1 منفردة 39 انحدرت السيارة متهادية في الشارع الذي سوف يطلق عليه بعد ذلك بسنوات ثلاث اسم شارع "الشهيد باسل الأسد" وانعطفت صوب مدينة المعرض ثم توقفت عند الزاوية، فانفتح الباب الخلفي ونزل منها ببطء شخص يشبهني تماما، له القامة نفسها والوجه نفسه والمشية نفسها، ويختلف عني في الهدوء الشديد المرتسم على محياه. هدوء مرده عدم التصديق _ عدم تصديق أنه ينزل من تلك السيارة وأنه في غضون لحظات سيتمكن من السير على قدميه واختيار المكان الذي سيقصده وأنه سيكون وحيدا، وحيدا بمعنى أنه لن يكون مجبرا على رفقة لا يريدها ولا يحبها. هي لحظات وسوف يفيق بعدها ليجد نفسه على العازل* نفسه محاطا من اليمين بحبيب ومن اليسار بنادر. سيفيق، وسيكون دوره في السخرة**. وإذن فسيكون عليه أن يبدأ صباحه بملأ الأوعية بالماء وشطف الممر وتحضير الطعام وغسل الأواني ومسح الأرض. وبعدها يمكن أن يجد متسعا للعب برتية طرنيب مع عبد وفاروق وجمال. ثم سيضجع على العازل. يأخذ كتابا لهايدغر أو لفوكو يقرأ قليلا ثم يروح يحلم من جديد بأنه خارج هذا العالم كله. غير أنه لا يفيق. رمته السيارة خارجا ومضت. سأله المقدم إن كان يريد إيصاله إلى مكان ما، ولكنه رفض. تأمل السيارة وهي تبتعد. سيارة بيضاء انسيابية الشكل، حنون وودود. اختفت عن عينيه بعد ثوان، وبقي وحيدا. وحيدا لأول مرة منذ عشر سنوات قضاها ليلا ونهارا بصحبة أعداد كبيرة من الآدميين، في حيز ضيق من المكان. جهز نفسه للاستيقاظ من جديد. ولكنه لا يفيق. السيارات تمر بجانبه دون أن تعيره اهتماما. لم يكن عددها كثيرا في تلك الساعة من الأصيل. نظر إلى ساعة معصمه: الثالثة والثلث. وهو لا يفيق. أين يذهب الآن؟ هو لا يعرف عنوانا في دمشق. أخواه غيرا مسكنيهما إلى مشروع دمر: فراس من المزة، وسحبان من الصالحية. آخر عنوان معروف لهما لن يؤدي إلى مكان. وإذن أين؟ قبل عشر سنوات كان مشروع دمر ضاحية جديدة غير مأهولة بعد. وكان ثمة باصان اثنان فقط ينقلان الركاب من جسر فكتوريا إليها وبالعكس. وهو ما يعني أن عليك أن تنتظر نصف ساعة على الأقل لتأخذ الباص. هو يعرف ذلك لأنه كان هناك مرة. صديقه (المرحوم الآن) هاني الراهب يسكن في المشروع. الجزيرة الثالثة. هو الأمل الوحيد له، إذا ما كان لا يزال هناك. لينتقل إلى المشروع، كان عليه أن يغامر مغامرة كبرى. كان عليه أن ينتقل من الضفة اليسرى لشارع القوتلي إلى الضفة اليمنى. لم يكن واثقا أنه يستطيع ذلك. السيارات، على قلتها، كانت تمر بسرعة خارقة. بعد تردد وضع رجله على قارعة الطريق ثم أعادها بسرعة، ووقف يلتفت يمنة ويسرة ألا يكون أحد قد التفت إليه. إن استيقظ الآن فلن يكون عليه الإقدام على ذلك، ولكنه لا يفيق. أيكون أنها الحقيقة وأنني (سأبدأ الآن باستخدام ياء المتكلم، لأن صاحبنا شديد الشبه بي إلى حد أنني بدأت لا أستطيع التمييز بيني وبينه) قد أفلت فعلا، وأنه لن يكون علي صبيحة الغد أن أعد كأس المتة الصباحي التي لم