المسرح، والسياسة، والتأريخ أبو خليل القباني الدمشقي
بدر الدين عرودكي
2019-08-03
إذا كانت صدفة على غير ميعاد هي التي قادت الباحث والروائي تيسير خلف، إلى أحمد أبي خليل القباني، وحملته على اكتشاف كنز من المعلومات والمعطيات الخاصة بالمسرح السوري، تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن هو أو غيره يعلم بوجودها من قبل، ومن ثم على وضع كتابه الرواية التوثيقية: (من دمشق إلى شيكاغو، رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا عام 1893)، فإن الإرادة والقصد هما من حملاه على أن يمضي بعيدًا في الكشف عمّا لم يكن معروفًا منذ قرن ونصف، حول أحد كبار الرواد المؤسسين للمسرح العربي الذي عرفته دمشق وبيروت والإسكندرية والقاهرة وشيكاغو، وبقي مع ذلك شبه مجهول في بلده الأم، كي يحقق في جهود القباني المسرحية التي كانت أساس ومنطلق جهوده التالية ببيروت وبالقاهرة وبشيكاغو، أي بمدينته دمشق، ويخصص لها كتابه الذي صدر حديثًا: (وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق 1872 ـ 1883).
كان الدكتور سيد علي إسماعيل، أستاذ المسرح العربي بجامعة حلوان، قد نشر عام 2008، بمناسبتَي مهرجان دمشق المسرحي الرابع عشر والاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العربية، كتابًا حول “جهود القباني المسرحية في مصر”، ونبّهَ في مقدمته للكتاب: “إذا كان كتابي هذا قد تطرق إلى جهود القباني المسرحية في مصر، فإن جهودًا مسرحية للقباني في سورية ما زالت مجهولة، والمعروف عن هذه الجهود حتى الآن يحتاج إلى تدقيق توثيقي، وتحليل نقدي…”، وضرب أمثلة عديدة على اختلافات الباحثين حول نشاط القباني المسرحي في سورية، مشيرًا إلى أنَّ “هذه الاختلافات الجوهرية في حياة القباني ونشاطه المسرحي في سورية، لا تليق بهذا الرائد المسرحي السوري الأول، وتفرض على الباحثين -في سورية الشقيقة أولًا- واجبًا قوميًا وأدبيًا وفنيًا، حتى يستقيم تاريخ هذا الرائد، لا سيّما أن مفاتيح بحثية ظهرت في هذا الكتاب، يُمكن الاسترشاد بها، وعدّها بداية للبحث والتنقيب”. وهذا ما حمل تيسير خلف، بعد وضع كتابه عن رحلة القباني إلى شيكاغو، على أن يستجيب لهذه الدعوة التي رأى فيها، كما هو واضح من هذا الكتاب الأخير، دعوةً إلى استعادة القباني من بداياته الأساس في سورية، كما يليق به وبمشروعه الرائد في مجاليْ المسرح والموسيقى، وما انطوى عليه من إبداع وابتكار، ولا سيّما في مجال الإخراج المسرحي، والعلاقة بين خشبة المسرح والجمهور، أي كسر الجدار الرابع، وكانت تفاصيل معظم ذلك مجهولة كليًا لا من قبل أكثرية المهتمين بالمسرح في العالم العربي، بل حتى من قبل الذين تناولوا تجربة القباني أو أرخوا لهذه التجربة، بهذا القدر أو ذاك.
لقد تمكن تيسير خلف، بفضل جهد استثنائي بذله، من الحصول على مصادر بقيت مجهولة طوال قرن ونصف، سمحت له بالقطع في كل ما بقي حبيس الظن أو موضع خلاف وأخذ وردٍّ، بين من كتبوا عن القباني من قبل. لقد كتب الدكتور سيد علي إسماعيل بحق في مقدمته الوافية، أن هذا الكتاب “سينحي جانبًا كل ما كُتب من قبل عن نشاط القباني المسرحي في سورية قبل قدومه إلى مصر”، ضاربًا أمثلة على ذلك، منها أن مؤلفه استطاع “أن يحدد نشاط القباني المسرحي داخل سورية، ابتداءً من يونية 1875 وانتهاءً في سبتمبر 1883. وهذا التحديد الدقيق كان مجهولًا”، كما أمكنه أن يؤكد، بشكل قاطع، “حقيقة سفر القباني وفرقته إلى معرض شيكاغو عام 1893، وهي الرحلة التي اختلفنا جميعنا حولها بين مصدق ومكذب لحدوثها”، ونجح “من خلال استخدامه لأدواته البحثية المعتمدة على الوثائق وأقوال الصحف، التي لم يستخدمها أحد من قبل، في تفسير أسباب غلق مسرح القباني في سورية، فجاء تفسيره جديدًا ومقنعًا”، هذا إضافة إلى اكتشافه “مرسح الاتحاد”، وهو مسرح معاصر لمسرح القباني، لم يكتشفه أحد من قبل، ولم يكتب عنه أي باحث من قبل في تأريخه للمسرح في سورية”، ونجاحه في “تفسير لغز العريضة التي كتبها بعض شيوخ دمشق ضد القباني ومسرحه، وكنّا نظن خطأ أنها كانت السبب في إغلاق مسرح القباني واضطهاده في سورية، وانتقاله بمسرحه إلى القاهرة! ولكن المؤلف خالف كل من سبقوه في هذا التفسير، وجاء بحقائق غير متوقعة، نجح في تفسيرها وتوضيحها، وخرج بنتائج تاريخية جديدة”.
