لم يعرف تاريخ الأدب الروائي رواية عاشت محنة وجودها حتى قبل أن تُقرأ، كتلك التي عاشتها وعانتها رواية نجيب محفوظ (أولاد حارتنا). محنة اضطهاد، ومحاكمات رسمية وغير رسمية، وحملات صحفية عدائية استهدفت تأليب الرأي العام عليها وعلى مؤلفها والتشهير بها وبه، وصولًا، لا إلى الإفتاء بقتله فحسب، بل إلى دفع القتلة لمحاولة التنفيذ الفعلي..
محنة شارك في مفاقمتها كل من قرأ في الرواية (أو ظن أنه يقرأ فيها) استهدافه مباشرة: السلطات السياسية والأمنية والدينية والثقافية والصحفية وأصحاب النفوس المريضة الغارقة في الجهل أو المصابة بلوثة التعصب الديني الأعمى؛ محنة تعكس صورة مرحلة تاريخية لا تزال عناصرها المقوّمة حيّة وفاعلة حتى اليوم في مجتمعاتنا العربية.
وهو ينشر، بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل نجيب محفوظ في صحيفة أخبار الأدب المصرية (آب/ أغسطس 2014)، ملفًا أعده عن رواية (أولاد حارتنا) تحت عنوان “رواية الرواية”، لم يكن محمد شعير، الكاتب والصحفي، يظن أن ما كتبه، بوصفه فصلًا في كتاب يعمل على تأليفه، عن أيام نجيب محفوظ، سيحمله على إعادة النظر في مشروعه وطرح الأسئلة التي كان لا بد من طرحها والبحث عن إجاباتها، وتفسير أو شرح المواقف التي اتخذتها مختلف الهيئات السياسية والاجتماعية والثقافية من الرواية التي كاد مؤلفها يدفع حياته ثمنًا لها. هكذا قضى عددًا من السنوات بحثًا عن إجابات للأسئلة التي أثارها موضوع بحثه في جوانبه المختلفة، يستجوب شهود الحقبة والمحنة، ويراجع الصحف والكتابات التي نشرت اعتبارًا من عام 1959، عام نشر الرواية في صحيفة (الأهرام) يوميًا، خلال ستة وتسعين يومًا، بين 21 أيلول/ سبتمبر و25 كانون الأول/ ديسمبر1959، حتى نشر الرواية ضمن كتاب لأول مرة بمصر، بعد رحيل مؤلفها.
وجد محمد شعير نفسه، بعد أن استكمل جمع كل ما وسعه لمواد بحثه من وثائق مكتوبة أو مقابلات مع كل من كان له دور بهذا القدر أو ذاك في أحداث هذه المحنة، أمام مادة روائية مذهلة. كان قد أدرك ذلك عندما عنون ملفًا في صحيفة أخبار الأدب رواية الرواية، سيصير بعد ثلاث سنوات كتابًا يوقعه منشورًا لدى دار العين بالقاهرة، تحت عنوان (سيرة الرواية المُحرَّمَة).
رواية أم سيرة؟ كلا الوصفيْن يقول إن هذه الرواية غيرُ مسبوقة، في تاريخ الرواية عمومًا والعربية خصوصًا. إذ على كثرة شخوصها المادية والمعنوية، لم يكن البطل الرئيس فيها بشرًا بل عملًا أدبيًا في شكل رواية. رواية الرواية إذن. وحسنًا فعَل محمد شعير أن اختار شكل الرواية، أو السيرة، لتأريخ هذه المحنة التي عرفتها وعاشتها رواية تعتبر قمة الإبداع الروائي المحفوظي، وبأكثر من معيار، إحدى أهم قمم المبدعات الروائية العربية حتى اليوم.
