حين صرت مسيحيا لستّة أشهر
وائل السواح
خاص ألف
2018-09-01
أقام أحمد جمّول عندي بضعة أيام. حين شنّ النظام حملته على الرابطة، كان أحمد الوحيد من لجنة العمل الموجود في دمشق. الأربعة الآخرون كانوا في مهمّة في بيروت. وأحمد، المثقّف الفوضوي الذي يعرف ماركس وكونت ولوكاكش وغارودي وألتوسير جيدا جدا، لم يكن يعرف في شؤون التنظيم الكثير، ولم يكن يعنى بذلك. ولعّ جهله بقضايا التنظيم والعلاقات الخليوية والخيطية ساهم في إزكاء حملة الاعتقالات، فهو لم يخبر الرفاق بالحملة في الوقت المناسب لكي يتواروا عن الأنظار. وسيشكّل ذلك له في الأيام التالية إشكالا مع أعضاء لجنة العمل حين يعودون من بيروت. أبو حسين (عبّاس عبّاس) وأبو علي (فاتح جاموس)، ومعهم عضو شاب في الهيئة المركزية هو نهاد نحّاس، سيتولّون لملمة الخيوط بد تشتتها ورأب الصدوع وتضميد الجروح.
نام أحمد على الكنبة، ولم يكن ثمّة مشكلة، فأمّ الياس كانت سيّدة طيّبة، لم تمانع في استقبالي لصديق، كما لم تمانع في استقبالي شقيقتي التي كانت تسكن في المدينة الجامعية. لم تكن أختي تماما. كانت صديقتي، ولكن أم الياس لم تكن توافق على دخول فتيات غريبات إلى غرفتي.
كنت قد نقلت إلى الغرفة منذ أيام فقط، بعد أن طردني في مساء أحد الأيام من شهر شباط/فبراير 1977 مناضل شيوعي بكداشي عنيد من غرفة كنت أستأجرها في بيته رغم أنني لم أقصّر يوما بدفع أجرتها. كان المناضل قاصّا متواضعا، جعل منه الحزب الشيوعي البكداشي علما من أعلام الأدب السوري، تماما كما توّج شاعرا آخر، أيمن أبو شعر، كأهمّ شاعر في سوريا. يتمتّع أبو شعر بالقدرة على التمثيل والخطابة والإلقاء الجميل، ولكن ينقصه الشعر. أما رفيقي الشيوعي فكانت تنقصه الموهبة والحضور معا. ولكنّه كان يمتلك كلّ ما يؤهله ليحتلّ بعد سنوات منصبا مهمّا في وزارة الثقافة، المدير العام للهيئة العامة السورية للكتاب. وحين كرّمته وزارة الثقافة في حكومة النظام قبل سنة، أهدى التكريم إلى "أرواح الشهداء من جنود الجيش العربي السوري الذين ضحوا بدمائهم وأرواحهم من أجل أن تواصل بلدهم رسالتها الحضارية ومن أجل أن ينعم أطفالها بحياة كريمة وأن يستمر أدباؤها وفنانوها في رسم لوحاتهم وعزف أنغامهم وتحقيق مسرحياتهم وأفلامهم وكتابة نصوصهم."
ألقى بي رفيقي القديم على قارعة الطريق: حرفيا. جئت ذات يوم إلى البيت، فوجدت كتبي وملابسي وأوراقي على درج البناية، وقد غيّر قفل البيت. تركت كلّ شيء ومضيت على مقهاي المفضّل، الإيتوال. هنالك وجدت صديقي العتيق عدنان جرجوس (ما عدت أعرف عن أخباره شيئا)، وكالعادة جاء لنصرتي.
"ما بك:" سألني عدنان.
"طردني صديقي م. من غرفتي." قلت له.
"كيف؟سألني، فشرحت له.
تأملني للحظة، وقال لي: "أعرف عائلة تؤجر غرفة في بيتها، بشرطين اثنين: دفع الإيجار مقدما وأن تكون مسيحيا."
