في رحاب فكر "فراس السواح" الميثولوجيا و الأديان
مهدي جعفر
2018-06-30
ما إن نتحدث عن الأساطير و التراث الحضاري و التاريخي للأديان حتى يلمع اسم "فراس السواح" ، ذلك العظيم الذي أرغى بحثه في الميثولوجيا و تعمق في تاريخ الأديان ، ذلك الباحث الرصين القليل الظهور ، بل الذي غالبا ما يقترن ظهوره للجمهور بظهور أحد تحفه من الكتب و الدراسات ، التي عودنا أن تكون متدثرة بعباءة التاريخ و مكسوة بتحليل فينومينولوجي يستخرج المعنى من بطون الحوادث سواء كانت فكرا أو ظواهر ينسحب عليها نسيم القداسة ، تلك هي ميزة كتب السواح التي غالبا ما تسر الباحثين و تحفز القارئين عن الغوص في البدايات ، في سبيل الإقتراب من هذه البدايات سنحاول في هذه المقالة أن نعرج على أهم كتب فراس السواح ، بدءا بـ "مغامرة العقل الأولى" مرورا بـ " لغز عشتار " و "دين الإنسان" وصولا إلى كتابه الأخير "الله الكون و الإنسان" ، كما سنستأنس بكتب أخرى من أجل فهم أعمق و رؤية شاملة لتاريخ الأفكار المقدسة ، على غرار كتب المؤرخ العراقي المرموق "خزعل الماجدي" ، و الأستاذة الباحثة في الميثولوجية الشرقية "ميادة كيالي" ، مع تسجيل اقتباسات و ملاحظات من هنا و هناك لفطاحلة علم الأديان مثل "ملتشيا إلياد" و "غواشيم واش" و غيرهم ، كل ذلك في جزئين ، هذا الأول و الثاني سيأتي لاحقا .
نستهل المراجعة بأول تحف فراس السواح و أكثر كتبه شهرة و هو الذي وقع عليه اسم "مغامرة العقل الأولى" ، إذ من العنوان يتضح أن موضوع الكتاب يدور حول نمط أو شكل أولي من أشكال الفكر الإنساني البدائي أو القديم ، المقصود هنا هو "الأسطورة" ، إذ يصف السواح السياق التاريخي لتشكل الفكر الأسطوري كالتالي : “عندما انتصب الأنسان على قائمتين رفع رأسه الى السماء ورأى نجومها وحركة كواكبها ، وأدار رأسه فيما حوله فرأىالأرض وتضاريسها ونباتها وحيوانها ، أرعبته الصواعق , وخلبت لبه الرعود والبروق ، داهمته الأعاصير و الزلازل والبراكين ولاحقته الضواري ، رأى الموت وعاين الحياة . حيرته الأحلام ولم يميزها تماماً عن الواقع ، الغاز في الخارج و أخرى في داخله . غموض يحيط به أينما توجه وكيفما أسند رأسه للنوم تعلم أستخدام اليدين وصنع الأدوات ,وفي لحظات الأمن وزوال الخوف , كان لدى العقل متسع للتأمل في ذلك كله . من أين أتينا ؟ لماذا نعيش ؟ ولماذا نموت ؟ لماذا خلق الكون وكيف ؟ إلى اخر ما هنالك من أسئلة طرحت نفسها عليه . كان العقل صفحة بيضاء لم ينقش عليها شيء , و كأنه عضلة لم تألف الحركة خارج نطاق الغريزة , وبعد حدود رد الفعل ، ومن أداته المتواضعة هذه , كان عليه أن يبدأ مغامرة كبرى مع الكون ، و قفزة أولى نحو المعرفة ، فكانت الأسطورة ، وعندما يئس الأنسان تماماً من السحر ، كانت الأسطورة كل شيء له تأملاته وحكمته ، منطقه وأسلوبه في المعرفة ، أداته الأسبق في التفسير والتعليل , أدبه وشعره و فنه , شرعته وعرفه و قانونه ” (1) .
هنا يصل السواح إلى تعريف مبدئي للأسطورة معتبرا إياها : ” انعكاساً خارجياً لحقائق الإنسان النفسية الداخلية ، فالأسطورة نظام فكري متكامل , استوعب قلق الانسان الوجودي , و توقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه , والأحاجي التي يتحداه بها التنظيم الكوني المحكم الذي يتحرك ضمنه ، إنها بحث عن النظام حيث لا نظام , وطرح الجواب على ملحاح السؤال , و رسم لوحة متكاملة للوجود , لنجد مكاننا فيه و دورنا في ايقاعات الطبيعة . إنها الأداة التي تزودنا بمرشد ودليل في الحياة , ومعيار أخلاقي في السلوك , إنها مجمع الحياة الفكرية والروحية للإنسان القديم ” (2) . الأسطورة حكاية مقدسة , يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة , أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة , بل واقع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة , إنها سجل أفعال الآلهة , تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجة العماء , و وطدت نظام كل شيء قائم , و وضعت صيغة أولى لكل الأمور الجارية في عالم البشر. فهي معتقد راسخ , الكفر به فقدان الفرد لكل القيم التي تشده إلى جماعته وثقافته , و فقدان المعنى في الحياة .
