النظام النفسي لمراتب العروق
مجيد محمد
خاص ألف
2018-03-07
ذا ما درسنا في كتاب تاريخ طبيعي أسّسَ تقسيم الأنواع وجدنا من فورنا أنّ الصفات الثابتة الأساسية التي يُعيّن بها كلّ نوع هي قليلةٌ جداً، فتكفي بضعة أسطر لعدّها.
وعلّة ذلك هو أنّ العالم الطبيعي لا يبالي بغير الصفات الثابتة غير ناظرٍ إلى الصفات المؤقتة، مع أن الصفات الأساسية تجرُّ سلسلةً من الصفات الأخرى وراءها حتماً.
وقل مثل ذلك عن الصفات النفسية للعروق، ونحن إذا سلكنا سبيل التفصيل وجدنا ما لا يُحصيه عدٌّ من الاختلافات الدقيقة بين أمّة وأخرى وبين شخص وآخر، ولكننا إذا نظرنا إلى الصفات الأساسية وحدها لم نر غير عدد قليل منها في كلّ أمّة، والأمثلة فقط، هي التي تدلنا بوضوحٍ على تأثير هذه الصفات الأساسية القليلة في حياة الأمم.
ولا يمكن عرض تقسيم نفسي للعروق إلا بالبحث المفصّل في روح مختلف الأمم.
ونحن حين ننظر إلى ما في العروق البشرية من الصفات النفسية العامة فقط، نرى إمكان تقسيم هذه العروق إلى أربعة أقسام، وهي: العروق الابتدائية والعروق الدنيا والعروق الوسطى والعروق العليا.
والعروق الابتدائية هي التي لا تجد فيها أيّ أثرٍ للثقافة، وهي التي ظلّت في الدور القريب من الحيوانية والذي جاوزه أهل عصر الحجر المنحوت من أجدادنا، ومن العروق الابتدائية في الوقت الحاضر نذكر الفيوجييّن والاستراليين.
وترى فوق العروق الابتدائية العروق الدنيا التي يعدّ الزنوج عنواناً لها على الخصوص، وفي هذه العروق تجد بصيصَ حضارةٍ، وبصيصَ حضارةٍ فقط، وهذه العروق لم تجاوز قطّ وجوه الحضارة الغليظة، وإن ورثت حضاراتٍ راقيّة بفعل المصادفة، كما اتفق لأهل سان دومنغ.
ونذكر من العروق الوسطى الصينين واليابانيين والمغول والأمم الساميّة. فالعرب الآشوريون والمغول والصينيون واليابانيون أبدعوا نماذج حضاراتٍ راقية لم يجاوزها غير الأوربيين.
ويجب أن تُذكر الأمم الهندية الأوربية بين العروق العليا على الخصوص، وهذه الأمم هي التي أثبتت قدرتها على الاختراعات العظيمة في الفنون والعلوم والصناعة سواءً في عصر اليونان أو الرومان أمّ في الأزمنة الحديثة، ولهذه العروق ترى الحضارة مدينةً بما انتهت إليه اليوم من المستوى العالي، ومن أيدي هذه العروق خرج البخار والكهرباء، وأقل هذه العروق ارتقاءً، كالهندوس على الخصوص، قد بلغ في الفنون والآداب والفلسفة درجةً لم يصل إليها المغول والصينيون والساميّون قطّ.
وليس من الممكن الخلط ما بين الأقسام الأربعة المذكورة، فالهوة النفسية التي تفصل بعضها عن بعضٍ تظلّ واضحة، والصعوبة كلّ الصعوبة في تقسيم تلك الأقسام إلى أقسام أخرى ثانوية، أجل، إنّ الإنكليزي والإسباني والروسي من الأمم العليا، وترى الفروق بين هؤلاء عظيمة جداً مع ذلك.
ويجب لتعين تلك الفروق أن يُوخذ كلّ شعبٍ على حدة وأن تُوصف أخلاقه.
نستطيع أن نفعل غير الإشارة باختصار إلى طبيعة العناصر الرئيسية النفسية التي نتمكن بها من التفريق بين العروق.
