن النظام. وبدلاً من أن تكون الدولة مستقلة، وتحضن أي نظام منتخب، للعمل في إطارها، اعتبرها النظام بالعكس منذ بداية تأسيسها، أداة أو أدوات للسلطة، وتأتي قيمتها أو أهميتها بعد الأجهزة الأمنية، التي سيطرت على كل مفاصلها. وحتى الجيش وهو عنوان لسيادة الدولة جرى تحويله لجيش عقائدي لحماية النظام.
- وبالتالي التمييز بين النظام السوري، والدولة هو تمييز مخادع، يراد منه إبعاد الصفة الطائفية عن النظام، باعتبار أن الأغلبية في مؤسسات الدولة ليست من الطائفة العلوية. والمسألة هنا ليست عددية أو قياساً كميّاً فقط رغم أهميته، إنما الأهم هو انتظام هؤلاء الأفراد، في شبكات أمنية منظمة موزعة أفقياً وعمودياً في كل مؤسسات المجتمع، يجمعها هدف سياسي واحد، ومصلحة واحدة، بحيث يمكن لفرد واحد من هذه الشبكة أن يتحكم بمؤسسة مهما كان عدد أعضائها كبيراً.
- المسألة بالأساس ليست رغائبية، الدعوة إلى إسقاط الرئيس وعائلته، وليس إسقاط النظام. أو اسقاط النظام، وليس إسقاط الدولة. المهم أن نجد العلاقة الفعلية بينهما، وأثر كل عنصر وعلاقته بالآخر. مؤسسات الدولة بأكملها ليست مستقلة عن النظام وأجهزته الأمنية. ومن الطبيعي أن تسقط تركيبة الدولة بأكملها مع سقوط النظام. إن سقوط النظام يعني هدم الأسس التشريعية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية التي كان يقوم عليها، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وفق منظومة ديمقراطية علمانية حديثة. تشكل القاعدة لدولة المواطنة المنشودة. وليس منظومة أكثر تخلفاً واستبداداً، كاستبدال المستبد، بمستبد جديد، واستبدال القاضي بالشيخ، كما حصل في المناطق التي تحررت من سيطرة النظام، وأصبحت تحت سيطرة الأصولية، الشبيه المعاكس للنظام.
وتاسعاً: الطائفية والأدوات
- يلاحظ المعترضون على طائفية النظام، أن: النظام يحتكر الطائفية، ويستخدم، ويستغل، ويوظف الطائفة، وأن الطائفية أداة من أدواته المتعددة، لكنه غير طائفي. إنه فصل تعسفي بين النظام وأدواته ووسائله، حيث لا يمكن فصل أي سلطة، عن الأدوات، والوسائل، والآليات، التي تستخدمها، لتثبيت سيطرتها. فالطائفية السياسية، تستخدم، وتستغل. إلخ . وكما ذكرنا سابقاً، ليس بالضرورة ان يقودها ساسة متدينون، أو رجال دين، كما هو النظام السوري، والعراقي، والطائفية السياسية المسيحية في لبنان.
- والمثير للغرابة أن البعض، مثل-راتب شعبو- يرى أنه "لم يكن السوريون طائفيين على مدى تاريخهم الحديث". إن الوطنية السورية التي تشكلت لمواجهة الانتداب الفرنسي وتقسيماته الطائفية، وبعدها إلخ مسينيات الليبرالية القصيرة، أفرزت قامات وطنية كثيرة عابرة للمذاهب والأديان. وكان واحداً منهم "فارس الخوري"، الذي لم يُوصف بمسيحيته، إنما بوطنيته التي جعلته مقبولاً من السوريين، حتى يمثلهم في مجلس الأمن للدفاع عن استقلال سورية، وأن يكون رئيساً لمجلس الوزراء (١٩٤٤)، ووزيراً للأوقاف، بموافقة الكتلة الإسلامية . والنظام السوري ليس استمراراً للوطنية السورية في تلك المرحلة، إنما أحدث قطيعة نهائية معها، وتأسيسه لنظام طائفي، ولم يرحب الشعب به، وتم استقباله بالأحذية والبندورة، في إدلب، مثلاً. وتم فرض نفسه بالقوة على كل الشعب. وعند التوريث كان الشعب السوري كله معترضاً، لكن من كان يجرؤ على الاعتراض بعد سحق المعارضة بكافة تلاوينها. وأن الثورة السورية عبرت عن الوطنية السورية من جديد لإسقاط النظام، وإقامة دولة ديمقراطية حديثة. وعدم توصيف الثوار للنظام بأنه "علوي"، لا ينفي علوية النظام، لأن الثورة لم تكن "إخوانية" كما وصفها النظام.