الأسطورة , حكاية مقدسة تقليدية , بمعنى أنها تنتقل من جيل إلى جيل , بالرواية الشفهية . مما يجعلها ذاكرة الجماعة , التي تحفظ قيمها وعاداتها وطقوسها وحكمتها , وتنقلها للأجيال المتعاقبة , وتكسبها القوة المسيطرة على النفوس . فهي الداة الأقوى في التثقيف والتطبيع والقناة التي ترسخ من خلالها ثقافة ما وجودها واستمرارها عبر الأجيال وحتى في فترات شيوع الكتابة . لم تفقد الأسطورة الشفهية قوتها وتأثيرها, ذلك أن الألواح الفخارية كانت محفوظة في المعابد و في مكتبات الملوك , و لا تلعب إلا دور الحافظ للأسطورة من التحريف بالتناقل . وبقي السمع هو الوسيلة الرئيسية في تداولها . وفي أكثر من مناسبة دورية , كانت الأساطير تتلى أو تنشد في الإحتفالات الدينية العامة , من ذلك مثلاً , أعياد رأس السنة في بابل , حيث كانت تتلى وتمثل أسطورة التكوين البابلية . وأعياد الربيع حيث كانت تتلى و تمثل عذابات الإله تموز .
بعد ذلك ينتقل السواح إلى تقسيم الكتاب بأسلوب المنهج المقارن تبعًا للمواضيع و ليس تواريا خلف الفترات الزمنية ، ليبدأ بـ “سِفر التكوين” مرورًا بقصة الطوفان ، ثم الفردوس المفقود ، قابيل وهابيل ، و انتهاءً بالإله المخلّص و الرحلة إلى العالم الأسفل ، بحيث يتألف كل سِفر من عدّة فصول تتناول كلّ منها مكونات الأسطورة لدى أحد الشعوب القديمة (السومريون، البابليون، الكنعانيون…) ، إذ يرى السواح ضرورة الإيمان بالوحدة الثقافية للمنطقة ، وأهمية دراسة الأساطير من خلال منظور شامل و إلا ستبقى عصية على الفهم ، ذلك ما قام به الأستاذ فراس ، فقد تناول الأساطير التوراتية ، و بعض الأفكار الدينية السائدة في المنطقة الشرقية ، و قارنها مع أساطير الشعوب المجاورة ، كما تتبع الأصول المشرقية للأساطير الإغريقية ، ذلك من خلال أسلوب أدبي رفيع المستوى .
تطرق المؤلف للديانة اليهودية ، مهتما بها في سياق تاريخي مستعيناً بالتوراة من جهة و بالأساطير التي عاصرت فترات كتابته من جهة أخرى ، إذ يرسم العلاقة بينها مفصلاً في الخلق ، و الجنة و النار ، مولياً اهتماماً خاصاً لقصة قابيل وهابيل آنفة الذكر ، موضحاً قصة ذاك الخلاف بين الرعي و الزراعة .
إذ أبدى السواح بالأساطير اهتماما التي تُعنى بوصف الجنّة و الحلم الذي انتظره الإنسان بعد الظلم الذي تعرض له في الدنيا ، يعرِّج بعدها الكاتب على الصراع الدائم بين المجتمعين الزراعي و الرعوي و الذي تجلى في الأساطير من خلال الصراع بين قابيل المزارع وهابيل الراعي (3) . لم يتوقف الكاتب عند هذا ، بل ذكر أساطير العالم الأسفل، و كيف تجلَت صوره عند كل جماعةٍ معتمداً على ترجمة النصوص الكاملة لأهم الأساطير المعروفة دون تخلٍّ أو تزييف لها و لم ينس ذكر آيات من القرآن تتشابه فكرتها مع أساطير شعوب الشرق القديم .
