عن المقارنة بين “إسرائيل” والنظام السوري!
ميخائيل سعد
2018-09-01
كانت جامعة البعث في حمص، وبعض الجامعات السورية الأخرى، تضم إضافة إلى طلابها السوريين، بعضَ الطلاب الفلسطينيين القادمين من الضفة الغربية، للدراسة على حساب الجامعة: (مِنح)، وحدث أنني في أحد أيام عام 1986 كنتُ في “مكتب العبور” إلى رئيس الجامعة، الذي كانت تربطني به صداقة قديمة تعود إلى فترة الدراسة في دار المعلمين في حمص. وكان الحديث بين السوريين في السياسة، من المحرمات، إلا إذا تضمّن مدحًا للنظام، ولذلك يجب اختيار كل كلمة ينطق بها السوري، ويجب التفكير بمدلولاتها القريبة والبعيدة، لكيلا تكون سببًا في اعتقاله أو استدعائه لأحد فروع الأمن في المدينة. وكان رئيس المكتب رجلًا مضيافًا كريمًا وصاحب نكتة جميلة، يُحبّ الصداقات ويُقدّم الخدمات للناس بلا مقابل، وكان يبدو “بعثيًا” رخوًا، غير متشدد في بعثيته، بل كان أحيانًا ناقدًا ساخرًا لسلوك بعض البعثيين.
في ذلك اليوم، دخل إلى المكتب الذي كنتُ فيه طالبٌ فلسطيني قادم من مناطق الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، فاستقبله صديقي استقبالًا جميلًا، يدلّ على صداقة جيدة بين الرجلين، وجلس الشاب قربي، بعد أن عرّفنا صديقي إلى بعضنا، ووجه خطابه إلى رئيس المكتب يُعلمه أنه قرر وقف دراسته والعودة إلى الضفة الغربية. وعندما سأله الرجل مندهشًا عن سبب رغبته في “هجر الجنّة”! قال الطالب: “لم أعد قادرًا على العيش في سورية؛ فعلى باب الجامعة مفرزة للأمن، وفي داخل كل محاضرة أكثر من مخبر يكتب التقارير الكيدية بزملائه، وفي الشوارع حواجز أمنية، وفي كل مؤسسة مكتب أمن، وعندما يُحاول أحدنا مغازلة صبية، فيجب أن يكون قسمًا من غزله في مديح النظام، أو ينبت رجل أمن بين الاثنين. لقد قرفت من هذا الوضع، وقررت العودة إلى (إسرائيل)، صحيح أننا هناك تحت سلطة الاحتلال، ولكنّ هناك قوانين تنظم علاقة العسكري الإسرائيلي بالفلسطيني، وأستغرب فعلًا كيف يتحمل السوريون ثقل وطأة نظامهم، ربما لأنه لا بديل عندهم، ولكن أنا عندي بديل”.
كنا بحاجة إلى أكثر من ربع قرن، نحن -“الممتلئين بنعمة العروبة والبعث والقيادة الحكيمة”- حتى نصل إلى النتيجة التي وصل إليها الشاب الفلسطيني، صارخين “بدنا حرية”، وليس لأن “عهد التميمي” قد ذكّرتنا بالفرق بين التوحش الأسدي والإسرائيلي، وإنما لأن الذبح “العاري” للسوريين، على مدار سبع سنوات، قد جعل من بقي حيًا منا، يرى “الفرق الحضاري” بين القتل الإسرائيلي والقتل الأسدي، كما جعلَنا الصمتُ العالمي عن جرائم الأسد “الكيمياوية” نتذكرُ الصمتَ “الأممي” عن جرائم (إسرائيل) بحق الفلسطينيين!
نعم، أنا من الذين يرون الفروق بين السجون الإسرائيلية والسجون الأسدية، من دون أن ننسى أنها كلها سجون، فهناك من شتم جنديًا فدخل السجن، ولكنه خرج ليقول لنا كيف حصل على محاكمة، وكيف كان ينام ويأكل، في حين أننا هُنا، في “قلعة الصمود والمقاومة”، رأينا ماذا حلّ بالأخوَين اللذين قدّما الماء والورد للجنود الأسديين. إن الاعتراف بالفروق لا يعني أننا لم نعد نرى الفرق الإسرائيلي، وإنما يعني أننا نحاول رفع الغشاوة عن عيوننا، كي نرى أن عدونا قد يكون بيننا، وليس فقط وراء الحدود.
بعد اندحار الجيش الأسدي من لبنان، كنتُ أتكلم في كل مناسبة عن سقوط مفهوم “الممانعة والمقاومة”، بعد أن قدّم حسن نصر الله “بندقية المقاومة” إلى رستم غزالة (أحد قتلة بيت الأسد في لبنان، ولاحقًا في سورية). كان “محلي” يرتاده أصدقاء أكثر من الزبائن، وفي أحد الأيام دخل شاب أربعيني أنيق جميل الملامح، تجوّل قليلًا بين الكمبيوترات المستعملة التي أتاجر بها، ثم توقف عند مكتبي، وكان يتحلّق حولي مجموعة من الأصدقاء، وسألني بصوت قوي وواثق، بلهجة لبنانية: “أيهما تفضل: الوجود الإسرائيلي أم السوري في لبنان؟”؛ قلتُ له دون تردد: الوجود الإسرائيلي. فالتفتَ بغضب صوب الباب، قائلًا: “لقد حصلتُ على ما أريد”. قلتُ له: هذه نصف إجابتي، ألا تريد أن تعرف النصف الآخر؛ فتوقف واستدار نحونا، مع ابتسامة المنتصر الساخرة من أعدائه، وقال: “تفضّل!”. قلتُ له: إن الوجود الإسرائيلي في لبنان قد “خلق مقاومة”، بينما الوجود السوري فيه قد خلق “عملاء وقتلة” في خدمته فقط، فهل حضرتك مع المقاومة أو مع العملاء؟! فغادر دون أن يرد…
هذا قبل سنوات من تصريحات الوزير اللبناني بيار رفول بأن “سجون سورية أفضل من سجون السويد وسويسرا، من ناحية الترفيه وحقوق المساجين”، وقبل الكشف عن تحويل الوزير ميشال سماحة إلى قاتل وإرهابي لصالح الأسد.
السؤال الآن: هل نحن مع الحرية أم مع السجون التي تقتل طلاب الحرية؟