كان لعدنان القدرة على إخراج الحلول من تحت أظافره، وبدون كبير جهد. قلت بدون تردد: سأدفع الإيجار وسأصبح مسيحيا. ذهبت برفقته إلى بيت العائلة في الزبلطاني، وقدمني الصديق إليهم: صديقي وائل طالب جامعي وكاتب قصة من حي الحميدية بحمص. حي الحميدية كان الحيّ المسيحي الرئيسي في حمص. صاحبة البيت أم الياس كانت أرملة في نحو السبعين من العمر، تعيش في البيت مع ابنتها العزباء. ابنها البكر كان يعمل في منطقة نائية، مدينة الطبقة، مهندسا أو مساعد مهندس.
"أين بيتكم في الحميدية؟"
"وادي السايح؟"
كنت أعرف المنطقة جيدا فقد كانت هي منطقتي الحزبية في الحزب الشيوعي (البكداشي) وفيها كان أعزّ أصدقائي في المرحلة الثانوية، ماهر باخص، وفيها أيضا انتخبت عضوا في اللجنة الفرعية للحزب، لأنني المسلم الوحيد في المنظمة. ابتسمت أم الياس. لم أعرف لماذا، ولكنني في اليوم التالي نقلت ثيابي وكتبي. علقت ثيابي القليلة ورتبت كتبي وحرصت أن أضع الكتاب المقدس فوق باقي الكتب لتراه أم الياس وابنتها، ثم علقت على الحائط أيقونة صغيرة استعرتها من صديقي عدنان جرجوس، بجوار صورتين كبيرتين لغيفارا وكارل ماركس، ورتبّت أشرطة فيروز والشيخ إمام وكلايدرمان، بجوار جهاز الكاسيت الصغير المتهالك القديم. السيدة وابنتها كانتا شديدتي اللطف، وغالبا ما دعتاني إلى غداء أو عشاء شهي وقدمتا لي الشاي كل يوم. وفي مرات كثيرة كانتا تستضيفان سيدات أخريات من الحارة، فتصل ثرثرتهم إلى أذنيّ، وهنّ يتحدثن عن أزواجهن وأبنائهن والطبخ والمسلسل الأسبوعي. مساء أحد الأيام، سمعت نقرا على باب غرفتي. فتحت. كانت ابنة صاحبة البيت.
"مرحبا.. ماما تقول لو أنك تقرأ لنا بعض آيات الكتاب المقدّس لجاراتنا."
تخيّلت كلّ شيء، إلا تلك اللحظة. ماذا أختار؟ كيف أتلو الآيات؟ أترتيلا كما نتلو القرآن، أما تعبيريا كما أقرأ قصصي في الأمسيات الأدبية؟ حملتُ الكتاب المقدّس وخرجت إلى الصالة. قرأت لهم من إنجيل يوحنا، لأنني كنت أحبه أكثر. " قال لهم يسوع: املأوا الأجران ماء. فملأوها إلى فوق. ثم قال لهم: استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكإ. فقدموا. فلمّا ذاق رئيس المتكإ الماء المتحول خمرا، ولم يكن يعلم من أين هي، لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا، دعا رئيس المتكإ العريس، وقال له: كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولا، ومتى سكروا فحينئذ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن." وكنت أشعر بالعرق يتصبّب من جبيني، وكانت الجارات يستمعن، وشبح ابتسامة على شفاههن، فيزداد ارتباكي ولا أفهم.
لم يكن لدي مشكلة مع الله. في مراهقتي ألحدت، ثمّ نسيت ذلك. كانت علاقة أبناء جيلي مع الله غريبة ومتناقضة. بعضنا يضع الإلحاد أولوية له، يدافع عنه وينظّر له. بعضنا الآخر كان يضع ذلك كلّه وراء ظهره، ويضع قبله عشرات القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية والمعيشية. ومع ذلك، بقي الله رفيقا دائما لنا. بالنسبة لي، كنت دائما أفضّل إله جدتي.