أحبها أبدا ولن يكون علي أن أسير في الممر الضيق الطويل الذي تطل عليه مهاجع الرفاق العشرة في الجناح ألف، فأوزع الابتسامات وأكبت ضيقا قاتلا، ممضا يفتك بي شيئا فشيئا. لن يكون علي أن أواجه عذاباتي الصغيرة، قلقي، ضآلتي أمام السجان والرفاق الذين أحبهم والرفاق الذين لا أحبهم وأهلي حين يأتون لزيارتي من وراء الحاجز المعدني، يحملون الكتب والسكر والشاي والمحارم. حيرة نفسي المريضة إزاء نفوس مريضة تحيط بي من اليمين واليسار والأمام والوراء والفوق والتحت. ضعفي أمام عينين سوداوين وعينين خضراوين وعينين بنيتين. كآبتي ومحاولتي المستمرة للهرب من مكان لا مهرب منه. كتبت مرة تعريفا للسجن: السجن هو انعدام إمكانية الهرب. الحرية أنك تستطيع أن تهرب من أي مكان أو زمان أو شخص لا تريده. تستطيع أن تهجر صاحبتك أو تطلق امرأتك أو تغادر صفوف حزبك أو تغير عملك. في السجن أنت ببساطة لا تستطيع. زملاؤك مفروضون عليك.. سجانك مفروض عليك.. طعامك مفروض عليك.. كتابك مفروض عليك.. عشقك مفروض عليك وذكرياتك مفروضة عليك وأنت ببساطة لا تستطيع أن تهجر أحدا ولا تترك مكانا ولا تنهي علاقة. وضعت رجلي المسكينة كرة أخرى في الطريق. وتحينت برهة مرت بدون سيارة تعصف كزوبعة. وغززت السير إلى الناحية الأخرى. مشيت ومشيت ومشيت، دهرا، أبدا، قبل أن أصل إلى الجزيرة المنصفة للشارع، مبهور الأنفاس، يخفق قلبي خوفا وإثارة. كانت الشمس تداعب اصفرار وجهي الذي غاب عن الشمس زمنا مديدا. ونسمة نيسانية حلوة تخلخل خصلات شعري الأشعث الذي لم يعرف مشطا منذ يومين اثنين. منذ أن اجتاحت عاصفة الجناح ألف يمين وخبطت البساطير العسكرية تؤدي التحية للعقيد بركات، مدير السجن الذي كانت ابتسامته أوسع من وجهه، حين راح يتلو أسماء الذين سيبعثون أحياء بعد موت طويل. عماد، حبيب، حسن، لؤي، منصور، هيثم، جمال، عدنان، وفيق، نصار، حسام، علي، نادر، آخرون وآخرون قبل أن يأتي اسمي على لسانه. دهر مر قبل أن تحين تلك اللحظة. وفي السجن يتبلور الزمن كحبات كريستالية، صافية ونقية. تستطيع أن ترى من خلالها وتعدها وتلمسها وتلعب بها. مادت الأرض بي، ووقفت زمنا لا أروم شيئا. هزني الرفاق، نكشوني بأصابعهم وأيديهم، وساعدوني على لملمة حوائجي. تأملت وجوههم. كانت بلا لون ولا طعم ولا رائحة. وجوه طالما أحببتها وكرهتها، رضيت بها ورغبت عنها، صاحبتها وتشاجرت معها، تنظر الآن نحوي وأنا أعبر البرزخ إلى العالم الآخر. هل فكرت وقتها أن من الظلم أن أخرج أنا ويبقون؟ لست أدري الآن. لقد دخلت عالما من انعدام الوزن والذاكرة واليقين. عالم امتد ردحا من الوقت اختلط فيه الحلم بالحقيقة والوهم بالواقع. وبقيت أشهرا طوالا أتساءل، ما إن أترك وحيدا لوهلة من الزمن، أهو الواقع إذن أم أنني سأفيق بعد قليل على صوت هيثم يوسف يحكي حكايته مع العميد، إبان خدمته العسكرية، أو صوت المرحوم عبد الكريم درويش وهو يلعن شريكه في الطرنيب لأنه شق أس الكبة بدلا من البستون