عاشراً، وأخيراً
- حين عبر "صادق العظم" عن توصيفه للنظام ب "العلوية السياسية"، وهو من أوائل المفكرين العلمانيين والعقلانيين الذين أيدوا الثورة، وأكمل أنه "على الثورة أن تعي نفسها جيداً بلا تورية، وأن تصارح نفسها علناً. فالثورة رفعت (غطاء الطنجرة) -وفق المثل السوري-فظهرت التشققات المجتمعية، وظهر العفن الطائفي الذي خلفه النظام ب حكم نصف قرن". انهالت عليه الانتقادات من "اللاطائفيين"، بأن المصطلح تعبير "هزيل معرفياً"، أو هو "خزعبلة"، أو "مفرقعة صوتية، وليس مصطلحاً سياسيا"، وتم اعتباره أيديولوجيا يعمل على التحريض الطائفي. إلخ . علماً أن التعبير لا يعني سوى الطائفية السياسية للنظام، ولا يقصد-كما عبر بنفسه-العلويين كطائفة. لكن زوبعة الانتقادات هذه كانت بمثابة الصدمة لبعض العلمانيين واليساريين، التي جاءت من مفكر علماني ويساري ويصف النظام بالطائفية السياسية. وكل الردود لا تخرج عن إطار الحجج التي تم عرضها في الفقرات السابقة.
- يبدو أن العقلية اليسارية، والقومية، ومع تحولها نحو الليبرالية، مازالت رافضة للواقع الظلامي كما تراه، ومازالت تدفن رأسها في الرمال، رافضة الخروج من النتائج والفرضيات الجاهزة التي وضعوها مسبقاً. وما زلنا نتغنى بالأيام الخوالي حين لم نكن نعرف، ولم نفكر بالانتماء الطائفي لأصدقائنا، ومعارفنا عامة، وذلك حين كنا نعمل في الأقبية ضد النظام، ورفضنا الاعتراف باللوثة الطائفية التي اصابت العديد منا، داخل السجون وخارجها.
ويمكن أن نلاحظ أسباباً عديدة تكمن خلف الرفض القاطع لتوصيف النظام بالطائفية السياسية، رغم أن الكثير من الملاحظات التي توصلوا إليها، تفضي إلى طائفية النظام، لكن لا يريدون الاعتراف بها.
أولاً: لأن توصيف النظام بالطائفية، يتوافق مع توصيف الإسلاميين. لكن هل إذا قال الإسلاميون إن دمشق عاصمة سورية، يجب أن نخترع عاصمة أخرى؟ وهل توصيفنا لداعش والنصرة، بالطائفية السياسية، وتوافقنا مع النظام على هذا التوصيف، يُفضي إلى التحالف مع النظام، والتحريض على استقدام الميليشيات الطائفية الشيعية؟
إن وصف النظام بالطائفية السياسية، لا يعني الانجرار وراء الأيديولوجيا الإسلامية أو التمسح بها، والتي تعمل على التجييش الطائفي بشقيه السني والشيعي. إنما بالعكس علينا الكشف وبجرأة عنها، ومخاطرها، وأن يكون لدينا مشروعنا الوطني الديمقراطي، الرافض للمشاريع الطائفية، على كافة المستويات، السياسية والعسكرية والاجتماعية. ومن بين هذه المشاريع الدعوة إلى استبدال الطائفية السياسية للأقلية، بطائفية الأكثرية السنية التي يروج لها الإسلام السياسي السني، وفق مبدأ الأكثرية المذهبية، مقابل الأقلية.
