من المعروف أنَّ الخطر الأكبر على الثقافة، في ظلّ الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة الحاكمة، يتأتى من الرقيب الداخلي في ذهن المثقّف -قبل الخارجي السلطوي- حيث يفعل فعله آليًّا، في لا شعور الكاتب والفنان، فيتجنَّب إنتاجُه ما يتجنَّب، ويُحاذر، ويتحفَّظ، ويُداري، ويحذف ويُضيف تلقائيًّا؛ من دون أيّ إحالة ظاهرة إلى ممنوعات السلطة المستبدة وعسفها إزاء العمل.
ولطالما حاذر الكتَّاب والفنَّانون السوريون المُعارضون للاستبداد الحاكم، من الدور الخبيث للرقيب في دواخلهم، فعملوا على تنحيته أو لجمه أو الالتفاف عليه، للإفساح في المجال أمام تقديم أفكارهم ورؤاهم بشتى السبل، وقد دفع العديدُ منهم الثمنَ جرّاء تعبيرهم عن رفضهم سلطة الطغيان.
والأمثلة كثيرة على العواقب المريرة التي لحقت بالمبدعين من سلطة الاستبداد، ممن عارضوا النظام وانتصروا لحريتهم في التعبير على وعيد الرقيبين الخارجي والداخلي، فدفعوا أثمانًا باهظة مُحاصرةً وتهميشًا وطردًا من العمل ومنعًا من السفر وتضييقًا، وصولًا إلى اعتقالهم وسجنهم لسنوات طوال.
وإذا كان ما ناب الفنان علي فرزات -بسبب جهره عَبْرَ رسومه برأيه ورأي الناس- من إرهابِ السلطة، باختطافه من الشارع وضربه وتهشيمه على طريقة العصابات وقُطَّاع الطرق، قد شغل وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في العالم وسفراء دول أجنبية وعربيّة؛ فإنّ العديد من المبدعين السوريين قد نالهم في السجون والمعتقلات -فضلًا عن مُدد اعتقالهم الطويلة- أشدّ وأعتى مما أصاب فرزات، ولكنْ -مع الأسى والأسف- بصمت مريع، وتعتيم قاهر، وتجاهلٍ مُتعمَّدٍ. وإذا كان ثمَّة من صدى وردود فعل، فتكاد لا تُذكر لقلَّتها وندرتها.
أوردتُ ما سبق في ظلّ ما يُصادفه المرء في كتبٍ وكتاباتٍ، وضعها غربيّون من بلدانٍ متعدّدة، عن الثقافة والمثقّفين في سورية، تضمَّنت تساؤلات مُتعجّبة عمَّا يحدو بالمثقفين السوريين المعارضين إلى عدم بثّ آرائهم وأفكارهم في فضح السلطة وتعريتها؟ وعمَّا يدفعهم إلى ممارسة “التّقيّة” والمُداراة وما شابه من أساليب التوائيَّة، بدلًا من النهوض ومواجهة الاستبداد والمستبدّين في بلادهم!؟
وحقيقةً، يلتبس الأمر في علَّة تساؤلٍ، أو تعجُّبٍ، كهذا؛ فيما إذا كان جهلًا بما أنجزه ويُنجزه الكتّاب والفنّانون في سورية (وعانوا بسببه ويعانون) أم عدم معرفةٍ بآليات القمع الأسديّة على مدار خمسين عامًا، أم تقويمًا ورأيًا نابعين من جغرافيّات الدارسين النائية، أم جرّاء نعيمِ ما ولِدوا في كنفه من نُظُمٍ سياسيّة وشبُّوا في ظلالها، بحيث لم يُجرّبوا -ولا هم ذاقوا- مرارة الاستبداد، فمالوا إلى تحميل الوزر للواقعين بين فَكّي المُستبِدّ، بدلًا من التركيز على وحشيّة هذا المستبِدّ وغريزة الافتراس لديه، وفضحها لدى القارئ الغربي؟
بالطبع، لا أُعمّم. ولكنْ، ما يُثير الاستغراب (الارتياب؟) أنه حتى لدى فئةٍ من الدارسين الغربيين المختلفين في نظرتهم والمتميّزين في معارفهم، لن نعدم وجود إشارات لومٍ صريحة للمثقّفين السوريين، مبنية على الظنّ بعدم مجاهرتهم بآرائهم، إضافة إلى اتّهامهم، المبطّن أو الصريح، بالتقاعس عن مواجهة السلطة وفضحها، ولوذهم بـ “التقيَّة” أسلوبًا في التعبير عن معارضتهم!
يحدث هذا، رغم الجهد المبذول لدى فئة الدارسين المُشار إليها، للتزوّد بالمعرفة والحقائق على الأرض من خلال زيارات أفرادها وإقامتهم في سورية، واطلاعهم على مظاهر الاستبداد، ولقائهم عددًا من الكتَّاب والمثقفين، وتعرّفهم على الكبيرة والصغيرة من واقع حال البلد.
ثمَّة ما هو غامض ومثير للتساؤل، لدى هذه الفئة من الدارسين الغربيين الذين عاينوا وعايشوا وتعرَّفوا وعرفوا عن كثب! ثمَّة حلقةٌ مفقودة، شيءٌ غريب في التكوين الذهني للدارس ربّما، خلفيَّةٌ تاريخيّة، حالٌ يتحيّر المرء في تحديدها وتعيينها وتسميتها!
هل يمكن للمرء أنْ ينكص، فيلجأ إلى تعليلات غابرة ترى أننا شرقٌ وغربٌ لا يلتقيان ولا يتفاهمان؟ أو الأمر لخلل في البصائر، أو مرض في البصر؟ أو لتهدّم جسور فهم الغير وتفهُّمه؟ إلى آخر الأسطوانة العتيدة التي وضعتنا رهائن مَحْبَسيْن على الأقلّ: استبداد الداخل بنا، وتعسّف الخارج في تبصّر أوضاعنا.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...