أسطورة آدابا ـ عندما خسر الإنسان الخلود
فراس الســواح
2018-10-06
تمَّ تجميع هذا النص من كسرتي رقيمين، عُثر على الأولى منهما في موقع تل العمارنة بمصر العليا، وهو على ما يبدو كان مستعملاً في تدريب الكتبة المصريين على اللغة والخط الأكاديين. أما الكسرة الثانية فقد عثر عليها في مكتبة آشور بانيبال بموقع مدينة نينوى الآشورية. وهو نص قصير بشكل عام، وربما لم يتجاوز عدد سطوره المئة والعشرين.
البطل الرئيسي في هذا النص هو آدابا، الأول بين الحكماء السبعة الذين حكموا قبل الطوفان الكبير، وهم الذين علموا البشر وأرسوا مبادئ التحضر الإنساني برعاية الإله إنكي (إيا) إله الحكمة والأعماق المائية العذبة. ويبدو من سياق القصة أن آدابا لم يكن أول الحكماء فقط، بل كان الإنسان الأول كذلك. وقد صنعه الإله إيا ليقوم على خدمة معبده في أول مدينة تظهر في وادي الرافدين هي مدينة إيريدو، التي كانت تقع على شاطئ نهر الفرات عند مصبه على الخليج العربي ، فكان آدابا أول إنسان وأول كاهن يحفظ شعائر الآلهة ويعمل على خدمتها. وقد ورد الاسم آدابا في المصادر البابلية والآشورية أيضاً بصيغته «أوان»، وهو الاسم الذي استخدمه المؤرخ البابلي بيروسوس الذي كتب في العصر اليوناني عن تاريخ البابليين، فدعاه «أوانيس».
تروي القصة كيف أن آدابا كان يرعى شعائر الإله إنكي كل يوم فيخبز الخبز ويصطاد السمك لتقديمه قرباناً على المذبح. وفي أحد الأيام وبينما كان مبحراً في عرض البحر هبت ريح الجنوب فأغرقت مركبه، فنطق آدابا ضدها بلعنة كسرت جناحها فأقلعت عن الهبوب. بعد سبعة أيام ينتبه الآلهة إلى ما حصل ويعرف كبيرهم آنو أن آدابا هو المسبب فيأمر بمثوله بين يديه. قبل صعوده إلى السماء يعطيه إيا توجيهات تساعده في الدخول على آنو. لقد عرف إيا ببصيرته النافذة أن آنو سوف يهبه الخلود بعد إطلاعه على أسرار السماء ويجعله مثل الآلهة. ولسبب غير واضح، لم يكن إيا راغباً في ذلك، فأعطاه تعليمات بوجوب عدم أكل الخبز الذي يُقدم له في السماء، وعدم شرب الشراب. وكان ذلك الخبز وذلك الشراب هما خبز وشراب الحياة الأبدية، فخسر آدابا الخلود وعاد صفر اليدين إلى الأرض لتعاني ذريته الآلام والأمراض والموت.
كسرة الرقيم الأولى:
[عدة أسطر تالفة في البداية]
لقد أعطاه إيا كل الحكمة ليفسر مشيئة الآلهة،
أعطاه الحكمة ولكنه لم يمنحه الحياة الأبدية.
في تلك الأزمان، في تلك السنين، كان حكيماً وابناً لإيريدو؛
خلقه ليكون روحاً حافظاً بين بني البشر.
حكيماً كان، وأمره لا يعارضه أحد؛
ذكياً، فائق الحكمة، كواحد من الأنوناكي؛
نقياً، طاهر اليدين، قيماً على المعبد وعلى الشعائر الدينية.
كان يصنع الخبز مع الخبازين،
كان يصنع الخبز مع خبازي إريدو،
ويقدم الطعام والماء كل يوم لإيريدو،
وبيديه الطاهرتين يُعد المائدة المقدسة؛
كان يُشرع مركبه ويصطاد السمك لإيريدو.
في تلك الأزمان، آدابا الإيريدي ابن إيا،
وفي وقت الهجوع إلى السرير، كان يؤوب بوابة المدينة،
ويرسي مركبه على الرصيف المتألق، رصيف القمر الجديد.
وذات مرة هبت الريح ودفعت بمركبه بعيداً،
فراح يقود مركبه بمجذافيه،
... ... في البحر الواسع.
[فجوة في النص لا نعرف عدد أسطرها]
كسرة الرقيم الثانية:
هبت ريح الجنوب فأغرقته ودفعت به إلى عالم إيا
«يا ريح الجنوب... ... ...
إني سوف أكسر لك جناحك.
وما أن نطق فمه بذلك حتى كُسرت جناح الريح.
ولمدة سبعة أيام لم تهب ريح الجنوب على الأرض،
فاستدعى آنو وزيره إيلابرات قائلاً:
«لماذا لم تهب ريح الجنوب على الأرض لسبعة أيام؟»
فأجابه وزيره إيلابرات:
«لقد كسر آدابا بن إيا جناح ريح الجنوب».
لسماعه هذا الكلام، صاح آنو «العَون»؛
نهض عن عرشه وقال: «ليأتوا به إليّ».