مثال ذلك أسطورة الخلق من الطين ، التي تحفل بها كل تفاسير أديان التوحيد و تعزي عبرها أصل الإنسان (الرجل) إلى التراب و خلق المرأة من ضلعه ، إذ يناقش السواح بعض الباحثين في السومريات في أن كلمة (تي) في السومرية تعني ضلع ، و لكنها تعني أيضاً (أحيا) أو (جعله يحيا) أما كلمة (نن) فتعني سيدة ، انطلاقا من استنتاج بعد بحث أن اسم "ننخرساج" تعني سيدة الجبل ، على هذا يكون اسم الإلهة (ننتي) يعني سيدة الضلع أو السيدة التي تحيي ، هذه السيدة شبيهة بحواء في الثوراة التي أخذت من ضلع آدم فهي سيدة الضلع وهي حواء بمعمنى التي "تحيي" ، إذ ذاك ما "سرقته" أو لنقل على الأقل استعارته المسيحية و الإسلام لتفسير أصل الإنسان الأول .
فالأسطورة السومرية المتعلقة بخلق الإنسان ، هي أول أسطورة خطتها يد البشر في هذا الموضوع ، وعلى منوالها جرت أساطير المنطقة ، والمناطق المجاورة التي استمدت منها عناصرها الأساسية ، وخصوصاً فكرة تكوين الانسان من طين ، و فكرة تصوير الإنسان على صورة الآلهة (4) .
أما لماذا خلق الانسان ؟ فإن الاسطورة السومرية لا تتردد في الاجابة على هذا السؤال ولا توارب في صحة الجواب ، فالانسان خلق عبداً للآلهة ، يقدم لها طعامها وشرابها ، ويزرع أرضها ويرعى قطعانها , خلق الأنسان لحمل عبء العمل ورفعه عن كاهل الآلهة. فمنذ البدء كانت الآلهة تقوم بكل الأعمال التي تقيم أمورهم وتحفظ حياتهم , ولكنهم تعبوا من ذلك فراحوا يشتكون "لأنكي" الحكيم , ليجد لهم مخرجاً ولكنه , هو المضطجع بعيداً في الأغوار المائية , لم يسمع شكاتهم . فمضوا إلى أمه الإلهة "نمو" المياه البدئية التي أنجبت الجيل الأول من الآلهة , لتكون واسطتهم إليه , فمضت إليه قائلة : "أي بني , انهض من مضجعك , انهض و اصنع أمراً حكيماً اجعل للآلهة خدماً , يصنعون لهم معاشهم" (5) .
هنا يلاحظ السواح أن أسطورة الخلق السومرية تسربت عناصرها إلى معظم أساطير الشعوب المجاورة ، ففي الأساطير البابلية اللاحقة يتم خلق الإنسان من الطين ، و يفرض عليه حمل عبء العمل . و في سفر التكوين العبراني ، نجد إله اليهود يهوه يقوم بخلق الإنسان من طين بعد انتهائه من خلق العالم , ويجعله على شاكلته : (وجبل الإله آدم تراباً من الارض , فنفخ في أنفه نسمة الحياة , فصار آدم نفساً حية) ، و رغم أن الهدف الذي يقدمه النص الثوراتي لخلق الإنسان ، هو السيطرة على (سمك البحر وطير السماء ، وعلى البهائم ، و على كل الأرض و على جميع الدابات التي تدب على الأرض) ، إلا أنه يعود فيفرض عليه عبء العمل ، تماماً كالنص السومري : "لأنك سمعت لقول امرأتك و أكلت من الشجرة ، التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها ، ملعونة الأرض بسببك ، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك ... بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها ، لأنك من تراب و إلى التراب تعود" (6) ، و هو ما يتطابق تقريبا مع ما جاء به القرآن الإسلامي و الأناجيل المسيحية .
إذ ذكر الأستاذ فراس السواح في آخر كتبه ، أن قبيلة قريش مثلا التي ينتمي إليها مؤسس الديانة الإسلامية "أصلها سوري" و لم تهاجر إلى الحجاز إلا قبل بضع أجيال من ميلاد النبي محمد (7) ، و بما أنها سورية الأصل و المنشئ فهذا يعني أنها تحمل إرثا ميثولوجيا لثقافة المنطقة التي هجرت منها ، ما يجعلنا نعتقد أن الأساطير الإسلامية كأسطورة الخلق و التكوين و قابيل و هابيل و الجنة و النار و غيرها ، تمت استعارتها مباشرة من أساطير السومريين و البابليين و غيرهم من شعوب بلاد الرافدين و الشرق القديم . ما يدفع للتساؤل باستغراب هل مصدر هذه الأساطير السماء (الله) أم الأرض (السوماريين) ؟
نعود لنصرح بأنه يمكن كذلك أن نجد في الأساطير المصرية ترداداً لنفس الفكرة ، و كذلك الأمر في الأساطير الإغريقية التي تعزو "لبروميثيوس" خلق الانسان ، فقد قام هذا خير بخلق الإنسان من تراب و ماء ، وعندما استوى الإنسان بالوسائل التي تعينه على البقاء و الإستمرار سرق له النار الآلهية من السماء ، ضد رغبة زيوس كبير الآلهة ، وأفشى له سرها وكيفية توليدها و استخدامها ، فنال بذلك غضب زيوس فعقابه” (8) .
