محمود درويش.. هِبة الحياة
إبراهيم صموئيل
2018-08-25
أعتقد أنه ما من شاعرٍ معاصر اُحتُفي به، وهو في الغياب، على غرار ما يُحتفى في عالمنا العربي بـ محمود درويش. فهو حاضر في ذاكرة صاحبات الجلالة قارئاته، وأصحاب الجلالة قرائه، على الدوام.
وإسباغ لقب الجلالة على القارئات والقراء جاء على لسان شاعرنا نفسه، في إحدى أمسياته الشعريّة، مما يشير إلى شدة ورفعة اهتمامه بقرائه، كشدة ورفعة اهتمام قرائه بشعره وأدبه.
حضور درويش لا ينحصر في ذاكرة القرَّاء، بل يشعّ من وجدانهم، ويُعاود تجسُّده في حياتنا الثقافيّة، كأنّه لم يرحل قطّ. هذي إحدى السمات التي لشاعرنا الحيّ دومًا. عادة، يُملي الواجب والوفاء والشعور بالمسؤوليّة إزاء المبدع، الذي أعطى وأثرى الحياة الثقافيّة في أيّ بلد، أنْ يُعاود القيّمون على المؤسسات الثقافيّة -في كلّ عام- إحياء ذكراه، والحديث عن مُنجزه ودوره… إلخ، وهذا أمر طيّب ونبيل.
غير أن استعادة ذكرى محمود درويش واستحضار أشعاره لا تحتاج إلى مؤسسات ولا إلى قيّمين، لسبب رئيس وهو أنّه لا يغيب -أساسًا- عن وجدان القرَّاء وذاكرتهم، ولا تُفارق أشعارُه ألسنتهم، بل ولا ملامحُ وجهه المحفوظة في أبصارهم، حتى يكون من الضروري على الجهات الثقافيّة استعادة ذكراه والتذكير بشعره وأدبه وشخصه. وهذي سمة أخرى من سمات هذا المبدع الاستثنائي في حياتنا العربيّة.
عدا ذلك، يندر أن يُثير الاهتمامَ كتابٌ يضمُّ مقالات جُمعت من الصحف والمنابر لمبدع في جنس أدبيّ؛ إذ لا يُدرج في سياق رواياته أو دواوينه أو قصصه؛ في حين أن كتاب درويش “حيرة العائد” الذي ضمَّ مقالات عن كتَّاب وشعراء، وكلمات ألقاها لمناسبات عدّة، يُمتع قارئه -في اعتقادي- إذ في كلّ سطر من الكتاب سنكون مع حضور الإبداع، وسنبحر مع نصّ مشغول كقصيدة، ومع لغة خاصة تمتلك القدرة على انتشال القارئ من الرتابة وانعاش ذاكرته وذائقته، وذلك بسبب الآفاق الرحبة التي تفسحها المقالات، والتحليق الحرّ في الرؤى المبثوثة، والحرفيّة والابتكار في الكتابة، رغم أنها للمناسبات.
قامة درويش الشعريّة العالية، وجمهوره العريض الهائل من مختلف الأمزجة والأهواء والميول، وحشود أمسياته التي تملأ الملاعب الرياضيّة وتفيض عنها أحيانًا، وشهرته العالمية التي حاز عليها بجدارةِ وبلاغة وجدَّة شعره؛ ذلك كلّه لم يكن محمولًا قطُّ على جنسيته الفلسطينيّة وقضيّة شعبه، فلو كان ذلك كذلك، لاشتُهر العديد من الكتَّاب الفلسطينيين الآخرين.
هذا، وغيره الكثير والأهمّ مما ذكره الدارسون المتخصّصون في التنقيب عن كنوز مبدعنا، هو ما يمنح محمود درويش الفرادة والخصوصيّة، وقبل ذلك وبعده: الحضور الحيّ والدائم في حياتنا الثقافيّة والعامّة.
لم أكتب ما كتبتُ لحلول الذكرى العاشرة لرحيله الجسدي، إذ إن قامة رفيعة المنجز الإبداعي، كقامة درويش، هي المناسبة في ذاتها، شعرُه هو الذي يُذكّر -في كلّ آنٍ ومناسبة- بالشعر العظيم في العالم. وكذا لم أكتب لمؤدى أننا بتنا أيتامًا بعد رحيله -على حدّ التعبير الغالب المائع في المناسبات الثقافيّة- فالشعوب لا تتيتَّم طالما ظلَّت حيَّة، وشعلة صرح الإبداع لا ترفعها يدٌ واحدةٌ. ثمَّة أيادٍ عديدة من جيل درويش مثَّلتْ منارات حقيقيّة، وثمَّة أيادٍ من أجيال تالية تُبشّر بأنْ تكون.
غبطتي العارمة بهبة الحياة لنا: محمود درويش، تحثّني وتحفزني -على الدوام- لأن أكون في حضرة إبداعه. والغبطة عينها تدفعني -الآن- إلى أن أعاود قول ما كنتُ قد شاركتُ به في مُلحقٍ ثقافيّ لصحيفة عربيّة خُصص بكامله لشهادات ومقالات عن شاعرنا قبل رحيله الجسدي، بأنّ “أحد أسباب فخري العميق، هو ما حظَّني به القدرُ بأن أكون واحدًا من أبناء الشعب العربي الذي إليه ينتمي شاعرنا العظيم محمود درويش”.