يرسم محمد شعير، بضربات ريشة سريعة، الجو العام بمصر والعالم العربي من حولها الذي سبق أن رافق ظهور رواية (أولاد حارتنا) إلى العلن عام 1959، بعد أن توقف نجيب محفوظ طوال خمس سنوات (1952 – 1957) عن الكتابة؛ ويتوقف قليلًا عند تصريح وزير الثقافة المركزي أيام الوحدة السورية المصرية، صلاح الدين البيطار، الذي قال إن أدبنا “لا يعبّر تعبيرًا كافيًا عن آمال العرب القومية”، فأثار دويًا في الأوساط الأدبية بمصر. لم يكن نجيب محفوظ مهمومًا بقضايا القومية العربية آنئذ، لا سيما أن همَّه -بعد أن استقر في المشهد الأدبي بمصر والعالم العربي روائيًا فذًا، إثر نشر ثلاثيته: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، وصمته الطويل مقرّرًا بل معلنًا عزوفه النهائي عن الكتابة، ومنتهيًا إلى العودة إلى القلم- كان الرواية التي بدأ آنئذ كتابتها والتي كان يتحدث عنها بين الحين والآخر ذاكرًا عنوانها الذي اختاره لها، من دون أن يفصح عن مضمونها أو عن موضوعها.
لم يكن من عادة نجيب محفوظ الحديث بإسهاب عن موضوع رواياته، قبل أن ينتهي منها. وكان لديه من الأسباب الإضافية الخاصة بموضوع الرواية الجديدة وشكلها ما يحول بينه وبين الإدلاء بأي كلمة عنها. سوى أن ردَّة الفعل جاءت على عكس ما ينتظره بعد هذا الصمت الطويل لا سيما أنها -كما سيكتشف الجميع- ستمثل منعطفًا في مبدعه الروائي شكلًا وموضوعًا ومقاربة، وستكون مثار تخمين أو تعريض، على صعيد الصحافة أولًا، لا سيما حين بدأ نشرها في جريدة الأهرام، بعد أن قرر رئيس تحريرها يومئذ محمد حسنين هيكل، نشرها على حلقات يومية لا أسبوعية. وكما قال نجيب محفوظ، بعد أن نشرت جريدة الجمهورية خبرًا يلفت النظر إلى أن الرواية التي تنشرها (الأهرام) “فيها تعريض بالأنبياء”، إنه “بعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف، إرسال عرائض وشكاوى يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمها إلى المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدي على أساس أن الرواية تتضمن كفرًا صريحًا، وأن الشخصيات الموجودة في الرواية ترمز إلى الأنبياء”.
سيستمر الهجوم الصحفي سنوات بعد نشر الرواية في (الأهرام) للحيلولة دون نشرها بين دفتي كتاب في مصر. فمن غاضب لنشر الرواية في (الأهرام)، بدلًا من مجلة الإذاعة التي كان يرأس تحريرها حلمي سلام والتي بدأت بالتعرض زورًا وعدوانًا على أخلاقيات نجيب محفوظ، إلى رافض للرواية بوصفها استعارة فنية من الرؤية الماركسية للتاريخ، تحاول التوفيق بين الرؤيتين الدينية والعلمية، إلى عادل كامل الذي رأى أن نجيب محفوظ قد وجد قمته، عندما كتب (أولاد حارتنا) “تلك القمة الشاهقة الباردة الرائعة”. لكن الذي افتتح المعركة على صعيد المؤسسات الدينية كان “لجنة الدفاع عن الإسلام” التي كان أحد أعضائها الشيخ محمد الغزالي، والتي حضر أحد اجتماعاتها الكاتب القصصي سليمان فياض، الموظف في وزارة الأوقاف، بوصفه كاتب الجلسة التي كان “محورها مخصصًا لمناقشة كيفية التصدي لرواية (أولاد حارتنا)“. لكن ارتعاش يديه، وهو يسمع ما يقوله أعضاء اللجنة عن الرواية، حمل الشيخ الغزالي على أن يطلب منه التوقف عن الكتابة، وأن يكون هو من يكتب التقرير النهائي الذي تضمن “نقدًا حادًّا لمحفوظ وإدانة له”. حصل سليمان فياض على نسختين من هذا التقرير، أعطى إحداهما إلى نجيب محفوظ والأخرى إلى الناقد غالي شكري. كانت هذه إدانة رجال ينتمون إلى تيار في الإخوان المسلمين مناهض لسيد قطب -كما روى سليمان فياض لمحمد شعير- استطاع “خداع جهاز الأمن يومها، وعمل على نشر أفكار الإخوان بين أئمة المساجد من وراء عبد الناصر”.