بعد ذلك يواصل السواح اقتفاء أثر الأسطورة في موضوعات أهمها التكوين و الخلق ، ذلك في ثقافة حفدة السومريين و هم الأكاديون و البابليون ورثة الثقافة الميثولوجية ، إذ يعزي السواح لهم دورا رائدا في إغناء و نشر الفكر الأسطوري (9) ، ذلك إذ شكلت ملحمة "الأنوما إيليش" أقدم أشكال التعبير عن التكوين بأسلوب ساحر أخاذ لم يتوانى السواح في التعبير عن الإعجاب به ، عموما فإذا أردنا تلخيص هذه الملحمة الخالدة التي كتبت قبل "الإليادة و الأديسة" بألف و خمسمئة سنة (أي أكبر من عمر الإسلام) ، فسنقول أن كلمة الأنوما إيليش تعني "في الأعالي" حيث لم يكن لا أرض و لا سماء ، بل كان هناك فقط ثلاثة آلهة ، "إبسو" و هو الماء الحلو ، و زوجته "تعامة" و هي ماء مالح ، ثم و "ممو" و هو أمواج نشأت عن إبسو ، هكذا بدأت هذه الآلهة الثلاث تتناسل فولدت "لخمو" و "لاخو" و غيرهم ، فاعتلى كل إله ظاهرة طبيعية ، أحدهم أصبح إله للسماء و آخر للشمس و آخر للمطر و غيره للعواصف ، هكذا خلق الكون حسب ملحمة "الأنوما إيليش" الذي سيتسنم الإله مردوخ بعد ذلك درجة إله الآلهة فيأمر باتخاذ بابل مدينة للآلهة و بناء فيها معبد تنطح ذروته السماء (10) .
يتفرغ بعد ذلك السواح لمناقشة أفكار أسفار الثوراة و أديان شعوب الشرق الأدنى القديمة ، ذلك عبر منهج مقارن مع أساطير السومريين و البابليين و الكنعانيين ، متطرقا لأسطورة التنانين و كذا أسطورة الجحيم و الجنة و قابيل و هابيل ، مناقشا كذلك أسطورة الإله و الرجل المخلص ذلك عبر تمثيل بالمسيح كآخر رجل و ابن إله مخلص . هكذا وضّح لنا السواح من خلال كتابه "مغامرة العقل الأولى" أهمية الأسطورة كمحاولة للفهم و الوصول للحقائق التي تؤطر الوجود ، فهي أداة الإنسان القديم في التفسير و التحليل ، هي حكاية مقدسة يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة ، أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة ، إنها سجل افعال الآلهة ، تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجة العماء ، و وطدت نظام كل شيء قائم ، و وضعت صيغة أولى لكل الأمور الجارية في عالم البشر .
__
ننتقل الآن إلى استعراض كتاب لا يقل أهمية عن الأول ، و هو "لغز عشتار" الذي يمثل دراسة حول أسطورة الإلهة الملكة "عشتار" ، إذ يتوزع الكتاب على أحد عشرة محورا ناقش عبرها فراس السواح أهم صفات و مميزات و خصوصية أسطورة عشتار كل بحياله و باستفاضة ، من أجل إبداء وجه جديد لمعاني هذه الأسطورة الشهيرة .
لا يمكن الحديث عن العراق القديم وعن حضارته ومعتقداته ومجتمعه من دون الحديث عن "عشتار" أو "عينانا" وحبيها "تموز" أو "دموزي" ، إن هاتين الشخصيتين ليسا كما قد يتصور البعض ، مجرد شخصيتين أسطوريتين ، بل هما الشخصيتان الأساسيتان في الديانات العراقية ، فمن تكون عشتار ؟
يصفها حسن النجفي بأنها: "الإلهة التي عُرِفَتْ عند الأقوام السامية باسم عشتار وعشتروت ، أما الإغريق فقد أطلقوا عليها اسمَ أفروديت والرومان اسمَ فينوس ، و من المعروف أن عبادتها كانت سائدة في جميع حواضر العراق القديم؛ وقد اختصت بالحب والحرب ، و أطلق البابليون اسمَها على أشهر بوابة في بابل: "بوابة عشتار". وعشتار هي ابنة إلهة القمر سن و حبيبة تموز" (11) ، أما لطفي الخوري فقد ذكر أن : "عشتار ابنة أنو استنادًا إلى بعض النصوص، وابنة سن استنادًا إلى نصوص أخرى. وكانت تسمِّي نفسَها "إلهة الصباح وإلهة المساء". وهي من أكثر الشخصيات شهرةً في المجمع الإلهي الآشوري/البابلي [...] وهي التشخيص الإلهي لكوكب الزهرة ، فبينما جعل الآشوريون و البابليون عشتار إلهةً ، جعلَها العربُ إلهًا باسم عثتر " (12) .