والطائفية السياسية ليست شعاراً تحريضياً، إنما هو مفهوم معرفي، يعبر عن بنية الطبقة السياسية التي تعمل على تمزيق المجتمع، ودفعه باتجاه حرب أهلية عدمية مدمرة.
وثانياً: الطائفية السياسية للنظام، لا يعني أن الطائفة العلوية تتحمل المسؤولية عن جرائم النظام، كما يتوهم المعترضون. إنما يكشف هذا التوصيف، التسلط، والاستغلال، واستخدام الطائفية السياسية، للطائفة كوقود في ساحة الحرب للاحتفاظ بالسلطة. وكذلك الطائفة السنية لا تتحمل المسؤولية عن الجرائم التي تمارسها الطائفية السياسية السنية مثل داعش، ومشتقاتها.
وثالثاً: قد نتفق بشعورنا بالخجل ، والغضب، ونحن في القرن الواحد والعشرين، عندما ينظر إلينا الغرب، على أننا مازلنا كمجموعة قبائل وطوائف متناحرة، وليس كشعوب، أو مجتمعات. لكن المخجل أكثر أن الطبقة السياسية تنقسم في ردودها، بين الإنكار الكامل لهذا الواقع، وعدم الاعتراف بهذه الرؤية الغربية، واعتبارها استشراقية قاصرة، وآخرون يُضيفون إلى ذلك، بأننا أفضل من الغرب وأننا "خير أمة أُخرجت للناس".
فهل نستمر في تجاهل أمراضنا التاريخية، والبكاء على أطلال الوطن الذي تم تدميره. أم المطلوب أن نعترف بهذا الواقع، وأن نواجه الحقائق التي تُبهر العيون، حتى يمكن البحث في آليات الخروج من المستنقع الذي وجدنا أنفسنا غارقين فيه.
6- استنتاجات الجزء الأول
من هذه الإطلالة المكثفة على التاريخ يمكن تسجيل الاستنتاجات التالية.
1- تَشكُل الطوائف هو نتاج طبيعي للتنوع الفكري والعقيدي في المجتمع. وإنه يمكن للطوائف أن تتعايش بشكل سلمي، في مناخ تسوده الحرية، واحترام العقائد المتعددة، كما حصل في القرون الثلاثة الأولى من عمر المسيحية، داخل الإمبراطورية الرومانية، وفي العصور الأوروبية الحديثة، بعد تشكل الدولة الديمقراطية العلمانية. وأن هذا التعايش يتحول إلى صراع مسلح، عندما تقوده رموز الطائفية السياسية التي تستخدم الدين، أو المذهب، للصراع على السلطة، وإقامة دولة دينية-مذهبية تحارب الأديان والمذاهب الأخرى.
2- في تاريخنا العربي الإسلامي، بدأ الصراع السياسي على السلطة بعد وفاة النبي مباشرة، وكان سابقاً على المذاهب التي تشكلت في أواخر القرن الثاني للهجرة. وتم إلباس الصراع السياسي لبوساً مذهبياً مقدساً. وبالتالي لم يكن أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، أصحاب مذاهب، ولم يكونوا قديسين، إنما جرى تقديسهم فيما بعد، عند الإسلام السياسي، السني والشيعي، تحت راية "الإسلام دولة ووطن، أو حكومة وأمة" كما أوردها "حسن البنا" في "الأصول العشرين" لفهم الإسلام. وكذلك "ولي الفقيه" عند الشيعة، والذي ينوب عن الإمام المعصوم-والغائب في إقامة حكم الله علي الأرض.