كانت جدتي لأمّي (أم يوسف) تبكي إذا ذكرت الله، ولكنها لم تكن تصلّي دائما، ولم أرها يوما تصوم. كانت تقول لي إن الله ليس بحاجة إلى أن نجوع ونركع، فهو أسمى من ذلك بكثير. تلوت مرّة وكنت تلميذا في الصف الرابع سورة الضحى، فانخرطت في بكاء مرير. وكانت ترتدي ما تلبسه نساء سوريا في مطلع القرن الفائت، فتغطي وجهها بمنديل إذا خرجت إلى الشارع، ولكنها حين يأتي أبناؤها بأصدقائهم، تقبلهم كما تقبل أبناءها، وهي مدركة أن الله يستطيع أن يميز بين قبلة وقبلة. وكان والدي حجّة في الفقه الحنفي في حمص، بينما كانت زوجته (أمي) وابنته (أختي) تمشيان سافرتين، رافعتي الرأس في شوارعها. وكان الرجال يشربون الخمر باعتدال، ثم إذا جاء رمضان، عملوا "تكريزة رمضان،" فشربوا تلك الليلة ما حلا لهم، ثم اغتسلوا وصاموا رمضان من دون كحول، وعادوا إلى الخمر بُعيد رمضان بأيام. وكانت أجمل خمارات المدينة الجميلة التي ولدت فيها، حمص، تقابل جامعا قديما، وما كان ذلك يسبب أية شكوى، حتى قام إسلاميو التكفير بالطلب إلى السلطات فأغلقوا الخمارة. وفي هذا التقابل قال شاعر حمص الكبير عبد القادر الحصني:
وحمصُ الهزيعُ الأخيرُ من اللّيلِ
بعد انغلاق الحواني على الخمرِ
قبل انشقاق الأذان عن الفجرِ
تخبرني أنَّ همّي يزيدُ
وتنقصُ واحدةً أضلعي
بتلك الروح، لم يكن لدي مانع في أن أكون مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا، ليس فقط لأستأجر الغرفة عند أم الياس، ولكن، لأن تلك الروح كانت جزءا من طبيعتي، من حياتي، ومن إنسانيتي.
جاءت فادية لزيارتي بعد أيام، رأت أحمد. لم أكن رايتها منذ بداية الحملة، ولم تكن فادية قد غدت رفيقة بعد، وهي أدركت أن شيئا لا بدّ أن يكون وقع، ولكنها لم تسأل. وأحمد الفوضوي تنظيميا، لكن الحريص أمنيا، حزم حقيبته الصغيرة، وترك البيت. وبعد أسابيع حزمت أمتعتي وكتبي وايقونة صديقي عدنان وصورتي غيفارا وماركس ومضيت أنا أيضا. ولكن ليس لأسباب أمنية.
في يوم جاء ابن السيدة صاحبة البيت وكان يعمل في الطبقة مهندسا للنفط. وكان في البداية لطيفا كأمه وشقيقته. تعشينا سوية، وحدثته عن بيتي المتخيّل في الحميدية بحمص وكنيسة أم الزنار القريبة منه، ثم دخلت غرفتي. في اليوم التالي خرجت كالعادة إلى الجامعة. ويبدو أنه دخل غرفتي في غيابي، ورأى الصور والكتب وأشرطة الشيخ إمام. عند عودتي مساء، جاءتني السيدة صاحبة البيت، وقال لي وهي تحاول مغالبة عصبيّتها: "شوف يا ابني: الله يرضى عليك. مسلم ومشيناها، قلنا آدمي، بس شيوعي كمان؟ هاي كتيرة كتير. معك لآخر الشهر لتسلم الغرفة."
