كان موعد إقلاع طائرتي من إسطنبول، في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر -والتاريخ هنا ليس مهمًا- وموعد وصولي إلى مونتريال، في الساعة الخامسة والنصف من بعد ظهر اليوم نفسه، أي بعد ثلاث ساعات، حسب التوقيتين المحليين في إسطنبول ومونتريال، ومعنى هذه “الحسبة” أنني لم أخسر من عمري إلا ثلاث ساعات أمضيتها طائرًا في “الجو”، كنت فيها على هامش الحياة والموت؛ وأعني الحياة المقيدة في كرسي الطائرة، المكان الوحيد الذي أستطيع الوصول إليه، في الطائرة، هو “التواليت”، وما تبقى من زمن الطيران، كان موزعًا بين الغيوم المتناثرة تحت جسم الطائرة، وزرقة السماء الجارحة في نقائها، فوق الطائرة، لكن هذا التموضع لم يستطع أن يسجن أحلام اليقظة النشطة عندي، حيث إنها رفرفت فوق كل الأمكنة والأزمنة، مستحضرة كل الآمال التي ابتلعتها صحراء الاستبداد، بعد أن عجزت عن تحقيق ذاتها على أرض صلبة. عرفت للمرة الأولى أهمية الزمن بالنسبة إلى الإنسان الغربي، عندما كنت في محكمة اللجوء التي ستبتُّ في طلبي، وخرجت أصوات من فمِ القاضي، لم يكن بالإمكان لملمتها، ولم أفهمها في وقتها، يسأل المحامي متى وصلتُ إلى مونتريال، ومتى غادرتُ دمشق، فرد المحامي على السؤال، وكان الفرق بين زمن المغادرة وزمن الوصول هو ثلاث ساعات، كما هو الفرق بين إسطنبول ومونتريال، قائلًا: إن طالب اللجوء لم يخسر أي يوم من حياته، فيوم مغادرته دمشق هو يوم وصوله مونتريال. لكن حضرة القاضي الكندي لم يكن يعرف، مع تثمينه الكبير للزمن، أن في فرق الزمن الحقيقي الذي هو سبع ساعات، زائد ثلاث ساعات طيران، الكثير من الهوامش القاتلة، ففيها مثلًا تم قتل مئات آلاف السوريين الذين هتفوا للحرية والديمقراطية، وتهجير أكثر من عشرة ملايين سوري، ولكن حكومات الغرب بقيت تتعامل وتنظر إلى “الموت السوري” على أنه مجرد هامش لا يستحق الاهتمام. في الهوامش السورية، كان الدم يرشح في الزنزانات والسجون والأقبية، وتحت البيوت المهدمة بفعل البراميل. وفي هوامش زمن الطيران، كانت الصبية التي تجلس بجواري بالطائرة، من جهة النافذة، تلعب لعبة “الغميضة” مع الغيوم المتناثرة التي تظهر وتختفي، أو مع أشعة الشمس التي لا تغيب، وكأن الطائرة قد توقفت في سماء السويد، فتغلق النافذة أحيانًا، وتفتحها أحيانًا أخرى، غير مهتمة بجارها العجوز، وبأخبار الحروب بين “القبائل السورية”، التي دفعت بثلاثة ملايين سوري إلى بلدها تركيا، فقررت بدورها الهجرة إلى كندا، هربًا من السوريين الذين أصبحوا ينافسونها على الجنسية التركية، أو ربما من الأتراك الذين أصبحوا، مع ازدياد صعوبات الحياة اليومية، يميلون أكثر نحو التشدد، الذي كان رخوًا بنظر بعض اللاجئين السوريين، أو قد يكون مجرد نزعة “شبابية” للعيش في الغرب، وتقليد نمط حياة شبابه. في أحد الأيام الإسطنبولية الحارة، كنتُ في باص النقل الداخلي المتجه من “تقسيم” إلى حي “مصطفى باشا”، وكان بالقرب مني فتاتان محجبتان في العشرينات من العمر، تتكلمان اللهجة الحلبية المغرقة في شعبيتها، وتلعنان الزحمة الخانقة والفقر والشّوب، فالتفتّ إليهما وسألت: هل تفضلان العودة إلى حلب، كما كانت قبل الثورة، أم البقاء في إسطنبول والعيش فيها على هامش الحياة؟ فقالت إحداهن إنها تفضل البقاء في إسطنبول، فهامش المدينة منحها “حرية”، لم تعرفها في حلب، هناك كانت تعتقد، هي وكل نساء الحي، أن من حق الزوج أن يضرب زوجته ويحرمها من أولادها، عندما يشاء، ولأتفه الأسباب، بينما هنا أصبحت “حرية ضرب المرأة” مقيدة بالقوانين.
في مونتريال، وبعد مرور أسبوع على وصولي إلى المدينة، لم أسمع كلمة “ثورة” ولا مرة، بينما سمعت عشرات المرات الكلمات التي تعبر عن إمكانية العودة إلى سورية الآن، وعلى الرغم من الصخب الفيسبوكي، لم يُحدث موت الفنانة مي سكاف في منفاها، وموت آلاف السوريين، فرقًا حقيقيًا في أحاديث الناس، فقد ازداد غرق السوريين في هوامش حياتهم، مقتربين بذلك من نمط حياتهم قبل الثورة.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...