3- وأن النبي محمد الذي يمثل الإسلام. وهو بشر ولم يكن طائفياً. وقد عُرف بخبرته ورؤيته للطوائف اليهودية والمسيحية آنذاك، بقوله "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة والباقي هلكى". قيل ومن الناجية؟ قال " أهل السنة والجماعة". قيل: وما السنة والجماعة؟ قال "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"(50) ويعدد الشهرستاني في كتابه أكثر من تسعين فرقة.
وقد حاز المنتصرون-الأمويون- على الشرعية، واعتبروا أنفسهم "الفرقة الناجية"، وأنهم "أهل السنة والجماعة"، وهم الأغلبية على المستوى العالمي، وفق مفهوم "الأمة الإسلامية " المنتشرة في كل العالم. وأصبحت الأيديولوجية السنية مغلقة، بدءاً من الخليفة العباسي "المتوكل"، والاعتراف بالمذاهب السنية الأربعة فقط، ومن بعده الغزالي الذي حارب الفلاسفة، وابن تيمية واصداره الفتاوى الكبرى لتكفير كل ما هو غير "سني".
وبالمقابل، عمل الفريق المهزوم على تأسيس مذهبه اعتماداً على السلالة البيولوجية التي تربط الائمة بـ "أهل البيت"، وصولاً إلى "ولاية الفقيه الراهنة في إيران. وعبروا عن الهزيمة، و"المظلومية التاريخية" بالطقوس التي تعمل على تجييش الطائفية، كما وصفها علي الوردي: بأن "طقوس الشيعة في زيارتهم السنوية لقبر الحسين واللطم والنواح، والسلاسل التي يضربون بها ظهورهم، هي نفسها السيوف التي كانوا يحاربون بها الحكام والتي تم إخمادها، وقد تتحول إلى سيوف صارمة من جديد، بانتظار فرد مشاغب من طراز ابن سبأ". وابن سبأ هو من الغلاة في حب علي وحتى تأليهه، وهو مشعل التمرد في عهد عثمان. و" زيارة كربلاء تشبه الحج...ومن يشهد هرج الزوار في كربلاء يدرك أن وراء ذلك خطراً دفيناً". (51). وتمثلت النسخة الحديثة لابن سبأ بالأيات الإيرانية، التي تعيد الصراعات الطائفية إلى المربع الأول.
4- ومنذ أن تشكلت المذاهب، والصراع السياسي-الطائفي هو الذي كان يحكم تاريخنا القديم وحتى نهاية الإمبراطورية العثمانية، حيث كان الدين هو الذي يحدد هوية الدولة والمجتمع. والطائفية السياسية هي التي كانت تغذي على الدوام الطائفية الاجتماعية، وتحافظ على الطوائف ككتل منفصلة ومغلقة، لا تؤلف شعباً موحداً. وكذلك عمل الانتداب الفرنسي في سورية على تغذية الصراعات الطائفية بأساليب متعددة. مثل: تقسيم سورية إلى أقاليم طائفية، وتأسيس جيش الشرق من الأقليات.
5- وحين استولى حزب البعث على السلطة في (١٩٦٣)، عمل بشكل منهجي على تأسيس نظام طائفي علوي، وأعاد بذلك المجتمع إلى المربع الأول، مربع التخندق الطائفي، و"المجتمع المغلق"، و"عقدة الأقليات"، وصراع المتشابهات. وهي الصراعات الأخطر في عصر الإرهاب الطائفي الراهن.
وحتى يكتمل المشهد، سنتوقف في الجزء الثاني، عند تاريخية الطبقة السياسية وتحولاتها، وكيف كانت الردود على النظام، ولماذا حصل ذلك بعد انطلاقة الثورة.
***
إن نقل أو نشر أي شيء من هذه الدراسة دون تفويضٍ مباشر من الكاتب" مروان عبد الرزاق " يعتبر خرقاً لقوانين الملكيّة الفكرية ويحاسب عليه ضمن القوانين المتداولة.
نهاية الجز ء الأول من الدراسة.
يتبع..
ألف / خاص ألف
تعليق
الإسم