لطالما خلتُ أن لدى كلّ كاتب مَنْ يثق به، ويرتاح إليه، ويطلب رأيه -الصريح المباشر- بمختلف شؤون كتاباته؛ وهو (الكاتب) آمن مطمئنّ إلى أن الرأي المُقدَّم له -من ذلك الشخص تحديدًا- خالٍ تمامًا من المجاملات المُمارسة مع الكتَّاب والفنَّانين في الحياة الاجتماعيّة العامّة، يقول ما يرى من دون زوغان.
لطالما خلتُ أن ثمّة مَنْ يأتمنه الكاتبُ على مشروعاته وأفكاره -في حقل إبداعه- وكذا على هواجسه وآرائه وأحلامه وتهيّؤاته وتوجُّساته.. وغير هذا مما يعتمل في روحه ويشغل ذهنه في ما يتعلّق بمسار وأحوال الكتابة لديه؛ سواء صعودًا وائتلاقًا وتأثيرًا، أو تكرارًا وإعادةً واستنساخًا، أو هبوطًا وخبوًّا وبرودة.
وقد حسبتُ هذا، لأنه -في الحياة العامّة- ثمّة مَنْ نلجأ إليه لنبوح له ونسرَّ عن فرحٍ أو دهشة أو أزمة أو حبّ جديد أو حزن أو مغامرة أو ملل أو خاطر أو يأس.. مما ينتاب حيواتنا، أو يدهمها، أو يُحلّق في فضائها ويُلوّنها، أو يستبدّ بها ويُثقل عليها. ا لأمر ذاته يُفترض أن يكون مُحقَّقًا لدى الكتَّاب في ما يتعلّق بهموم نتاجهم وأحواله وتقلّباته، ترقّيه أو تعثّره، جدَّته وتقدّمه أو تراجعه؛ بل لا مُغالاة في القول إنّ وجود مَنْ يُسَرُّ لهم أشدُّ لزومًا، في حياة الكتَّاب والفنَّانين من غيرهم، لأنّ المسألة لا تتعلّق بأمر فضفضةٍ وترويح عن النفس، وإنّما بما يمسّ مسار النتاج، وأفقه، وموقعه في خارطة الحياة الثقافيّة ولدى القرّاء المُتابعين له والمُهتمّين به.
ثمَّة كتَّابٌ عربٌ كبارٌ، روائيّون وقصّاصون وشعراء، لهم أعمالهم الأدبيّة الرفيعة، غير أن نتاجهم طفق يهبط تدريجيًّا، ويخبو بريقه، ويخفت سحره، بل ويُشرف على الهاوية؛ من دون أنْ يسعى الواحد منهم إلى خُلّص أصدقائه لمعرفة آرائهم، وكذا من دون أنْ يُبادر أحد هؤلاء الأخيرين -صدقًا مع الذات ووفاء للكاتب- إلى بيان رؤيته ورأيه واجتهاده.
وإذا ما توفّر صديقٌ يحرص على الفصل الحاسم بين صداقته العميقة للكاتب وتقديره له من جهة، والنظر إلى عمله الأدبيّ، وتكوين الرأي فيه بحياديّة تامّة من جهة أخرى، فسيكون أشدّ نُدرةً من النادر. تمامًا كما سيكون شديد الندرةِ -أيضًا- توفّر كاتبٍ له أذُنان للإصغاء العميق، وصدر واسع للترحيب برأيٍ يرى في نتاجه الجديد هبوطًا، أو قدْرًا من التسرُّعٍ، أو درجة من التكرار… إلخ
يندر هذا، ويندر ذاك. وبين نادرَيْن، تتزاحم في الظهور أعمالٌ جديدة لكتَّابٍ كبار معروفين، فيها قسط من الهلهلة، والضحالة، والعجالة، ما لا يليق -قبل القارئ- بأصحابها وبنتاجهم السابق الرفيع وبمكانتهم في الحياة الثقافيّة. أعمالٌ، إذا ما حذفنا الأسماء عن أغلفتها، وقُدّمت للجان قراءة لما ارتضوا نشرها ربما، فكيف إزاء منحها الجوائز التقديريّة؟
لا لزوم لذكر أسماء كُتبٍ أو كتَّابٍ ولو تحت الجملة العتيدة: “على سبيل المثال”، لأنّ من شأن ذكر الأسماء حصر الظاهرة بها، والإيحاء باقتصار الموضوع على ما يُذكر منها فحسب. والحال أن لدى النقّاد والدارسين (وكذلك لدى القرّاء، بالطبع) كمًّا من الأعمال الضعيفة أو الهابطة لكتَّاب كبار. غير أن ما يحول -لدى معظم المشتغلين بالنقد- دون تسليط الضوء النقديّ الجهير على عيوبها أسبابٌ عديدةٌ ليس بينها -بالتأكيد- الاحتكام إلى الموضوعيّة والقيم الفنّية للنص والسويَّة الإبداعيّة.
ويبقى السؤال: هل يفتقر الكاتبُ -من صنفِ المُكثرين دون تروٍ- إلى صديقٍ شديد القرب منه والإخلاص له والصراحة معه؟ أليس له من صاحب يَصْدقه القولَ والرأيَ؟ أما من نديمِ أدبٍ في حياة هذا الكاتب ليتبادل وإيّاه شؤون وشجون الكتابة ومشاغلها، ويتلمَّس معه ما يتعلَّق بالخطّ البيانيّ لكتابته وأعماله.. وما إلى ذلك؟ إِنْ لم يكن له حقًا صديقٌ كهذا؛ فيا للبؤس!
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...