لم يكن مسلسل الرواية قد نشر كاملًا في (الأهرام) على كل حال، حين كانت الاحتجاجات ضد نشر الرواية ترسل إلى عبد الناصر الذي كان، وهو يتابع قراءة الرواية يومًا بعد يوم، قد أعطى تعليماته باستكمال نشرها. كانت الاحتجاجات ترسل من قبل رجال الدين، كالشيخ محمد الغزالي نفسه، الذي اعترف بذلك فيما بعد، ومن قبل سياسيين، ومثقفين، مطالبين بتقديم الرواية ومؤلفها إلى المحاكمة. وثمة تقارير ضد الرواية لا تزال -كما قال سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر- محفوظة في أرشيف رئاسة الجمهورية في قصر عابدين. بل إن غضب عبد الحكيم عامر من الرواية دفعه -حسب ما قاله نجيب محفوظ للناقد رجاء النقاش- إلى إصدار قرار بالقبض على مؤلفها، وتحركت القوة بالفعل للقيام بذلك. على أن رواية أخرى سردها محمد سلماوي، اعتمادًا على ما حكاه له سامي شرف، تقول إن قرار عامر بالقبض على محفوظ جاء بعد نشر روايته (ثرثرة فوق النيل). لكن محمد شعير سأل سامي شرف حول الموضوع، فأكد له هذا الأخير أنَّ أمْرَ القبض على محفوظ “حدث بعد (أولاد حارتنا)، وحدث أيضًا بعد (ثرثرة فوق النيل)، وأن عبد الناصر أوقف أي إجراءات ضد محفوظ.” كتب سلماوي: “روى لي السيد سامي شرف، سكرتير الرئيس عبد الناصر آنذاك، أنه كان إلى جوار الرئيس وهو يتحدث إلى عبد الحكيم عامر ويطلب منه غاضبًا أن يوقف فورًا إجراءات القبض على محفوظ. فقال له عامر: إن القوة قد تحركت بالفعل وإنها في طريقها إلى منزله الآن للقبض عليه. فقال له عبد الناصر بالحرف الواحد: “زي ما طلعتها ترجعها.. إحنا عندنا كام نجيب محفوظ!”.
لن تنتهي محنة (أولاد حارتنا) التي استمرت طوال نيف وخمسة وأربعين عامًا بعد نشرها في الأهرام. إذ كلما طرح موضوع نشرها ضمن كتاب، سارعت مؤسسة دينية في الأزهر أو من خارجه إلى أن تعلن اعتراضها القاطع على نشرها، كما يعكس ذلك التقرير الأول الذي نشره مجمع البحوث الإسلامية في أيار/ مايو 1985، والتقرير الثاني المنشور في كانون الأول/ ديسمبر 1988 على إثر فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، الذي اختتم بقرار “حظر تداولها أو نشرها مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وكذلك حظر دخولها بناء على هذا التقرير وعلى تقارير الأجهزة الرقابية الأخرى”، وقد نشر محمد شعير في ملحق كتابه هذين التقريريْن.
والحقيقة أن غضب الهيئات الدينية التي تركت لها حرية التعبير عنه ضد (أولاد حارتنا) كان يعكس غضب ورفض النظام السياسي الذي كان أول من أدرك مرامي الرواية وأنه كان مستهدفًا بها، لكنه تخلى -كما قال نجيب محفوظ نفسه- عن استهداف الرواية لقوة أشد عنفًا يمكن أن تهدمها، هي قوة المؤسسات الدينية. وقد قال محفوظ حول ذلك: “… هذا عمل سياسي في المقام الأول، عمل يقدم رؤية سياسية، والمقصودون بالعمل فهموا معناه، وعرفوا مَنِ المقصود بالفتوات، لذلك أرجح أنهم كانوا وراء تحويل الأمر إلى الناحية الدينية؛ لكي أقع في شر أعمالي”.