وهنا، إيا المطلع على مجريات السماء، وضع يده عليه،
جعله يحل شعره ويطلقه مشعثاً،
وألبسه ثياب الحداد، وأعطاه تعليماته:
«آدابا، يجب عليك أن تمضي إلى آنو الملك.
سوف تسلك طريق السماء.
وعندما تصعد إلى السماء، وتقترب من بوابة آنو،
سوف تجد تموز وجيزيدا واقفين على بوابة آنو،
وعندما يريانك سوف يسألانك:
أيها الرجل، لأجل من تبدو في هذه الهيئة؟
من أجل من ترتدي ثياب الحداد؟
فقل لهما: لقد غاب عن الأرض إلهان، ولهذا أبدو في هذه الهيئة.
وسيسألانك: ومن هما هذان الإلهان اللذان غابا من الأرض؟
فقل لهما: إنهما تموز وجيزيدا.
عندها سينظران إلى بعضهما ويضحكان، ويتحدثان في صالحك أمام آنو،
وسوف يسمحان لك أن ترى طلعة آنو البهية.
وعندما تقف في حضرة آنو،
سوف يُقدم لك طعام الموت فلا تقبله،
وسوف يُقدم لك شراب الموت فلا تشربه،
سوف يعطونك عباءة فالبسها،
ويُقدم لك زيت فادهن به نفسك.
هذه وصاياي فاعمل بها، وكلماتي التي أقول فاحفظها».
ثم وصل مبعوث آنو وقال: «أرسلوا لي آدابا الذي كسر جناح الريح».
فأسلمه إيا طريق السماء، وارتقى آدابا نحو السماء.
وعندما وصل إلى السماء اقترب من بوابة آنو،
كان تموز وجيزيدا يقفان على بوابة آنو،
فلما أبصراه صاحا: «العون».
أيها الرجل، مِنْ أجل مَن تبدو في هذه الهيئة،
ومن أجل من ترتدي ثياب الحزن؟
«لقد غاب عن الأرض إلهان، ولهذا أرتدي ثياب الحزن».
«ومن هما الإلهان اللذان غابا عن الأرض؟»
«إنهما تموز وجيزيدا». فنظرا إلى بعضهما وضحكا.
وعندما اقترب آدابا من حضرة آنو الملك، ناداه قائلاً:
«اقترب مني يا آدابا، لماذا كسرت جناح ريح الجنوب؟
فأجابه آدابا: «سيدي، كنت أصطاد السمك في عرض البحر
لبيت سيدي إيا، وكان البحر هادئاً كأنه المرآة.
ولكن رياح الجنوب هبت فأغرقتني، ودفعت بي إلى عالم إيا.
وفي ثورة غضبي لعنت ريح الجنوب».
تموز وجيزيدا وقفا إلى جانب آدابا،
وقالا لآنو كلمات في صالح آدابا،
فهدأت خواطر آنو، ولبث ساكناً، ثم قال:
«لماذا كشف إيا لإنسان غير مقدس مكنونات السماء والأرض؟
لقد جعله قوياً، وأقام له اسماً، حتى فعل ذلك.
فما الذي سنفعل به الآن؟
أحضِروا له خبز الحياة ليأكل منه»، فلم يقربه.
ثم أحضروا له شراب الحياة، فلم يشرب منه.
وبعدها جلبوا له عباءة فلبسها،
وجلبوا له زيتاً فدهن به نفسه.
فنظر إليه آنو وضحك منه:
«اقترب مني يا آدابا. لماذا لم تأكل ولم تشرب؟
ألا تود الحصول على الخلود؟ واحسرتاه على البشر التعساء».
«لقد أمرني سيدي إيا ألا آكل وألا أشرب».
«خذوه وأعيدوه إلى الأرض».
يلي ذلك كسر حتى نهاية اللوح لا نعرف عدد أسطره، ومعه تنتهي القصة.
ولدينا من الأسطورة نفسها نسخة ثانية عُثر على كسرتين منها في مكتبة الملك آشور بانيبال. في الكسرة الأولى هنالك 18 سطراً يتكرر فيها ما رأيناه من تعليمات إيا لآدابا قبل صعوده إلى السماء. أما الكسرة الثانية فتتألف من 21 سطراً تعطينا مزيداً من الإيضاح عن نهاية القصة وهدفها. فلقد اعترف آنو بكهنوت آدابا، وكرسه كاهناً حتى نهاية الأيام في إيريدو، التي أعطيت مزايا خاصة بين المدن. أما الأمراض والعلل التي ستنتاب البشر نتيجة خطأ آدابا، فستكون قابلة للشفاء من قبل إلهة الشفاء المدعوة نن كاراك. وهذا ما يجعل النص بمثابة تعويذة تتلى لشفاء الأمراض، وذلك بتلاوة أصل المرض الذي جاء إلى الأرض عندما رفض آدابا الخلود، وجلب على ذريته معاناة الآلام في الحياة.
ولكن السؤال الذي يبقى معلقاً دون جواب هو: لماذا خدع إيا عبده آدابا، عندما أمره بألا يأكل من طعام الحياة وشراب الحياة الذي سوف يقدم إليه في السماء لمنحه الخلود بعد أن اطلع على أسرار السماء وصار مثل الآلهة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تضعنا في صميم مسألة القدر، ومشيئة الآلهة غير المفهومة من قبل البشر.