في سبعينات القرن الفائت برزت ظاهرة سياسية في سوريا سرعان ما تصدّرت المشهد السياسي، هي ظاهرة حزب العمل الشيوعي. في صيف العام 1976، اجتمع أربعة وعشرون مندوباً عن الحلقات الماركسية، يمثّلون ستة وتسعين شابة وشاباً، في قبو معتم بمدينة حلب، لم يتجاوز معظمهم الثلاثين من العمر. وناقشوا على امتداد ثلاثة أيام ضرورة ولادة تنظيم سياسي جديد يكون رافدا للحركة الوطنية اللبنانية وداعما لها ويعبّر عن صوت السوريين الرافض لموقف حكومتهم.
واستقرّ الرأي على تسمية التنظيم الجديد “رابطة العمل الشيوعي”، وما إن أصدر التنظيم الوليد أول بيان سياسي له ثمّ أول عدد من جريدته “الراية الحمراء”، حتى سطع اسمه في ساحات العمل السياسي ولم يَخْبُ قطّ على مدى سنوات.
كانت تطورات الحرب اللبنانية والتدخل السوري من جانب وانهيار حوار بدأ بين الحلقات الماركسية والحزب الشيوعي–المكتب السياسي السببين الرئيسيين وراء إشهار التنظيم. أما لماذا رابطة وليس حزباً، فلأن رابطة العمل لم تعتبر نفسها حزبا بديلا عن القوى الشيوعية القائمة، وكان هدفها الرئيس توحيد القوى الشيوعية السورية جميعها في حزب شيوعي واحد. وكان مؤسسو الرابطة يراهنون على الحزب الشيوعي – المكتب السياسي والرابطة نفسها وقواعد الحزب الشيوعي البكداشي التي لا توافق على الخط المنحرف لزعيمها.
كانت رابطة العمل تمثيلاً لظاهرة نشأت في السبعينيات هي ظاهرة اليسار الجديد. إثر هزيمة حزيران 1967، حدث انقلابان كبيران في الحركة السياسية السورية والعربية عموما، انزاح فيهما جزء كبير من التيار القومي العربي نحو الماركسية، وانزاح مقابله جزء من التيار الماركسي نحو الفكر القومي. حركة القوميين العرب بمعظمها تبنت الماركسية، ووُجِدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، ووُلِد حزب العمل الاشتراكي العربي، كذراع سياسية للجبهة الشعبية في لبنان والأردن، وظهرت منظمة العمل الشيوعي في لبنان، التي قادها محسن إبراهيم وفواز طرابلسي، وتحوّل تيار صلاح جديد في سوريا تدريجا إلى الفكر الماركسي-اللينيني تدريجيا، حتى تبناه نهائيا في منتصف السبعينات. جوهر هذا الانزياح كان اكتشاف التيار القومي العربي أن “العدو القومي الرئيس لحركة التحرر العربية يتمثَّل بالإمبريالية العالمية بقيادة أميركا، والتي تستعمل إسرائيل والحركة الصهيونية” كأداة لها وأن كافة الأنظمة العربية، سواء منها الأنظمة “الرجعية” أو الأنظمة “الوطنية التي تحكمها البورجوازية الصغيرة” عاجزة عن مواجهة هذا العدو.
بالمقابل، كان تيار في الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي وتيار في الحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك يتخليان تدريجيا عن “الصَّلف الطبقي” ويريان في المسألة القومية وجاهة لا بدّ من مقاربتها. هزيمة حزيران وتزاوج التيارين القومي والماركسي، وصعود المقاومة الفلسطينية وإشهار حافظ الأسد وجهه الدكتاتوري كل ذلك خلط أوراق اليسار السوري التقليدي، وجعل نصفه يقبع في حضن النظام في سوريا وبعضه الآخر يقبع في سجونه.
وكان لا بدّ من هزّة حقيقية تخلخل الحزب الشيوعي التاريخي الذي كان يتباهى بشعاره الفارغ “أربعون عاما نزداد شبابا”، فانقسم الحزب إلى حزبين، ثمّ إلى ستة، وولدت رابطة العمل الشيوعي إلى جانب عدد من الفصائل الماركسية العديدة التي وجدت معها، وبينها اتحاد الشغيلة والفصيل الشيوعي ومجموعة النهوض وغيرها.
كان ردّ فعل النظام عنيفا غاية العنف وسريعا جدا. ففي آذار 1977، شنّ حملته الأولى على التنظيم الوليد، أردفها بحملات عديدة ومتكررة، بمعدل حملتين في كل سنة، ثمّ حين جاء الخطر الأكبر من جهة الإخوان المسلمين، حاول النظام مهادنة التنظيم، فأطلق سراح معظم رفاقه، واستغل التنظيم الهدنة لعقد مؤتمر وتغيير اسمه إلى حزب العمل الشيوعي.
لم يهمل النظام الحزب الوليد، فاعتقل قادته أثناء عودتهم من قرية شحيم في لبنان، حيث استضافهم النائب اللبناني زاهر الخطيب ثمّ غدر بهم. وتوالت حملات الاعتقال حتى استطاع النظام إسكات الحزب نهائيا تقريبا في 1992، باعتقال آخر قادته: عبد العزيز الخير.