ولا حاجة إلى الذهاب إلى الهمج الخُلّص لنجد العروق الابتدائية والدنيا ما دامت الطبقات الأوربية السفلى تعدل الفطريين ، والذي يشاهد لدى تلك العروق على الدوام هو عجزها عن التعقل، أي عجزها عن أن تضمّ في دماغها الأفكار التي أسفرت عنها الأحاسيس الماضية، أو الألفاظ التي تدل على هذه الأفكار، إلى الأفكار التي هي وليدة الأحاسيس الحاضرة، وذلك للمقابلة بين الأفكار، ولتبيّن ما بينهما من تشابه واختلاف، وعن هذه العجز عن التعقل تنشأ سرعة تصديقٍ عظيمةٌ وفقدانٌ تامٌ لروح النقد، وفي الإنسان الراقي تجد العكس، وفي الإنسان الراقي تجد قدرةً عظيمة على ضمّ بعض الأفكار إلى بعض وعلى استخراج النتائج منها، وفي الإنسان الراقي تجد ملكة النقد وروح الدّقة ناميتين إلى الغاية.
وكذلك تتصف العروق الابتدائية والدنيا بضعف الانتباه وضعف التأمل إلى أقصى حدٍّ، وبنمو ملكة التقليد وبعادة استخراج النتائج العامة الفاسدة من الأحوال الخاصة، وبالعجز عن ملاحظة ما يؤدي إليه الترصد من النتائج المفيدة وبالعجز عن استنباط هذه النتائج، وبتقلبٍ كبير في الأخلاق وبغفلة عظيمة، ووحي الساعة الحاضرة هو دليل هذه العروق، وهي، كعيسو (العيص) الذي هو مثال الرجل الابتدائي، تبيع مختارةً حقّها في البكريّة القادمة في مقابل صحنٍ حاضر من العدس، وإذا ما عارض الإنسان عاجله بآجله وكان ذا هدف فسار وراءه بثبات فإنه يكون قد بلغ شأناً بعيداً عن الرقيّ.
ومن شأن العجز عن البصر بالنتائج البعيدة للأعمال، ومن شأن العطل من كلّ دليل إلا دليل الساعة الحاضرة، أن يكون الفرد، والعرق أيضاً، محكوماً عليهما بالبقاء في طور منخفض جداً، والأمم، كلّما عرفت أن تضبط غرائزها، أي كلّما اكتسبت عزماً، أي كلّما استطاعت أن تسيطر على نفسها، تكون قد أدركت أهمية النظام وضرورة التضحية بالنفس في سبيل مثل عالٍ والارتقاء إلى الحضارة، ولو وجب تقدير مستوى الأمم الاجتماعي في التاريخ بمقياس وحيد لكانت درجة قابلية تلك الأمم للسيطرة على اندفاعاتها اللاتنبهيّة هي ذلك القياس كما أرى؛ والرومان في القرون القديمة، والإنكليز والأمريكيون في الزمن الحديث، هم عنوان الأمم التي اتفقت لها تلك الصفة إلى أبعد حدّ، وفي هذه الصفة تجد سرّ عظمة هذه الأمم.
ومن اجتماع العناصر الروحية المختلفة المذكورة آنفاً ونموّها نمواً متقابلاً يتألف من الأمزجة النفسية ما يُستعان به في تقسيم الأفراد والعروق.
ومن تلك العناصر الروحية ما هو خاصٌ بالخُلق ومنها ما هو خاصٌ بالذكاء.
وتختلف العروق العليا عن العروق الدنيا بالخُلق كما تختلف عنها بالذكاء، وبالخلق، على الخصوص، تختلف بعض الأمم العليا عن بعض، ولهذا الأمر أهميةٌ اجتماعية عظيمة، فيجب بيانه بوضوح.
يتألف الخُلق من امتزاج مختلف العناصر التي يُطلق عليها علماء النفس المعاصرون اسم المشاعر عادةً، وذلك على نسبٍ مختلفة، ومن بين تلك العناصر ذات الشأن المهمّ أذكر الثبات والنشاط وقابلية ضبط النفس بوجهٍ خاصّ، أيّ الصفات المُشتقة من الإدارة، ومن عناصر الخلق الأساسية نذكر الأدب أيضاً، وإن كان للأدب خلاصة مشاعر مركبةٍ، وأقصد بكلمة الأدب احترام القواعد التي تقوم عليها حياة المجتمع، وتدلّ حيازة الأمّة أدباً على حيازتها قواعد ثابتة للسير وعدم ابتعادها عنها، وتختلف هذه القواعد باختلاف الأزمنة والبلدان، ويلوح الأدب بهذا أنّه كثير التغير، والأدب كثير التغير بالفعل، غير أنّه يجب أن يكون أدب الأمّة في زمن معيّن غير متغير، وإذ كان الأدب وليد الخلق، لا الذكاء، لا يكون وطيداً إلا إذا صار وراثياً، ومن ثمّ غير شعوريّ، وعظمةُ الأمم بوجهٍ عامّ خاضعةٌ لمستوى أدبها على الخصوص.