جارتنا أم وليد المسلمة سمعت بالقصة، فصعدت إلى شقة أم الياس ودخلت كالعاصفة، وقالت لي بصوت آمر." "ضب غراضك"! لم أناقشها. انتظرتني حتى حزمت الكتب والملابس الصور واشرطة الشيخ إمام، وساعدتني في حمل أشيائي إلى شقتها في الطابق الأسفل، وبقيت هناك أقل من سنة. إسلام أم وليد كان كإسلام جدتي، فهي – في الستين – ترتدي في البيت ثوبا بدون أكمام وتضع مكياجا رخيصا، تدخن بشراهة ولا تصّلي إلا في رمضان. في الحارة، ثمّة من همس بأذني أنها كانت تعمل مومسا، وأن زوجها أحبّها وتزوّجها، فتركت الكار، والتزمت في البيت. سواء أكانت مومسا أم لا، بالنسبة لي كانت منقذتي التي آوتني وأطعمتني وجبة ساخنة كلّ يوم، وسقتني كاسا من الشاي الصباحي، قبل أن أخرج على الجامعة، أو إلى العمل، فيما بعد.
العمل؟ نعم. كانت السنة الدراسية تقترب من نهايتها، ما يعني أنني سأعود في الصيف إلى حمص، توفيرا للنفقات. كانت فكرة أن أترك دمشق، والرفاق، وفادية، وأميرة، ومظفر، وعلي الجندي، وممدوح عدوان مريعة. كنت قد بدأت أكتسب بعض الشهرة ككاتب وصحفي. نشرت قصصي في الثورة والبعث والموقف الأدبي جريدة اتحاد الطلبة، ونشرت مقالات نقدية عن هاني الراهب وحسيب كيالي وعبد الله عبد وصلاح دهني. حدثان سيلازمان ذاكرتي طويلا جاءا نتاجا لمقالين كتبتهما في جريدة البعث. الأول كان مقالة طويلة عن قصّة للروائي النادر هاني الراهب، والثاني عن مجموعة قصصية للأطفال للأديب الجميل الساخر حسيب كيالي. مقالتي عن هاني كانت سببا في صداقة طويلة بيني وبينه. وسمّاني، مداعبا، أحسن ناقد في سوريا. مقالتي عن حسيب كيالي، على أية حال ولّدت عليّ نقمته. فكتب في زاويته الأسبوعية مقالا مزلزلا. أتذكر حتى اللحظة عبارته الافتتاحية: "جلس الولد الصغير يفكر: ماذا سأكتب اليوم؟ ماذا ستكتب اليوم يا عين عمّك؟" ثمّ بدون أي شفقة مسح بي الأرض، دون أن يرفّ له جفن. الغريب أنني أحسست بالغبطة وليس بالاستياء، فأن يتنازل عملاق كحسيب كيالي للرد على ناقد في الواحدة والعشرين كان يعني أن ما أكتبه لا تنقصه الحرفة وفيه شيء من الأهمية. قصصت مقالة كيالي، واريتها بفخر لأخي سحبان واصدقائي، ورفاق التنظيم.
بعد سنتين أو ثلاثا، كنت في مكتب سحبان، في مجلّة الحياة المسرحية. دخل رجل مهيب بنظارتين سوداوين سميكتين، وشيب جميل على جانبي شعره. سلّم على سحبان ومازحه بصخب، ثم طلب قهوة من الحاجب، وجلس. بعد هنيهة التفت إلي.
"مرحبا". قال
"أهلا أستاذ." أجبتُ
والتفت الرجل إلى سحبان، وسأله: "ما رح تعرفنا؟"
وسحبان الذي بوغت برهة لذيذة، لم يكن يتوقع أننا لم نلتقِ من قبل.
"هذا اخي وائل." وللتوكيد، أضاف بلؤم: "وائل السوّاح."
ثمّ إليّ: الأستاذ حسيب كيالي."
تمنيت لحظتها لو أن فوهة كبيرة في الأرض تتلقفني وتأخذني بعيدا عن الحياة المسرحية وأخي سحبان وحسيب كيّالي، ولكنّ الرجل المبتسم الجميل، هتف بي: "أهذا أنت"؟ ثّم أغرب في ضحكة مديدة، قبل أن يقول: "تعال هنا"، وأخذني بين ذراعين قويتين في عناق مديد.