تطرح حركة التاريخ المعيش، الذي نسعى لصناعته بما يتوافق مع الأهداف التي طرحتها الإرادة عليه، علينا أسئلةً لم تكن في حسبان البدايات المثقلة بالهمّ والآمال والتفاؤل والضمير النقي، وبخاصة بعد أن يمرّ زمن على اندراج الناس في معركة الحياة.
الثورة السورية واحدة من الثورات التي، على الرغم مما قدمته وتقدمه من تضحيات كبيرة، خلقت لبعض المنتمين إليها ومحبيها والفاعلين فيها، خيبةَ أملٍ ما، وأسئلةً لا تني تتكاثر بعد سنوات سبع من انطلاقتها.
فقد اعتقد كثير ممّن هم على خُلق نزيه أن الذهنية سريعة التغير في الحال الثورية، وأن القيم ستشهد انقلابًا عاصفًا، مناقضةً قيم مجتمع الاستبداد والفساد على نحو فوري، وأن الثوري سيرتقي بسلوكه إلى مستوى الزهد، أو أن المثقف الثوري سيضرب المثل الأعلى بالترفع عن المبتذل.
وعندما يرى الفرد الآمل بهذا ما يناقض ظنه، يشعر بخيبة أمل تصل إلى حد الكفر بِما أقدم عليه من موقف. غير أن التأمل في هذه الظاهرة يسمح لنا باكتشاف الأسباب التي تقف وراءها، واكتشافُ الأسباب لا يعني شرعنتها، وتبريرها أبدًا، وإنما يُساعد في التقليل من خيبة الظن هذه، وبعض الظن هنا ليس إثمًا.
السبب الأول يكمن في نصف قرنٍ من عملية تحطيم القيم التي قامت بها الجماعة الحاكمة؛ إذ إنها أشاعت قيمها المنحطة اجتماعيًا على أوسع نطاق، حتى صار السلوك المناقض للقيم الأخلاقية الإيجابية تعبيرًا عن “المسكنة” و”الهبل”، فالأجيال التي فتحت عيونها على الفساد واختراق القانون والعنف اللفظي والمادي والرشوة، اكتسبت مناعة ضد القيم الإيجابية، في نمط من الحياة يختال فيه اللصوص من دون خجل أو وجل، فكان لا بد أن يظهر هذا في سلوك بعض الذين انحازوا إلى ثورة الحرية والكرامة.
وإذا كان صحيحًا أن الذهنية الثورية وقيم الثورة والسلوك الثوري حالات مناقضة لذهنية وقيم وسلوك الحال الماضية؛ فإن القيم والذهنية بطيئة التغير، وبالتالي فإن السلوك -بوصفه مرتبطًا بالذهنية والقيم- هو الآخر بطيء التغير، وإن ثقافة عقود من الزمن، وقد صار جزء منها مكونًا لا شعوريًا في النفس، لا يمكنها أن تختفي عبر زمن قصير.
هذا واضح من ظهور الحوار داخل المعارضة في صيغته العنفية، حيث إنه في أحيان كثيرة يصل إلى حد الإقصاء، مع أن الحوار هو ثقافة الاعتراف.
كذلك الأمر، الحالة الثورية ليست فضاءً دائمًا من الزهد والتسامح والتعفف عن السلطة، وخلوًّا من الصراعات والتآمر، إنها خليط من التمرد والعنف والاستئثار بالسلطة والفداء، لكنها رغم هذا تؤدي وظيفة تحطيم العالم القديم، والعودة إلى تاريخ الثورات الكبرى في التاريخ أمرٌ مفيدٌ.
بل إن القوى الثورية غالبًا ما تنتقل من الصراع مع عدوها إلى الصراعات الداخلية، على نحو بسيط أثناء الثورة، وعلى نحو دموي بعد انتصار الثورة، وإذا لم نتفهم هذا الأمر، ونعمل على تخفيف آثاره السلبية؛ فسنزيد من العثرات على الطريق.
غالبًا ما تجدد التجربة الكفاحية نفسها في مسارها المثقل بالهموم والبحث عن سبل الخلاص، وعبر النقد الذي يطال السلوك والأفكار، وعبر انكشاف الغث من السمين في النخب السياسية على وجه الخصوص.
إن امتحان التجربة العملية يتطلب تطورًا دائمًا في وعي الواقع بكل تعقيداته، وسلبياته، وإيجابياته، والامتحان نفسه يُولّد النخب البديلة الأقدر على قيادة مسار الكفاح.
إن ما أشير إليه لا يعني ذمّ الاختلاف، بل جعل الاختلاف في خدمة القضية الكبرى لمعركة الحرية والكرامة، فقولنا بالأصل ينصبّ على ممارسة قوى الحرية والديمقراطية، ولا يلقي بالًا للقوى الأصولية المتخلفة، التي ليست سوى عثرة في طريق التحرر.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...