وقد تتغير الصفات الذهنية بالتربية تغيراً قليلاً، وتتفلت الصفات الخُلقية من سلطان التربية تفلتاً تامّاً تقريباً، وعند ما تؤثر التربية في الصفات الخُلقية لا يكون هذا التأثير إلا عند ذوي الطبائع المحايدة الذين يكادون يكونون عاطلين من الإرادة والذين يسهل عليهم أن يميلوا إلى حيث يساقون، وترى هذه الطبائع المحايدة لدى الأفراد، وهي قلّما ترى في أمّة بأسرها، وهي إذا وجدت في الأمّة لا يكون وجودها ذلك إلا في أيام انحطاطها.
ومن السهل أنّ تنتقل اكتشافات الذكاء من أمّة إلى أخرى، وأمّا الصفات الخُلقية فلا تنتقل، وهذه هي العناصر الأساسية الثابتة التي تختلف بها مزاج الأمم العليا النفسي، وتمثّل الاكتشافات المدينة للذكاء تراث البشرية المشترك، ويتألف من صفات الخلق ومساوئه في كل أمّة تراثُ هذه الأمّة الخاص، ويعدّ الخلق كالصخرة الثابتة التي تلطمها الأمواج يوماً بعد يوم في عدّة قرون قبل أن تتمكن هذه الأمواج من ثلم أطرافها، ويعدل الخلق عنصر النوح الراسخ وزعنفة السمك ومنقار الطير وناب الضاري.
وخلق الأمّة، لا ذكاؤها، هو الذي يعيّن تطورها في التاريخ ويُنظم مصيرها، وهو يوجد، دائماً، خلف الأهواء الظاهرة للمصادفة العاجزة وللعناية السبحانية الوهمية وللقدر الحقيقي الذي يسيّر الرجال في أعمالهم وفق مختلف العقائد.
وللأخلاق نفوذٌ ذو سلطان قويّ على حياة الأمم، على حين يبدو الذكاء ذا نفوذٍ ضعيف في الغالب، أجل، كان للرومان في دور الانحطاط ذكاءٌ أرفع من ذكاء أجدادهم الأشداء، بيد أنّهم كانوا في ذاك الدور قد أضاعوا صفاتهم الخُلقية من ثبات ونشاط وعناد واستعداد للتضحية في سبيل مثل عالٍ ومن احترامٍ وثيق للقوانين، أي أضاعوا هذه الصفات التي كانت سبب عظمة أجدادهم، وبفضل الخلق يضع ستون ألف إنكليزي تحت نيرهم 250 مليون هندوسي، مع أن كثيراً من الهندوس يعدل الإنكليز ذكاءً على الأقل، ومع أنّ كثيراً من الهندوس يفوق الإنكليز إلى ما لا حدّ له من الذوق الفني وعُمق المباحث الفلسفية، وبالُخلق غدا الإنكليز على رأس أعظم إمبراطورية استعمارية عرفها التاريخ. وعلى الخُلق تقوم متانة المجتمعات والنظم والإمبراطوريات، والخُلق هو الذي يجعل الأمم تشعر وتسير، والأمم لم تظفر قطُّ بكبير طائل من إعمال عقلها وقدح زناد فكرها كثيراً.