ذلك كله يشير إلى حقيقة مؤسفة في الكتابات التأريخية في هذا المجال التي تبدو في معظمها أقرب إلى “الشرح والتعليق على شوارد الروايات الشفهية”، وعزوف عدد كبير منها عن اعتماد المناهج الصارمة في التدقيق والتقرير والحكم. فكان علينا أن ننتظر مئة عام، بعد رحيل مؤسس المسرح السوري وأحد كبار روّاد ومؤسسي المسرح العربي، كي نعلم بصورة أقرب إلى الدقة ما كنا نجهله كل الجهل أو ما كان من تصدوا للتأريخ له يسلكون في محاولات تقريره طرق الظن والتخمين، وذلك بفضل باحث مدقق بذل جهدًا مذهلًا، يكشف عنه كتابه نفسه موضوع هذا المقال مثلما كشف عنه كتابه السابق الذي كتبتُ عنه هنا قبل عام. على أنَّ التدقيق والبحث المنهجي الجاد ليسا وحدهما ما سيكتشفه القارئ في هذا الكتاب. ذلك أننا إزاء رواية مثيرة، تقدم بدايات شاب دمشقي، متعدد المواهب، اكتشف المسرح فكرس له حياته ومواهبه العديدة ولا سيما الموسيقية منها. شابٌّ سوف يصير مع الأيام شخصية ثقافية نادرة في تاريخ الثقافة الفنية والمسرحية في سورية وفي العالم العربي. وهي رواية استطاع تيسير خلف، اعتمادًا على وثائق محققة، أن يصوغها عبر وضعها ضمن سياق التاريخ الاجتماعي/ السياسي لدمشق في نهايات القرن التاسع عشر، وأن يتابع، بأقصى قدر من التدقيق، كيفية ولادة وتحقيق مشروع مسرح بكل ما ينطوي عليه من مغامرات وعقبات ومصاعب، بدءًا من الأول من حزيران/ يونيو 1875، وما واجهه من تشجيع ومن مقاومة في آن معًا، حتى إغلاقه في الثلاثين من أيلول/ سبتمبر 1883. لن يكتفي مؤلف الكتاب بذلك، بل سيتناول “المرحلة البيروتية” المقتطعة من المرحلة المصرية التي لم تكن معروفة من قبل، فضلًا عن استعراض مختلف الكتابات التي تناولت سيرة القباني الدمشقية، والعمل على تدقيقها أو استكمالها بقدر ما أتاحته له المصادر التي وصل إليها واعتمدها في كتابه.
كان أحمد أبو خليل القباني قد بدأ نشاطه المسرحي في بيوت أثرياء الشام، وسارت شهرته مع بداية سبعينيات القرن التاسع عشر حتى بلغت -كما روى محمد كامل الخلعي في ترجمته لأستاذه- مسامع والي دمشق خلال عامي 1872/1873، صبحي باشا، الذي “حضر بنفسه تمثيل رواية من الروايات، في حفلة أقيمت على شرفه بصورة خاصة في بيت ثري من أثرياء الشام، وهم كثر في ذلك العهد، فدهش مما سمع ورأى، وهام بحب أحمد كل الهيام وأدناه من مجالسه، وجعله موضع عنايته.. رأى الباشا في هذا النابغ الدمشقي الشروط المتوفرة للقضاء على الجمود الفكري في الشام وتهذيب النفوس الجامحة بواسطة التمثيل والموسيقى، فأوعز إليه أن يؤلف جوقة، وأن يقيم مسرحًا في المكان الذي يختاره”. وكان المكان الذي اختاره هو خان أسعد باشا، أحد خانات البزورية. على أن الوالي الذي جاء بعد صبحي باشا، وهو محمد حالت باشا، كان هو من أعطاه الترخيص بإقامة دار للمسرح العربي. وكانت هذه البداية المؤقتة لانتقال القباني بنشاطه المسرحي إلى الفضاء العام هي التي أتاحت له تقديم رؤيته الفنية مكتملة في ذلك الوقت، أي تلك التي تجلت في مسرحيات كانت “تضم جميع عناصر الفرجة “القبانية”، كالديكور والمناظر المبهجة، والأغاني والموشحات والألحان، والكوميديا اللطيفة، والحكم والمواعظ المفيدة.” ولئن اضطر القباني إلى وقف نشاطه في دار المسرح العربي بعد سنة ونصف، لأسباب كثيرة كان بعضها يرتبط باعتراض ذي طابع ديني عبّر عنه يومئذ الشيخ بكري العطار مباشرة للقباني، فإن والي دمشق مدحت باشا (كانون الأول/ ديسمبر 1878) هو الذي أعاده إلى التمثيل ووعده بالدعم والمساعدة، فطلب منه القباني آنئذ “دار البلطجية” التي صارت مقر نشاط القباني المسرحي حتى عام 1881 وربما، كما يقول تيسير خلف، حتى عام 1883، جنبًا إلى جنب العروض التي كان يقدمها في الحدائق العامة.