أما عشتار، فتتحدث عن نفسها قائلةً : "أنا الأول، وأنا الآخر/ أنا البغي، و أنا القديسة/ أنا الزوجة، و أنا العذراء/ أنا الأم، و أنا الإبنة/ أنا العاقر، و كُثُرٌ هم أبنائي/ أنا في عرس كبير ولم أتخذ بعلاً/ أنا القابلةُ و لم أنجب أحدًا/ أنا سلوى أتعاب حَملي/ أنا العروس وأنا العريس/ وزوجي مَن أنجبني/ أنا أم أبي ، وأخت زوجي/ وهو نسلي " (13) . من هنا كان عنوان كتاب فراس السواح عن عشتار مناسبًا للدلالة على "لغز" هذه الإلهة المثيرة للعجب و الجدل ، ففراس السواح فيما هو يتصدى لإماطة اللثام عن هذا اللغز ، يؤكد في فاتحة كتابه "وحدة التجربة الروحية للإنسان عبر الزمان واختلاف المكان" ، مؤكدًا ما ذهب إليه الشيخ "محيي الدين بن عربي" في كتابه "فصوص الحكم" من أن "عبادة الآلهة المتعددة ليست في جوهرها إلا عبادة الإله الواحد" (14) ، ما يؤكد أن عشتار وجه من وجوه هذا الإله "عندما كان لايزال أنثى" .
فبما أننا في خضم مطالعة تاريخ الأفكار المقدسة ، نشير بأن الإله تاريخيا تأرجح جنسه ما بين الذكورة و الأنوثة حسب الطبيعة الجنذرية للإطار الإجتماعي التي "تُخترع" أو تولد فيه الأديان ، هنا يؤكد فراس السواح أن تاريخ الوحدة الإجتماعية (أقصد الأسرة) لم يكن تاريخيا دائما "أبويا - بطريركيا" ، و إنما اضطلعت المرأة في العصور القديمة بدور القائدة و الزعيمة و الملكة بل حتى الإلهة (15) ، و هو ما تؤكده أدبيات السوسيولوجيا التي أوقعت اسم "الأسرة الأميسية" على الأسرة التي تتسنم فيها المرأة أعلى مستوى في هذه المؤسسة ، ثم "الأسرة الأبيسية" و هي التي يسيطر فيها الرجل (16) ، لا تتخلف الأنثروبولوجية كذلك عن تأكيد هذه الحقيقة التاريخية ، فقد قدمت الأمريكية "مارغاريت ميد" أطروحة تفصيلية في هذه النزيلة ، إذ قسمت القبائل التي درست نسق القرابة و الجنسانية فيها إلى ثلاثة أنواع ، "الأرابيش" حيث لا مسيطر في الأسرة بل هناك مناصفة متوازنة بين الرجل و المرأة ، و "الموندوغومور" حيث الرجل مسيطر و المرأة تعانده ، غير أن "الشامبولي" تكون فيها المرأة محتلة للهرم الإجتماعي ، هي الزعيمة و الحاكمة ، أما الرجال في هذا الصنف من القبائل فينصرفون للتجميل و الإعتناء بأنفسهم (17) ، العجيب من كل هذا أن الإله في النوع الأول يكون مؤنثا و مذكرا ، و في النوع/القبيلة الثانية يكون مذكرا ، أما في الثالث فيكون الإله مؤنثا خالصا.
هكذا يتضح أن جنس الإله ينعكس حسب الطبيعة الجنسانية للمجتمع الذي يؤمن بهذا الإله ، فمثلا مجتمع صحراوي بدوي "ذكوري" مثل الذي ولد في رحمه الدين الإسلامي ، لا يمكن أن ينتج إلا دينا ذكوريا ، و قس على ذلك باقي الأديان بالقياس إلى طبيعة مجتمعاتها جنسانيا ، من جانب آخر فإن دور المرأة الطلائعي هذا في المجتمعات القديمة سينقرض عبر انقلاب ذكوري استغرق 2500 سنة حسب "غيردا ليرنر" (18) ، إذ ترجع فضلا عن ذلك مجموعة من الباحثات كسوف مكانة المرأة في التاريخ و الإنقلاب عليها إلى الأديان التوحيدية التي تتمحور حول الفحولة و الفضاضة الذكورية ، ذلك ما ذهبت إليه "مارلين ستون" في كتابها “عندما كان الرب أنثى” إذ وجهت أصابع الإتهام حقيقة للأديان الإبراهيمية بأنها من حطم تماثيل الإلهة و أزاحتها ، و بالتالي دمرت رمزية المرأة و مكانتها (19) .