ومن مزاج العروق النفسي يشتق تصورها للعالم وللحياة ومن ثم سيرها، والفرد إذ يتأثر بالأمور الخارجية من بعض الوجوه، يُحسّ ويعمل على وجه يختلف عما يشعر به الأفراد الذين لهم مزاجٌ نفسيٌ مختلف عن مزاجه ويفكّرون فيه ويصنعونه، وهذا يؤدي إلى النتيجة القائلة أنّ الأمزجة النفسية القائمة على مثُل شديدة الاختلاف، لا يدرك بعضها كُنه بعض، وما كان من تنازع العروق المتأصل مصدره ما بين هذه العروق من تناقض في الأخلاق، ومن المتعذر فهم شيء من التاريخ لم يقم في الذهن، دائماً، ذلك المبدأ القائل إن العروق المختلفة لا تقدر على الشعور ولا على التفكير ولا على السير على طراز واحد فلا يدرك بعضها أمر بعض لهذا السبب، ومما لا شكّ فيه أنّ في لغات مختلف الأمم ألفاظاً مُشاعة فتظنّ هذه الأمم أن هذه الألفاظ مترادفةٌ، بيد أنّ هذه الألفاظ المشاعة تثير من المشاعر والخيالات وطُرز التفكير ما يباين التي تساور سامعيها، ولابدّ من العيش بين أممٍ ذات مزاج نفسي مخالف لمزاجنا مخالفة محسوسة لتبيّن مدى الهوّة التي تفصل بين أفكار مختلف الأمم، حتى لو وقع الاختيار في تلك الأمم على أناس نالوا تربيتنا ويتكلمون لغتنا، ويمكن للباحث، من غير أن يحتاج إلى بعيد الأسفار، أن يستجلي ذلك عند تحقيقه الفرق النفسي الكبير بين الرجل المتمدن والمرأة ولو كانت هذه المرأة عظيمة التعليم، وقد يكون هذان ذوي مصالح متماثلةٍ ومشاعر متماثلةٍ، ولكنهما لا يتشابهان في تسلسل أفكارهما أبداً، فهما قد فطرا على مثالين بلغا من التباين ما يتعذر أن يتأثرا معه على وجه واحد بالأمور الخارجية، وما بين منطقهما من اختلافٍ يكفي لإحداث هوّةٍ بينهما لا يمكن اقتحامها.
وما بين مزاج مختلف العروق النفسي من هوّة يوضح لنا السبب في أنّ الأمم العليا لم تُوفّق قطّ لحمل الأمم المتأخرة على اعتناق حضارتها، وما كان من الرأي الشائع القائل إن التعليم يمكنه أن يحُقّق مثل هذه الأمر هو من أشأم الأوهام التي صدرت عن نظريّي العقل الصرف، ولا مراء في أنّ التعليم يمنح الشخص الذي وضع في أدنى درجات السّلم البشري جميع ما لدى الأوربي من المعارف بفضل ما يكون عند أحطّ الأفراد من الذاكرة التي لم تكن مقصورة على الإنسان، ومن أن يُجعل من الزنجيّ أو الياباني محامياً أو حاملاً لشهادة البكالوريا، بيد أن ذلك لا يعطيه سوى طلاء سطحي غير مؤثر في مزاجه النفسي، وإنما الذي يعجز التعليم عن منحه إياه هو ما يتّصف به الغربيون من وجوه تفكيرٍ ومنطق، ومن أخلاق على الخصوص، لصدوره عن الوراثة وحدها، وقد يجمع ذلك الزنجيّ أو اليابانيّ جميع الشهادات الممكنة، ولكنه لا يرتقي إلى مستوى الأوربيّ العادي مطلقاً، ومن السهل أن يُلقّن الزنجيّ في عشر سنين مثل ما يُلقّنه الإنكليزي الحسن الثقافة، ولكن قد لا تكفي عدّة قرونٍ لأن تجعل منه إنكليزياً حقيقياً، أي رجلاً يسير كالإنكليزي في مختلف أحوال الحياة التي يُوضع فيها، وليس في سوى الظاهر تغيير أمّةٍ للغتها أو مزاجها أو معتقداتها أو فنونها بغتةً، وتغييراتٌ كهذه لا تكون حقيقية في الأمّة إلا إذا استطاعت هذه الأمّة أن تحوّل روحها.
لا تمتاز العروق العليا من العروق الدنيا بصفاتها النفسية والتشريحية وحدها، بل تمتاز منها باختلاف العناصر التي تتألف منها أيضاً، وفي العروق الدنيا يكون جميع الأفراد من أيّ الجنسين على مستوى نفسي متماثل تقريباً، وهؤلاء الأفراد، لما بينهم من تشابهٍ تجدهم عنواناً للمساواة التامة التي يحلم بها الاشتراكيون في الوقت الحاضر، وبالعكس تجد السنّة عند العروق العليا في تفاوت أفراد هذه العروق وجنسيها تفاوتاً عقلياً.
