شايلوك شيكسبير والبارانويا اليهودية
2018-04-21
اليهودي إنسان مسكين يثير عندي الشفقة أكثر مما يثير الكراهية. إنه مصابٌ عبر تاريخه بمرض البارانويا وهو مرضٌ عقلي يُـشعر صاحبه بالعظمة والتفوق وبالاضطهاد في آنٍ معاً, وتتحكم بسلوكه مجموعة من الأخلاقيات التي جعلته منبوذاً ومكروهاً من المجتمعات التي يقيم بين ظهرانيها. فهو يشعر بالعظمة لأن الرب اختار اليهود شعباً له من دون بقية شعوب العالم, ويشعر بالاضطهاد لأن الآخرين لا يعترفون له بهذه العظمة. وسأبحث فيما يلي إحدى الأخلاقيات التي تحكمت بالسلوك اليهودي والتي تجد أساسها في كتاب التوراة الذي يقرؤه اليهود كل يوم, وهي كراهية اليهود للأغيار والسعي للسيطرة عليهم من خلال المال الذي يشكل عصب اقتصاد الأمم منذ أن اكتشف الإنسان التبادل النقدي وقام بصك العملة. وقد بدأت عملية السيطرة على المال باحترافهم إقراض المال بالربا وانتهت بتحكمهم بالعمليات المصرفية وحركة الأموال عبر الحدود الجغرافية والسياسية. كل ذلك يجد أصوله في كتاب التوراة حيث بـيَّن لهم الإله يهوه أنهم بسلطتهم على المال يتسلطون على الأمم, وذلك في وصيته لموسى الواردة في سِـفر التثنية 6-5:15. إنني كلما أعدت قراءة تاجر البندقية لشيكسبير أشعر بأن المرابي اليهودي شايلوك, الذي أثارت شخصيته المسرحية مزيداً من الكراهية لليهود في أوروبا, كان ظالماً ومظلوماً في آنٍ معاً. لقد أراد شيكسبير لمسرحيته أن تكون ملهاةً, ولكنها تكشفت عن مأساة, مأساة الشخصية اليهودية الواقعة تحت كابوس لاهوتٍ بدائيٍ فج.
لكي أصل إلى وصية يهوه لموسى المتعلقة بكيفية السيطرة على الأمم, لابد لي من عرضٍ سريع للأحداث الافتتاحية من قصة خروج العبرانيين من مصر.
ينتهي سِـفر التكوين, وهو أول أسفار الكتاب الذي قـصَّ علينا أخبار الآباء الأولين إبراهيم وإسحاق ويعقوب, بقصة يوسف المعروفة وكيف استقدم إلى مصرأباه وإخوته الأحد عشر وأسكنهم فيها حيث نموا وتكاثروا ثم وقعوا تحت نير العبودية مدة أربعمئة سنة. بعد ذلك ندخل في سلسلة قصص موسى التي تقصُّـها علينا أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية. فبعد هروب موسى من مصر عقب قتله مشرف سخرةٍ كان يضرب عاملاً عبرانياً, رحل إلى مديان الواقعة على الأطراف الشرقية لصحراء سيناء, حيث عمل في رعي الغنم لكاهن مديان وتزوج من ابنته وأنجب منها ولداً. وعندما سمع أن الفرعون الذي كان يطلب نفسه قد مات عزم على العودة إلى مصر. خلال ذلك سمع يهوه أنين شعبه الذي كان قد وعده بإعطائه أرض كنعان في فلسطين ملكاً أبدياً له, فتذكر ميثاقه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب, ووقع اختياره على موسى لينقذ شعبه من خلاله, فتجلى له وهو يرعى الغنم عند جبل حوريب في نار شجرةٍ شوكية كانت تتوقد بالنار من غير أن تحترق, فمال موسى ليرى هذا المنظر. فناداه يهوه من داخل النار قائلاً: موسى, موسى. فقال: هأنذا. فقال: لا تقترب إلى ههنا, اخلع نعليك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقفٌ عليه أرضٌ مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك. إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. إني رأيت مذلة شعبي وسمعت صراخهم, فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين, وأُصعدهم من تلك الأرض إلى أرضٍ تفيض لبناً وعسلاً. ولكني أعرف أن ملك مصر لا يدعكم تمضون ولا بيدٍ قوية, فأمد يدي وأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها وبعد ذلك يطلقكم. وأعطي نعمة لهذا الشعب في عيون المصريين, فيكون حين تمضون لا تمضون فارغين بل تطلب كل امرأةٍ من جارتها أمتعة فضةٍ وأمتعة ذهب, وثياباً فتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين (سفر الخروج: 3).