عموما نعود لنقول أن أسطورة عشتار تركبت أحجيتها في هذا السياق ، أي يوم كان للمرأة سلطان الملك و الألوهة ، و للدلالة على ذلك في بلاد الرافدين ، نسوق ما أشارت إليه الأستاذة "ميادة كيالي" من أن حتى "رسومات الكهوف أثبتت الأبحاث أنّ 75% من بصمات الأيدي التي رسمتها نسائية ، فالمرأة كانت أول ملكة حكمت و أفلح قومها ، و بنوا لها مسّلة و تماثيل تمجدها ، و أنها أول شاعرة في التاريخ ، تحت أمرها اكتشفت الزراعة و دجّنت الحيوانات ، و انطلقت أولى الصناعات اليدوية ، و بأنها كانت المسؤولة على حسابات القصور و البلاط ، كما كانت إلهة و كاهنة " (20) ، غير أن المرأة من بعد فجأة ستصبح ضلعا أعوج و ناقصة عقل و حكمة و مصدر للخطيئة الأولى ، لذلك لا دير أن تظهر أسطورة عظيمة للمرأة على طراز عشتار في هذا السياق التاريخي .
هنا يذكر فراس السواح أن الإسم البابلي لأول إلهة هو "عشتار" ، أي "عيش الأرض" ، إذ يكمن "لغزها" في كونها "ربَّة الحياة وخصب الطبيعة، وهي الهلاك والدمار وربَّة الحرب. في الليل عاشقة، وفي النهار مقاتلة ترعى المواقع وتغشى المذابح. هي الأم الرؤوم الحانية [...]، وهي البوابة المظلمة الفاغرة لإلتهام جثث البشر ، هي ربَّة الجنس وسرير اللذة، وهي مَن يسلب الرجالَ ذكورتَهم ، هي القمر المنير ، وهي كوكب الزهرة ، هي النور، ورمزُها الشعلة الأبدية، وهي العتم والظلمة وما يخفى . هي القاتلة، و هي الشافية ، هي العذراء الأبدية ، وهي الأم المنجبة . هي البتول ، و هي البغي المقدسة ، هي ربة الحكمة ، و هي سيدة الجنون ، هي الإشراق بالعرفان ، و هي غيبوبةُ الحواس وسباتُها ، التقتْ عندها المتناقضاتُ و تصالحتِ المتنافرات " (20) ، من هنا كان لغز عشتار : الأسطورة الأولى الديانة الأولى ، الطقوس الأولى . عشتار إذن ، هي "سيدة الأسرار" ، تقول عن نفسها بلسان الأمِّ المصرية الكبرى: "أنا ما كان ، و ما هو كائن، و ما سيكون" (21) .
في سبيل حل لغز عشتار يتبيَّن السواح ، استنادًا إلى ج.ج. باخوفن (في كتابه الأسطورة والدين وحق الأم) أن هذا المجتمع الأول كان قائمًا على "المبدأ الأمومي" الذي هو : "مشاعة وعدالة و مساواة ، بينما المبدأ الأبوي تملُّك وتسلُّط وتمييز ، الأمومية توحُّد مع الطبيعة وخضوعٌ لقوانينها، والأبوية خروجٌ عن مسارها وخضوعٌ لقوانين مصنوعة" (22) .
غير أننا لا نعرف صانع هذه القوانين : أهو المرأة ، أم الرجل ، أم كلاهما ؟ حيث إننا هنا أمام تعاطُف غير عادل و إلزام غير منصف ، فكأن هذه القوانين قد أُعِدَّتْ لصالح جنس دون الآخر أو لهدف محدد دون سواه ، فالعلاقات الجنسية في المجتمع الأمومي الأول كانت مشاعية، حرة تمامًا من أية ضوابط، حيث "كل امرأة لكلِّ رجل، وكل رجل لكلِّ امرأة ؛ بينما نظام العائلة اللاحق يعتمد رابطة الدم ، أما النظام الوراثي، في المرحلة الأخيرة السابقة لظهور المدن الأولى، فقد قضى على "حق الأم" وأحلَّ محلَّه "حق الأب" (23) . غير أنه إذا تنبَّهنا إلى عشتار القدوسة "الأم الكبرى" ، فإننا سنتبين أن تماثيلها كانت : " أول عمل فنيٍّ تشكيليٍّ صاغَه الإنسانُ على شاكلته ، لم تكن تلك الأعمال الفنية نتاج ولع فنيٍّ جمالي بمقدار ما كانت نتاج حسٍّ ديني و خبرة أولى مع العنصر الإلهي (24) .