أو المرحوم إحسان عزو الذي قضى في المنفردة، إثر نوبة قلب داهمته بعد أن اعترض على مكبر للصوت كان يبث أغاني الفرح بذكرى ما. كان إحسان عزو يبحث عن العدالة. كان يؤلمه أن يرى الأشياء في غير مكانها، فيسرع إلى إعادتها إلى نصابها الصحيح. وهو إن لم يستطع انقلب إلى داخله وراح يأكل جزءا من قلبه المملوء بالحب والأمل والطموح. حين راح المكبر يبث أغاني القوة لمن لا قوة لهم، اندفع إحسان كعاصفة نحو الباب وراح يقرعه قبل أن نستطيع إيقافه. جاء الرقيب: شبك ولا؟ وطلب إحسان بجدية أن يغلق الرقيب مكبر الصوت. كان ذلك آخر عهدنا بإحسان. سحب من المهجع إلى المنفردة، ومن الزنزانة إلى المشفى ومن المشفى إلى منزل أبيه وأمه. كانا – أبوه وأمه – ينتظران عودته، ينتظران أن يطل من الباب، مديدا، وسيما، ضاحكا كعادته حين يعود إلى بلدته. على أنه آثر هذه المرة أن يعود في صندوق. بعد ذلك بسنوات طويلة سمعت محمود درويش يطلب إلينا ألا نصدق زغاريد أمهات الشهداء، وأن نصدق دمعات آبائهم. يومها تذكرت إحسان، تذكرت سمرة وجهه وطول قامته وابتسامته الدائمة على خده. وتذكرت أيضا سعة صدره واحتماله للآخر، ما دام الآخر يحتمل وجوده. وإذن، هل فكرت وقتها أن من الظلم أن أخرج أنا ويبقون؟ في ذاكرتي الآن عتمة داكنة تلف تلك اللحظة. من عانقت منهم؟ ومن أهملت؟ لمن أعطيت كتبي وقواميسي وكأسي وخزانة كتبي المصنوعة من عجين لب الخبز والسكر؟ لست أدري. كان علي أن أنجز الجزء الباقي من المهمة الآن. أن أصل إلى الرصيف الآخر. من العبث أن أقف في الجزيرة المنصفة أرمق السيارات العابرات بحيرة وقلق. وعزمت على المغامرة بغض النظر عن النتائج. وضعت رجلي ثانية على القارعة. وحين رأيت الوضع مناسبا انطلقت بسرعة إلى الجانب الآخر. زعق بوق سيارة، ولكنني كنت قد وصلت إلى شاطئ الأمان. سأوقف الآن سيارة تاكسي وأنطلق إلى حيث الحرية. وقفت سيارة الأجرة. ركبت. قلت للسائق إلى مشروع دمر. تعرفه، سألت. نظر صوبي ولم يجب. انطلقت السيارة كأنها تقفز في الهواء. هي السيارة التي تأخذني إلى الحرية. آخر سيارة ركبتها كانت قبل عشر سنوات، وكانت تأخذني إلى العالم السفلي. من وليد ل؟ كان ذلك الاسم الذي كنت أستخدمه في البطاقة المزورة. كان الرجل يقف وراء الكنتوار في الأمن العام على الحدود السورية-اللبنانية، يحمل بطاقتي بيده ويتأمل الوجه. خفق قلبي بعنف، واستشعرت كآبة لسماعي رنة الصوت. لم يكن سؤالا بريئا. والبطاقة كانت رديئة التزوير. جهزها لي منيف وكانت الوحيدة السيئة بين عشرات البطاقات التي زورها بنجاح. كان كأنما يرسلني إلى السجن عمدا. ولم أدر أبدا أكان ذلك لأننا على علاقة برفيقة واحدة: تأتيه يوما وتأتيني في اليوم التالي؟ أنا، قلت بصوت لا يشبه صوتي. شرف لهون. قال الرجل الضخم الجثة. ولم يكن ثمة مجال للمناورة أو الهرب أو التراجع. دخلت إلى داخل الكنتوار، ثم إلى غرفة مكتب مقفلة. نظر إلي رجل يشبه المساعدين الذين عرفتهم بعد ذلك في السجن. راح الرجل ينظر إلى سحنتي ويتأمل الصورة في الهوية. أخيرا سألني إن كنت أحمل جوازا أو رخصة سوق. لم أكن أحمل واحدة، بالطبع. فقال لي: يا حمار، بدك تزور زور منيح. ثم سألني إن كان معي أحد بالسيارة. أجبت بالنفي، رغم أن منيف وحنان كانا في السيارة. أعطى أوامره إلى العملاق الذي أدخلني الغرفة: "دعه ينزل حقيبته وعد به إلى هنا." ثم أضاف: "إذا تحرك رشه." خرج. أنزلت حقيبتي على مرأى من منيف و حنان، ثم عدت. بعد نصف ساعة، دخل أربعة رجال الغرفة. نظر إلي من بدا زعيمهم وسأل: هذا هو؟ هز العملاق برأسه، فاقتادني الأربعة إلى السيارة. وبدأت رحلة امتد عشرة أعوام، وانتهت منذ ربع ساعة. "أين في المشروع؟" سأل السائق. "الجزيرة الثالثة." قلت كنت أتنفس الأشياء من حولي كالهواء. وكانت أشجار الزنزلخت على ضفتي طريق الربوة تدلي أغصانها مني كأنها تحمد الله على سلامتي. وسألني الرجل: "غريب." "لماذا." "خطر ببالي." قلت: "كنت خارج البلد." "أين؟ في إسبانية؟" لا أدري لم اختار إسبانيا، ولكنني أجبت بالإيجاب: "كيف عرفت؟" "لا أعرف. خمنت." ضحكت. ومنذ ذاك اليوم أطلق على السجن اسم إسبانيا، تحببا. أمضينا ربع ساعة نسأل عن منزل هاني الراهب حتى اهتديت إليه أخيرا. فتحت ميسون الباب. كان ذلك أول امتحان حقيقي لي بالحياة العادية. كان بي فزع شديد ألا تعرفني، وفزع آخر أن تعرفني ولا يعني لها ذلك شيئا. وقفت بالباب ثواني، جميلة كما كانت دائما. احتاجت إلى ثوان قبل أن تميز الرجل الضئيل الواقف أمامها. ثم تغيرت ملامح وجهها من السؤال إلى الوجوم، إلى الدهشة، إلى الابتسامة فالضحكة المطربة الفتانة. "وائل؟؟؟؟" وامتدت يداها إلى ذراعي، فأزمتهما بقوة، ألا أفلت منهما، ثم قبلتني ثلاثا. وعادت تتأملني، وتقول: "أدخل. أدخل." دخلت. في غرفة الجلوس كان ثمة صبية فاتنة في الرابعة عشرة أو تزيد قليلا. "ما عرفتها. هذه يافا." يافا. بلحظة واحدة، أدركت هول الأمر. أدركت ماذا تعني عشر سنوات تذهب من حياة الفتى. كانت يافا طفلة جميلة، طالما حملتها على كتفي وأحضرت لها الحلوى والشوكولاته. الآن هي صبية يافعة، تضج أنوثة وفتنة وسحرا. "ما بك؟" قالت ميسون ولم تنتظر جوابا. قالت: "هاني نائم. في الأوقات العادية، يعتبر إيقاظه كفرا. ولكن الآن الأمر مختلف." ودخلت غرفة النوم توقظه. تأملت البيت الجميل المرتب والنظيف كعادة ميسون دائما. ثم رحت أرنو إلى الوجه الجميل الماثل أمامي. من ذلك الوجه، جاءتني الصفعة الثانية: "عمو. صحيح كنت عشر سنوات في السجن؟" عمو؟ قال لي فراس في إحدى الزيارات: "عندما تخرج، يجب أن تكون حذرا من كل شيء. أنت دخلت في السبعينات وستخرج في التسعينات. كان ذلك صحيحا بالمطلق. وصحيح أيضا أنني دخلت في أواسط العشرينات وخرجت في أواسط الثلاثينات وراحت الصبايا ينادينني عمو. دخل هاني. النوم في عينيه وشعره غير مسرح بالمشط. وصاح: "العمى, ش
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...