يشير تيسير خلف بحق إلى الفائدة التي كان الوالي مدحت باشا يجنيها من دعمه لأبي خليل القباني ونشاطه المسرحي، ضمن مشروعه لاستعادة السلطة ثانية في الآستانة، وهو ما سمح للقباني بأن يحقق قفزة ذات دلالة في مشروعه المسرحي النهضوي. إلا أنه يصعب على أي مؤرخ أن يتصور لحظة أن القباني كان يدرك الأسباب الخفية وراء دعم مدحت باشا له. فقد كان مستغرقًا كليًّا في مشروعه، ولا سيما أنه كان يواجه رفض مشايخ دمشق لهذا الذي “أحدث خروقًا في الدين بترقيصه الفتيان المرد على المسارح، وتهريجه وتمثيل مما لم تطق الشام على مثله صبرًا..” كما جاء في سردية حسني كنعان لقصة العريضة التي قدمها الشيخ سعيد الغبرة إلى السلطان، والتي أدت -بحسب بعض الروايات- إلى إغلاق مسرح القباني ووقف نشاطاته.
فنَّدَ تيسير خلف هذه السردية، ووصل إلى نتيجة أقرب إلى الدقة، بحسب كل المعطيات التي قدمها، تؤكد غيابَ أيِّ قرار (أو إرادة سنية) صادر عن السلطان العثماني، وأن المنع الذي كان قرار أبي الهدى الصيادي، مستشار السلطان، أو الصدر الأعظم، هو الذي حمل الوالي يومئذ، أحمد حمدي باشا، على إغلاق مسرح القباني. وهكذا لعبت السياسة دورها في انطلاق مشروع القباني المؤسس للمسرح العربي، مثلما لعب حُماة التقاليد الدينية دورهم في محاولة وقف هذا المشروع الذي سيجد مع ذلك طريقه إلى الاستمرار بالقاهرة وبالإسكندرية ثم ذروته بشيكاغو.
سنعلم ذلك كله بفضل هذا الكتاب المذهل في دقته وفي أمانته للبحث التاريخي والتوثيقي المكرّس لوجه من وجوه تاريخ سورية الثقافي خصوصًا والنهضة الأدبية العربية عمومًا، أعني ذلك الذي جسَّده أحمد أبو خليل القباني. والحق أن محمد كرد علي الذي يستشهد به تيسير خلف كان قد وضع النقاط على الحروف، في تقييمه لهذه الشخصية الثقافية الاستثنائية في التاريخ الثقافي السوري الحديث، حين كتب عنها في كتابه خطط الشام: “وجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه، بل قيل له: إن في الغرب فنًا هذه صورته فقلده، وقيل: إنه شهد رواية واحدة مُثلت أمامه في إحدى المدارس الأجنبية، ولما كانت عنده أهم أدوات التمثيل، وهو الشعر والموسيقى والغناء، ورأى أنه لا ينقصه إلا المظاهر والقوالب، أوجدها وأجاد في إيجادها، ولذلك كان أبو خليل مؤسس التمثيل العربي، ونابغة العرب في الموسيقى والتمثيل، ورواياته التي ألفها ما زالت منذ زهاء ستين سنة وإلى يوم الناس هذا (1925)، موضع إعجاب الأمة…”.
من الواضح أنه لن يكون من الممكن، من الآن فصاعدًا، قبول أي حديث عن بدايات المسرح العربي من دون العودة إلى هذا الكتاب الفصل، الذي وضع النقاط على الحروف في كل ما يخص جهود، لا أحد رواد النهضة العربية الحديثة فحسب، بل أحد كبار رواد الحداثة الثقافية العربية: أحمد أبو خليل القباني، الدمشقي.