بعد ذلك ينتقل السواح إلى محور "عشتار القمر" حيث يقول : "مثلما وَجَدَ الإنسانُ القديم في الأرض تجسيدًا للأم الكبرى، كذلك وَجَدَه في القمر ، الإثنان يكشفان عن حقيقة واحدة وينتميان لمبدأ واحد و في كلِّ مكان نعثر على ثنائية الأرض والقمر وعلى الاعتقاد بصلتهما الخفية (25) ، حيث يوضح المؤلِّف هنا مسألةَ الإهتمام بالقمر و الشمس موضحا أن "الإنسانُ عظَّم الشمس ، ولكنه لم يجد فيها ندًّا للقمر ، لم تُثِرْ في نفسه من العجب والتساؤل ما أثاره القمر الشمس تشرق كلَّ يوم من نفس المكان وتغرب في مكان محدد آخر، في حركة رتيبة منتظمة ، أما القمر فـ"كل يوم هو في شأن" (26) ، فقد لُقِّبَتْ عشتار بـ"ملكة السماء" لعلاقتها بالقمر و تغيُّر طباعها بتغيُّر أطواره ، كذلك بـ"البقرة السماوية" لإرتباط رسم الهلال بقرن البقر ، يقول السواح : "منذ أن رأى الإنسانُ في القمر تجسيدًا لعشتار، ربط في ذهنه رمزيًّا بين قرون البقر وقرنَي الهلال، و صوَّر في خياله الأمَّ الكبرى على هيئة بقرة سماوية يرسم قرناها هلالاً في السماء" (27) .
يرى فراس السواح أن الإعتقاد بأنوثة القمر وتمثيله للأمِّ الكبرى قد ساد الحضارات القديمة، وبقيت آثارُه في الأقوام البدائية في عالمنا الحديث ، فإن معظم الثقافات البدائية تنظر إلى القمر باعتباره أنثى وتعتقد بتجسيده لإلهة أنثى ، من ناحية أخرى يربط المؤلِّف بين حياة المرأة الفسيولوجية و البسيكولوجية وبين طبيعة القمر و إيقاعه المتغير، نظرًا لإرتباط ذلك بالدورة الشهرية للمرأة التي تقابلها دورةُ القمر إذ يوضح السواح قائلا : "يبدأ هلالاً في أول الشهر ليتلاشى في آخره ، بعد أن يمر في منتصف الشهر بمرحلة البدر ، هذا ويحكم إيقاعُ القمر حياةَ المرأة ، حتى إن الكثير من اللغات البدائية استخدم مصطلحَ "المرض القمري" للدلالة على الحيض ، بينما نجد الرجل يحكم حياتَه إيقاعُ الشمس ثم القمر (28) ، بهذه المثابة ، فهو الأنثى المتقلِّبة المزاج الغامضة الأطوار ، التي تستلهم في سلوكها خصائصَها الطبيعية ، لا قوانين التنظيمات الإجتماعية المُحكمة .
و في هذا تشبه المرأة القمر المتبدل دائمًا ، أما الشمس فهي الذكر ، واضع القوانين وعبدها ، يصوغ الغايات والأهداف المتعالية على نظام الطبيعة ، ولا يخلص من ربقتها طوال حياته . الرجل نظام المجتمع ، ينظر دائمًا نحو الأعلى ، راغبًا في مزيد من الإنجاز وتحقيق عظائم الأمور ، في هذا الصدد، ينقل السواح عن البابليين كونهم : " يمثلون شهور السنة القمرية بأبراج السماء الإثني عشر التي أسموها منازل القمر، كما أطلقوا اسم زنار السيدة عشتار على دائرة الأبراج التي يقطعها القمرُ في أثناء عبوره في السماء " (29) ، لذلك فضمن هذا الإهتمام بلغز عشتار ، كان اسمُها يُطلَق على كوكب الزهرة : الكنعانيون سمَّوْها عستارت ، و الإغريق أطلقوا عليها اسم أفروديتي ، والرومان فينوس ، إذ يشير المؤلِّف ، في آخر حديثه عن "سيدة الشعلة"، إلى أن "تمثال الحرية العملاق المنتصب أمام نيويورك في عرض البحر [استلهم صانعُه] عشتار ، سيدة الشعلة المقدسة، مؤكدةً وجودَها في قلب أعتى ثقافة ذكورية بطريركية عبر التاريخ (30) .
هذا ما يعني أن عشتار لا جذر لها في الضعف بل في القوة المؤنثة ، بحيث اتُّخذَتْ رمزًا في بلدان عديدة ، حتى إنها "تبدو في كلِّ الثقافات مصحوبةً بالأفعى في كثير من الأعمال التشكيلية التي تصوِّرها" ، وإذا ما علمنا أن "الحية" تعني الحياة ، وأن الحية هي حواء أم البشرية ، وأنها "حية" لا تموت ، بل تغيِّر جلدَها كلَّ موسم ، أدركنا أن عشتار حاضرة في هذا الرمز الحي كذلك ، انطلاقًا من أن الحية عارفةٌ بأسرار النباتات وخصائصها ، حتى أصبحت رمزًا للطبِّ و الصيدلة و الشفاء (31).