وكذلك لا يُقاس مدى الفروق بين الأمم بالمقابلة بين طبقاتها الوسطى، بل بالمقارنة بين طبقاتها العليا، فالهندوس والصينيون والأوربيون لا يتفاوتون بطبقاتهم الوسطى إلا قليلاً، وهم بالعكس يتفاوتون بطبقاتهم العليا تفاوتاً عظيماً.
وكُلّما تقدمت الحضارة سارت العروق، وكذلك أفراد العروق العليا على الأقل، نحو التفاوت شيئاً فشيئاً، وتؤدي الحضارة الحاضرة إلى تفاوت الناس بالتدريج، لا إلى تساويهم ذهنياً، وذلك خلافاً لنظرياتنا في المساواة.
والحقّ أن من أهم نتائج الحضارة من جهة هو تفاوت العروق يعمل ذهني تفرضه الحضارة على الشعوب التي بلغت درجة رفيعة من الثّقافة فيعظم كلّ يوم، وهو من جهة أخرى إحداث تفاوت تدريجيّ في مختلف الطبقات التي يتألف منها كلّ شعب متمدن.
وتقضي شروط التطور الصّناعيّ الحديث على الطبقات الدنيا في الأمم المتمدنة بالعمل الضيّق الذي يحطّ ذكاءها بدلاً من تنميته، ومنذ مئة سنة كان العامل صانعاً حقيقياً قادراً على صنع أيّة آلة كالساعة مثلاً، واليوم غدا العامل صانعاً بسيطاً لا يصنع غير قطعة واحدة فيقضي حياته في ثقب الثقوب المتماثلة أو صقل الأداة ذاتها أو سوق الآلة نفسها، وهذا ما يوجب هزال ذكائه بسرعة؛ وعكس ذلك أمر المستصنع أو المهندس الذي تضغطه الاكتشافات والمنافسة فتحفزه إلى جمع عدد من المعلومات وروح المبادرة والاختراع يزيد عما كان يجمعه منذ قرنٍ بدرجات، وإذ كان دماغه يعمل باستمرارٍ على هذه الوجه فإنّه يخضع للسُنّة المسيطرة على جميع الأعضاء، أيّ أنّه ينمو مقداراً فمقداراً.
وكان آلكسي دو توكفيل قد أشار إلى ذلك التفاوت التدريجي بين الطبقات الاجتماعية في زمن كانت الصّناعة فيه بعيدةّ من درجة التقدم التي انتهت إليها اليوم فقال: "كلما أوغل في تطبيق مبدأ توزيع الأعمال، غدا العامل أشدّ ضعفاً وأضيق عقلاً وأقلّ استقلالاً مما كان عليه، وكلّما تقدمت الصّناعة تقهقر الصانع، فزاد ما بين العامل وربّ العمل من فرق".
واليوم يمكن عدّ الأمّة العليا من الناحية الذهنية كهرمٍ مُدرجٍ يتألف من أعرض أقسامه طبقات الشعب الدنيا ويتألف من درجاته العليا طبقات الشعب الذكية، وتتألف ذروته من صفوة قليلة من العلماء والمخترعين والمتفننين والكتّاب، وهذه الزمرة الأخيرة، وإن كانت صغيرة، إذا ما قيست ببقية الشعب، هي ما يقوم عليه وحده مستوى البلد في سُلّم الحضارة الذهني، وتكفي إزالتها لزوال كلّ ما فيه مجد الأمّة، ومن الصواب قول سان سيمون: "إذا ما أضاعت فرنسا بغتةً الخمسين الأول من كلّ من علمائها ومتفننيها ومستصنعيها وزُرّاعها غدت جسماً بلا روح وجثّة بلا رأس، وهي إذا أضاعت جميع موظفيها لم يصبها من وراء ذلك غير ضرر يسير".
مراجع
لوبون، غوستاف: السنن النفسية لتطور للأمم، ت: عادل زعيتر، ط2، دار المعارف، مصر.