لم يكن غريبًا -والحال هذه- أن يقوم أحدهم برفع “دعوى ضد نجيب محفوظ، بتهمة إضافة اسم جديد لأسماء الله الحسنى: الجبلاوي!”. وحين سئل المُدَّعي عما إذا كان قد قرأ الرواية أجاب “حاشا لله أن أقرأها لما تنطوي عليه من خروج!”، كما لم يكن غريبًا أن يصرح “عمر عبد الرحمن، مفتي الجماعة الإسلامية بمصر، بعد ثلاثين سنة من نشر (أولاد حارتنا)، في صحيفة الأنباء الكويتية نيسان/ أبريل 1989 عن رأيه في رواية سلمان رشدي: (الآيات الشيطانية)، فأجاب: لو أن الحكم بالقتل نفذ في نجيب محفوظ حين كتب (أولاد حارتنا)، لكان ذلك بمثابة درس بليغ لسلمان رشدي. وقد حاولت الجماعة المذكورة بالفعل مباشرة هذا القتل يوم 14 تشرين أول/ أكتوبر 1994. ولم يكن من أوكلت له مهمة التنفيذ قد قرأ الرواية لكنه اكتفى بالفتوى. سوى أن فشل التنفيذ قاد مع ذلك إلى فرض رقابة شمولية على نجيب محفوظ، حين ألغي بحجج واهية تدريس روايته (كفاح طيبة) أو خطابه بمناسبة جائزة نوبل.
كان التفسير السياسي الذي قدمه محفوظ لروايته واحدًا من التفسيرات “المتعددة، المتقاطعة أحيانًا، والمتعارضة أحيانًا أخرى، على مدى فترات زمنية مختلفة بعد نجاته من محاولة الاغتيال”، كما يكتب محمد شعير. لكن التفسيرات المتباينة كانت قد امتدت أيضًا إلى عدد من النقاد. ذلك كله لا يحول دون الإقرار بأن جو المحنة، الذي لازم الرواية منذ نشرها، وكان وراءها بالتكافل والتضامن غير المعلن النظام السياسي والمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية والمؤسسات الإعلامية على اختلاف مواقف مسؤوليها وأيديولوجياتهم المعلنة أو الخفية، أدّى بالضرورة إلى قراءة الرواية تحت تأثير مختلف ردات الفعل الأيديولوجية التي صدرت عن أولئك الذين لم يقرؤوا الرواية أصلًا، بل رفضوا قراءتها، لكنهم لم يتوانوا عن المسارعة إلى إدانتها.
بعبارة أخرى، اليوم، وبعد ما سيقارب ستين عامًا من نشرها، لا تزال رواية (أولاد حارتنا)، بحاجة إلى قراءة أخرى، بمعزل عن محنتها وعن كل ما شابها واعتور مسيرتها من عمى ثقافي وديني وسياسي، أو من سوء فهم، بوصفها رواية، أي بوصفها عملًا فنيًّا كامل الأوصاف. ظن نجيب محفوظ أن روايته رسالة إلى ضباط حركة 23 تموز/ يوليو 1952: “أمامكم طريقان، إما أن تكونوا فتوّات أو أنبياء”. لكنه، من ناحية أخرى، ربما كان على حق، حين يعتبر أن (أولاد حارتنا) ليست إلا إعادة كتابة للثلاثية.. بل هما رواية واحدة!
تلك هي فضيلة كتاب محمد شعير: متعة فكرية قصوى، وحضّ على التفكير، بما يليق بمرحلة من تاريخنا، نحن العرب، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...