هكذا وفي أول خطابٍ مؤسس للديانة اليهودية توجه به يهوه إلى موسى بعد أن كشف له عن هويته وعن اسمه الذي لم يعرفه الآباء الأولون, يؤسس الإله التوراتي لطبيعة العلاقة بين شعبه إسرائيل وبين وبقية شعوب الأرض, أو الأمم بالمصطلح التوراتي. فأموال تلك الشعوب وممتلكاتهم حلٌّ لبني إسرائيل, وسرقتها ليست خطيئة بل انصياعٌ لأمر الرب الذي حلل لهم سرقة المصريين, وتدخل بنفسه وزيَّـن للمصريين أن يعيروا للإسرائيليين ما طلبوه من فضةٍ وذهبٍ وثياب. وهذا يعني أن الوصايا العشر التي نزلت على موسى في جبل سيناء لم تُـسن إلا لتنظيم علاقة بني إسرائيل مع بعضهم البعض. فوصية لا تسرق تعني لا تسرق من عبراني, ووصية لا تقتل تعني لا تقتل عبراني ...إلخ, وما من نواظم أخلاقية تحكم علاقة العبراني بغير العبراني.
قبل أن يبدأ يهوه ملحمة القتل الكبرى في المصريين, أراد أن يوقع في نفس موسى رعباً لن ينساه ينقله بعد ذلك لأجيال بني إسرائيل, رعب الموت الماثل أبداً يأتي به الرب من شاء ومتى شاء دون مساءلة. فعندما كان عائداً إلى مصر من مديان تنفيذاً للتكليف الإلهي, ظهر له الرب وطلب أن يقتله لأنه لم يكن قد اختـتن بعد هو وابنه. فأخذت صفورة زوجة موسى قطعة صوانٍ وختنت ابنها فانفك عنه. ولكن المشكلة في هذه القصة هي أن شريعة الختان لم تكن قد نزلت بعد على موسى مع بقية الشرائع, وهذا يعني أنه قد تجاهل أمراً لم يكن قد صدر إليه بعد. ولذلك فإن ما تريد القصة قوله هو أن على شعب يهوه ألا يطلب منه تفسيراً لقضائه لأن مشيئته عصية على الأفهام, ويفعل الخير مثلما يفعل الشر على ما يقوله في سِـفر إشعيا 76:45.
على أن نجاة موسى من الموت قتلاً على يد إلهه لم تكن سوى نجاة مؤقتة, والرب سوف يقتله في النهاية على الرغم من كل ما قدمه له, وذلك بسبب خطيئةٍ طقسية ارتكبها في لحظة يأسٍ وإحباط عندما تمرد عليه الشعب أثناء قيادته لهم في صحراء سيناء, فحكم الرب عليه بالموت ولكنه أمهله حتى وصل بقومه إلى ضفة نهر الأردن. وهناك أصعده على جبل نبو وقتله, ولم يعرف أحدٌ قبره (التثنية 53-49:32).