يرى فراس السواح ، في معرض تحليله لعلاقة عشتار بالموت ، أن "الحرب ليست إلا اندفاعًا لاشعوريًّا نحو الموت و تلبيةً لنداء داخلي بإيقاف الحياة ، نداء يصدر عن عشتار السوداء التي رفَعَهَا الإنسانُ إلهةً للحرب وأسقط عليها ميولَه التدميرية الكامنة (32) ، إلى جانب ذلك، نتبيَّن أن " الشمس تدعو إلى التفكير المنطقي الصاحي، أما القمر فهو سيد الإلهام الذي يهبط دونما تصميم أو تدبير ، لذلك يتلمَّس الرجلُ طريقَه للمعرفة بالتأمل العقلي المنطقي ، أما المرأة فتتلمس طريق الإحساس الباطني والغريزة و الكشف القلبي طريقان لفعالية العقل، أطلق عليهما التصوفُ الإسلامي اسم المعرفة للأول والعرفان للثاني (33) .
من هنا فإن عشتار هي "سيدة الرؤى" ، و هو لقب عُرفت به كلٌّ من سيبيل وآرتميس–هيقات ، الإلهة المرعبة السوداء وسيدة الظلام وواهبة الحكمة للبشر ، وعند الإغريق هي صوفيا ؛ ومنها جاءت كلمةُ فيلو–صوفيا ، أي "حب الحكمة" التي أُطلِقَتْ على الفلسفة (34) ، في حين تظهر علاقة الحكمة بعالم الليل و الظلام في أسطورة الشيخ الأعمى تيريسياس ، حكيم الإغريق المشهور، الذي لم تَخِبْ له نبوةٌ قط ، والذي تنبأ لأوديب الملك بمصيره الفاجع (35) .
بهذه الطريقة غاص فراس السواح عميقًا في تناوُل أقدم الأساطير التي عرفتْها البشرية و قدَّستْها و تواصلت معها ، غير أنه، إلى جانب بحثه المستفيض في استقصائه "للغز عشتار" ، يتناول جوانب من القصص الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي ، مثل قصص يوسف الصديق ، الخضر ، النبي إبراهيم ، السيد المسيح، والعذراء مريم ؛ فضلاً عن تناوُله الأديان الموغلة في القدم ، و كيف صنع الإنسان لنفسه فيها آلهةً يعبدها ويمتثل لأوامرها و يخشاها ويتوسل إليها – مع أنه هو نفسه مَن أوجد المخيِّلة التي سعت إلى اكتشافها ، من هذه الآلهة : عشتار و تموز ، فكانت الأولى رمزًا يتمثله في القمر كما رأينا ، و الثاني في الشمس فيهتدي به ، عموما فقد أفلح فراس السواح في هذا الكتاب في تقديم عرض شموليٍّ لأصول الإلهة القديمة ، متكئًا في بحثه على سلسلة من الأساطير التي عُرفت في وادي الرافدين و بلدان عديدة ، في حقب زمنية مختلفة (36) .
من خلال كتاب "لغز عشتار" نستطيع تلمُّس روعة و قيمة فراس السواح ليس كباحث أو مؤرخ ، و إنما "كشارح" لرموز و دلالات الأسطورة ، و هي ميزة لا يمتلكها إلا عظماء المفكرين و الفلاسفة ، خصوصا في ميدان الميثولوجيا ، فـ"جوزيف كامبل" الأمريكي من أشهر من حاول اكتساب هذه الميزة و في نظري حقق شيءا منها ، و مواطنه "كليفورد غيرتز" تطلع لنفس الغاية في الأنثروبولوجية التأويلية غير أنه لم يحقق نجاحا كبيرا ، لأنه يكتب بمنطق معقد إذ أن كل معاصريه انتقدوه في ذلك من هنا لم يفلح ، أما فراس السواح فإن منهجه الفينومينولوجي الذي يتغيى استجلاء "معاني" لا أحكام أو قوانين الظواهر ، ثم و بلغة بسيطة سهلة الفهم ، ذلك ما سمح له بأن يكتسب قدرة رفيعة على توضيح و تفسير معنى الأسطورة و دلالة الأديان ، بعيدا عن مطبات "الحكم" على الدين و الأسطورة و البحث هل هما واقعيان أم باطلان كما يفعل بعض الفلاسفة و العلماء ، و من هنا فرادة و ميزة التحفة "فراس السواح" .