مرّت سنوات التسعينات في معظمها والحزب في حالة سبات كامل، إذ إن معظم أعضائه وقياداته كانوا في السجن، حيث تنقّلوا بين فروع التحقيق وسجن تدمر سيئ الصيت، ثم سجن صيدنايا. وفي السجن، كان التحولات تجري بشكل عريض وعميق بين أعضاء التنظيم.
بدأت الخلافات السياسية داخل السجن تتبلور منذ خريف 1982، ولكنها لم تولد في السجن، بل جاءت امتدادا لخلافات وقعت قبل المعتقل. في الأشهر ما قبل انعقاد المؤتمر الأول الذي غيّرت فيه رابطة العمل اسمها إلى حزب العمل في 1-6 آب / أغسطس 1981، كان بعض الأعضاء يعارضون هذا التوجّه لأنه كان يتعدّى الاسم إلى جوهر عمل الرابطة ومبرر وجودها أساساً. ثمّ جاء غزو صدام حسين للكويت، فعمّق الانقسام، وبدأ قسم من أعضاء التنظيم يغادرون مواقع الشيوعية باتجاه الليبرالية السياسية.
منذ مطلع التسعينات، بدأ النظام يفرج عن رفاق حزب العمل، وبدأت موجات من الرفاق تغادر السجن موجات إثر موجات، ولكن الجميع آثر التروي في العمل السياسي، حتى مات الدكتاتور، وفق تعبير رياض الترك، وبدأت ظاهرة ربيع دمشق، فحاول بعض أعضاء التنظيم إعادة الحزب إلى الحياة بعد سبات، وكان أعضاء حزب العمل موجودين في كل المنتديات وحاضرين في كلّ النقاشات، ولكنهم لم يكونوا تيارا واحدا ولا فكرا واحدا ولا رؤية سياسية واحدة. وسوف نلحظ منذ مطلع الألفية عددا من الاتجاهات السياسية التي سوف تتطور حتى تُفاجئها الثورة السورية في آذار 2011.
واليوم نجد حزب العمل موجودا في كلّ أطراف المعارضة السورية. فالتيار الذي حافظ على اسم الحزب والذي قاده عبد العزيز الخير بعد إطلاق سراحه في عام 2005، يشكّل مكوّنا أساسيا من مكونات هيئة التنسيق الوطني، العمود الفقري للمعارضة الداخلية. ورغم قلّة عددهم، يمكن ملاحظة تأثيرهم في داخل الهيئة الذي جعل ممثلهم، صفوان عكاش، أمين سرّ هيئة التفاوض السورية. وعلى يمين الحزب، انتهج تيار صغير من بقايا الحزب يقوده فاتح جاموس موقفا أكثر مهادنة للنظام وأكثر عداء للثورة السورية، من خلال تشكيل تنظيم أطلق عليه اسم “تيار طريق التغيير السلمي”. ويتعرض هذا التيار لانتقادات كبيرة باعتباره تنازلَ عن “تاريخه المعارض القديم” وارتمى في أحضان النظام في سوريا لأسباب قد يكون لها طابع طائفي.
بالمقابل، يشكل عدد من أعضاء الحزب الذين انتقلوا إلى مواقع الليبرالية السياسية تيارا اسمه “تيار مواطنة”، وهو جزء في إعلان دمشق ومكون من مكونات الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة، أكبر تكتلات معارضة الخارج.
وشكل بعض الأعضاء السابقين لحزب العمل مجموعة سياسية مدنية أسمها “نواة سوريا”، وهي مجموعة سياسية تعمل على تحقيق دولة المواطنة والقانون وتؤكّد على أهمية العلمانية كركيزة أساسية لسوريا المستقبل. وهي تعمل على تغيير واقع المجتمع السوري على كافة الصعد سعيا لإنهاء حقبة الاستبداد وإقامة دولة القانون وضمان الحريات السياسية لكل السوريين.
وفي اللاذقية شكلت مجموعة صغيرة من بقايا حزب العمل لجنة إعلان دمشق في اللاذقية التي تبنت الليبرالية السياسية تبنياً كاملاً، وساندت الثورة السورية رغم كون أعضائها جميعا داخل سوريا.
وخارج هذه الجماعات الخمس التي انقسم إليها حزب العمل الشيوعي، ثمّة داخل سوريا وخارجها أفراد يكتبون وينشطون ويشاركون في تأسيس جمعيات مدنية هنا وهناك لتخفيف العبء ما أمكن عن كاهل السوريين في الداخل وفي دول اللجوء.
حزب العمل الشيوعي في مآلاته دليل على أن الحراك السياسي لا يزال ممكنا في سوريا، وليس صحيحا أن المعارضة مجبرة على أن تتبنى أجندة قوة دولية أو إقليمية وعلى أن تكيّف رؤاها وبرامجها وفق رؤى تلك القوة ومصالحها.