قبل أن يصل موسى إلى العاصمة المصرية خرج هارون أخوه لاستقباله بوحيٍ من الرب, فقد كان عليه ان يكون ساعده الأيمن في مخاطبة الشعب وفي التفاوض مع الفرعون. ثم دخل الاثنان على الفرعون وقالا له: كذا قال الرب إله إسرائيل: أطلق شعبي لكي يعبدوا لي في البرية. فقال الفرعون: من هو الرب فأسمع لقوله؟ لا أعرف الرب, وإسرائيل لا أطلقه. بعد ذلك تندلع الحرب بين يهوه والفرعون, ففي كل مرةٍ يدخل فيها موسى وهارون طالبين إطلاق الشعب, كان يهوه يُـقسي قلب الفرعون لكي لا يقبل طلبهما, ثم يُـنزل به وبأهل مصر كارثة ماحقة تتردد أصداؤها في كل مكان. فهو لم يكن راغباً في نصرٍ سهل في فاتحة حروبه هذه بل في نصرٍ سوف ترويه الأجيال اللاحقة.
وهكذا فقد أرسل يهوه في المرة الأولى كارثة الدم الذي ملأ أنهار مصر وتفجر من ينابيعها, ثم الضفادع التي راحت تسرح بأعدادٍ لا حصر لها في الحقول, ثم البعوض, ثم الذباب, ثم أوبئة فتكت بجميع المواشي, ثم الدمامل والقروح, ثم وابل البَـرَدِ الذي انهال من السماء مع نار, ثم الجراد, ثم الظلام الذي خيّـم ثلاثة أيام, وأخيراً قتل كل طفلٍ بكرٍ في أرض مصر. عندها وافق الفرعون على إطلاق بني إسرائيل. فحمل الشعب متاعهم مع ما استعاروه من المصريين من أنية فضةٍ وذهبٍ وثيابٍ وارتحلوا, وكان عددهم نحو ستمئة رجل عدا الأولاد. ولكن الفرعون ندم بعد ذلك وخرج بجيشه لمطاردة الهاربين, فنزل الرب بنفسه وأزعج عسكر المصريين وخلع دواليب مركباتهم, فقال المصريون: نهرب من إسرائيل لأن الرب يقاتل عنهم. وبعد معجزة شق مياه البحر أمام إسرائيل وغرق الفرعون وجنوده, حقق يهوه انتصاره على أعتى قوةٍ في ذلك الزمن.
وعلى ما جرت عليه عادة المنتصر من استيلائه على أموال وممتلكات المهزوم, فقد استولى يهوه على ممتلكات المصريين عندما زيّـن لهم إعارتها لبني إسرائيل, والتي حملوها معهم في خروجهم. ولكن إذا كانت هذه الغنائم التي تُـقرها قوانين الحرب مشروعة بالنسبة إلى يهوه, إلا أنها ليست مشروعة بالنسبة إلى بني إسرائيل, لأن الرب هو الذي قاتل عنهم وهم يتفرجون. لذلك فإن ما قاموا به لا يمكن وصفه إلا بالسرقة, وهذا هو التعبير الذي استعمله محرر سِـفر الخروج عندما قال: وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم فسلبوا المصريين.
هذه السرقة التي قام بها بنو إسرائيل مع الحدث الذي افتتح تاريخهم بمباركة إلههم, هي التي ستجعل أموال الأغيار من غير اليهود حِـلاً لهم, وسوف تكون وسيلتهم إلى ذلك هي الإقراض بالربا الفاحش ثم الاستيلاء على أملاك المقترض العاجز عن السداد. وقد أوضح لهم يهوه أيضاً أن الإقراض سيكون وسيلتهم للسيطرة على الأمم فقال لهم في سِـفر التثنية:
"إذا سمعت لقول الرب إلهك يقترض منك أممٌ كثيرون وأنت لا تقترض, وتتسلط على أممٍ كثيرين وهم لا يتسلطون عليك". ثم أوضح لهم أن الإقراض بربا سيكون محصوراً بالأجانب: "لا تقرض أخاك بالربا بل الأجنبي إياه تقرض". (التثنية 6-5:15 و20-19:23).
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |