سورية بين ثورتين ضد آل الأسد الابن 2011 والأب 1979
محمد السلوم
2018-11-17
في كتاب مهم عن موجة الثورات العربية، لعدد كبير من الباحثين الفرنسيين، قدّم الباحث الفرنسي بيير توما دراسة مورفولوجية مهمة، حول بدايات الثورة السورية 2011-2012 ومقارنتها بثورة 1979-1982 التي انتهت آنذاك بمذبحة مدينة حماة الشهيرة، وخلفت نحو أربعين ألف قتيل. ويُحلّل بيير توما أسباب استمرار صمود النظام السوري في مواجهة الثورة السورية الثانية ضد آل الأسد، والحكم العلوي الظلامي لسورية. وللأمانة العلمية، أشير هنا إلى استخدام الكاتب الفرنسي مصطلح “الانتفاضة” بدل الثورة، لكني ارتأيت استخدام كلمة ثورة، ويقف الكاتب عند الدعم الذي تلقاه النظام من حلفائه. والدراسة غاية بالأهمية، في تفسيرها المنهجي والواضح حول الطبيعة والتركيبة الطائفية للنظام.
إن تحول الثورة السورية في الحرب وغرقها يعود في الأصل إلى ثلاثة عوامل: الأول هو الأساس الطائفي العلوي للقوات المسلحة، وهو شرط لإمكانية ممارسة العنف الشديد ضد المجتمع الممزق، وبالتالي ضمان بقاء النظام ضد هذا الأخير. الثاني هو تحرير الاقتصاد الذي تسارع في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين 2000-2010، الذي أطاح نظامَ الاقتصاد السابق لإعادة التوزيع التي تتكون في غالبيتها في أماكن السكان السنة، وعدم شرعية النظام لعوامل مرتبطة بالإطار الديني. أما الثالث فهو طبيعة الثورة المسلحة التي ظهرت خلال صيف عام 2011، إذ شكّل تطورها في مناطق السكان السنّة الريفية والحضرية صعوبات بالغة أمام الجيش الموالي؛ فمن ناحيةٍ، يتطلّب الانتشار الجغرافي لهذا التمرد، من أجل مكافحته، أعدادًا ثبت عدم توفرها بالسرعة اللازمة لإيقافها؛ ومن ناحية أخرى، يتطلب إجبار الجيش على مواجهة الثوار، في كثير من الأحيان، في المناطق التي كانت تقدّم بالعادة الكثير من الخدمة العسكرية السنية للنظام.
في 1 شباط/ فبراير 2012، احتفل السوريون بالذكرى السنوية الثلاثين لـ “مذبحة حماة“، وهي مدينة ومركز محافظة على نهر العاصي، قام الجيش بتدميرها الجزئي في عام 1982، وأدت إلى مقتل عدة آلاف من الأشخاص (1). كان حصار حماة الحلقة الأخيرة من الانتفاضة التي بدأت قبل ثلاث سنوات، وكادت أن تعصف بنظام حافظ الأسد، وكان مسار الأحداث مختلفًا اختلافًا جذريًا عما كان عليه بعد ثلاثين عامًا: فمن عام 1979 إلى عام 1982، تحول تمرد مسلح أطلقه الإسلاميون في لحظات إلى انتفاضة شعبية في المدن الشمالية، وخاصة مدينتي حماة وحلب، وامتدت إلى إدلب. واعتبارًا من آذار/ مارس 2011، من جهة أخرى، شهدنا حركة احتجاج شعبية سلمية تحولت، نتيجة القمع، إلى تمرد مسلح لعب فيه الإسلاميون دورًا متناميًا (2).
هدفنا هنا هو عدم إعادة كتابة تاريخ أحداث أوائل الثمانينيات، بل على النقيض من ذلك، هدفنا هو إلقاء الضوء على مورفولوجية الأزمة الحالية، من خلال الكشف عن سلسلة من أوجه التشابه والاختلاف، بين هاتين الحلقتين من الاحتجاج والعنف. وعلى هذا الأساس، سنتناول ثلاث نقاط متتالية تبدو ضرورية لنا في فهم الجوانب الداخلية للثورة السورية، وسنقوم بتجنب الحديث عن لعبة الجهات الفاعلة في الأحداث، سواء الإقليمية أو الدولية، وبالتالي فهي غائبة عن هذه المساهمة (3). بمعنى سنقوم بدراسة النقاط التالية:
النقطة الأولى: العامل الطائفي، مفتاح مقاومة النظام لحركة الاحتجاج الشعبي. والثانية هي البعد الاجتماعي، أما الثالثة فهي البعد الاقتصادي، وسنبحث دور هذه النقاط في قلب التحولات التي أدت إلى انتفاضة وثورة عام 2011؛ ودينامية العسكرة للمعارضة، مما أغرق البلاد في دوامة حرب لا أملَ بإيقافها في المستقبل القريب.
العامل الطائفي، مفتاح بقاء النظام
في عام 2011، كما في عام 1979، تكمن قدرة النظام على الاستمرار والبقاء على قيد الحياة عدة سنوات، على الرغم من حركة الاحتجاج القوية، تكمن في العلاقات البدائية (الدينية والعشيرة والعائلة والطائفة) التي تضمن ولاء القوات المسلحة للرئيس (4). من وجهة النظر هذه، حالة سورية هي مشابهة جدًا لعراق صدام حسين، أو إذا استبدلنا العامل المذهبي بالقبلية، كما في ليبيا معمر القذافي.
على الرغم من أن الطائفة العلوية للرئيس بشار الأسد تمثل نحو 10 بالمئة من سكان سورية، فإنهم يشكلون أغلبية كبيرة بين الضباط ومرتبات الحرس الجمهوري للنظام (الحرس الجمهوري، والفرقة الرابعة المدرعة وقوات المشاة، وأجهزة المخابرات المترامية الأطراف والمتنوعة). وقد أصبح عنصر الأمن العسكري في هذا النظام العلوي حجرَ الزاوية، منذ عام 1960 (5). ويمكن ملاحظة أن من ساعد في نفوذ العلويين في القوات المسلحة هي مجموعة أخرى قد تشكل “أقلية”، من العرب والسنة، وهم البدو والشوايا (بدو مستقرين مع قطعانهم وفي أراضيهم التي يقومون بزراعتها) في منطقة الفرات. ويضاف إليهم قسم من الأكراد، وعلى الرغم من العلاقات المتصارعة بين السكان الأكراد والنظام، فإن الجهاز القمعي يشمل أيضًا عددًا كبيرًا من أفراد هذه الأقلية الإثنية.
التضامن المريح وتحالف الأقليّات ليسا الدعامة الوحيدة من دعائم النظام الذي يدمج سلطة واحدة للرئاسة مع الجيش. فقد تم تعزيز هذه الدعامة عمليًا بالعائلة الحاكمة من أقارب الأسد، وتكليفهم بأداء الوظائف المتقدمة في جناحيها العسكري والأمني: مثل حافظ مخلوف (ابن خال رئيس الدولة، ومدير المخابرات العامة). عاطف نجيب (ابن خالة الرئيس، الذي كان مدير المخابرات في درعا عندما بدأت الاحتجاجات في آذار/ مارس 2011). آصف شوكت (صهر الرئيس، ومدير عام المخابرات العسكرية أو الأمن العسكري، كما تولى منصب نائب وزير الدفاع حتى اغتياله، في تموز/ يوليو 2012).
المثال الأبرز والأكثر رمزية لهذا التراث في القوات المسلحة لدى عائلة الأسد، هو دور شقيق الرئيس، على الرغم من أنها قاعدة غير مكتوبة، وبموجبها يشرف شقيق الرئيس على الحرس الجمهوري لدى النظام، فقد كان قبل ثلاثين عامًا، رفعت الأسد (شقيق حافظ الأسد) يقود قمع التمرد على رأس “سرايا الصراع”، كما كانت تُسمى آنذاك؛ ومنذ عام 2011، أعطي ماهر الأسد (شقيق بشار) دورًا مماثلًا، ليقود الحرس الجمهوري، أما “سرايا الدفاع” سابقًا فقد أصبحت “الفرقة الرابعة”. وإلى جانب هذه الرسوم التوضيحية المرئية بشكل خاص، توسعت الشبكات العائلية والعشائرية العلوية الممتدة والمتشابكة، بدءًا بربط القوات المسلحة برئيس الدولة، وصولًا إلى المستويات الدنيا من التسلسل الهرمي العسكري.
وجود مثل هذا التكوين في سورية وليبيا، وعدم وجوده في حالة تونس ومصر، يفسر إلى حد كبير تنوع السيناريوهات في هذه البلدان في عام 2011؛ ففي الحالتين الأوليتين، نجد الولاء “التلقائي” والأعمى، كنواة صلبة للقوات المسلحة التي ستسمح باستخدام العنف غير المحدود ليس فقط ضد المتظاهرين، بل أيضًا الانطلاق من منطق الانتقام الجماعي ضد التجمعات السكانية المحتجة، وحق التصرف الانتقامي فيها، على العكس من ذلك، لا يتم بناؤها على فئات اجتماعية متميزة عن غالبية السكان، في حين لم تتجاوز قوات القمع التونسية والمصرية إطلاق النار ضد المتظاهرين.
بالنظر إلى البعد الديني الطائفي والأسرة العسكرية الحاكمة، فإن العديد من السوريين يعرفون، من تجربة 1979-1982، أن الإطاحة بالنظام تنطوي بالضرورة على اجتياز مرحلة عنف عظيمة (6).
في الواقع، ليست هناك حاجة إلى أن يكون المرء خبيرًا لتحقيق التغيير، لأنه سيفهم أن نظامًا سياسيًا مثل النظام الذي يدير سورية منذ عام 1963، لا يمكن إصلاحه أو عكسه دون حدوث ضرر كبير. وفي ما يتعلق بالإصلاحات، فإن عدم شرعية النظام يؤدي بالضرورة إلى الاعتقاد بأن هناك مخاطرة كبرى، بالنسبة إليه، إذا قرر أن يشترك في عملية إضفاء الطابع الديمقراطي على مختلف التيارات السورية، بتطبيق نموذج نظام متعدد الأحزاب، على نمط قانون الأحزاب الذي أنشئ في مصر عام 1979، أما بالنسبة إلى الانعكاس “الناعم”، فإنه يتطلب تفكيك أو فصل العلاقة بين شخصية الرئاسة (بالضرورة التضحية أو على الأقل تهميش دورها بالنتيجة) ومؤسسات الدولة، وخاصة الجيش. ومع ذلك، للأسباب المذكورة أعلاه، هذا التفكيك والفصل غير ممكن في سورية، لأهمية وخطورة المؤسسة العسكرية، كما تهيمن على النظام مجموعة من الشبكات غير الرسمية القائمة على التكافل البدائي (الطائفة والعائلة والعشيرة) وهي تحكم القوات المسلحة، من بين أمور أخرى. وفي الحقيقة، لا أحد يعرف كيف يمكن تفكيك هذه المنظومة دون المرور عبر مرحلة الحرب الأهلية، أو التدخل العسكري الأجنبي (العراق وليبيا). (7)
أضفت الحرب القائمة في سورية أجواءً ذات آفاق غامضة حول التغيير السياسي في سورية، ما يُفسّر نوع التردد إلى حد كبير في بعض القطاعات الاجتماعية في التعاطي مع الحركة الاحتجاجية، في آذار/ مارس 2011. وظهرت قوة لدى النظام تواجه حركة احتجاج لفترات طويلة، وأدى ذلك بالعديد من المراقبين إلى التشكيك في “الدعم” الذي تتمتع به عائلة الأسد لدى السكان، لا سيما جماعات مثل الأقليات الدينية، خوفًا من احتمال بروز قوى إسلامية، في حين يبدو أن البرجوازية هي المستفيد من التحرر الاقتصادي الأخير، والمسؤولون، وعدد كبير جدًا في هذه الدولة مع الإدارة المتضخمة، وبالطبع مع عدد من المنتفعين في الدولة والحزب. في الحقيقة، إن وجود هذه الجماعات لا يفسر أي شيء في حد ذاته؛ لأن أيًا منها لا يتعلق بسورية: فمصر مبارك كان لديها أيضًا عدد كبير من السكان غير المسلمين (الأقباط) والإسلاميين، ومجتمع الأعمال الذي تعتز به السياسات الليبرالية الجديدة، والبيروقراطية الضخمة في الدولة والحزب الوطني الديمقراطي، مع قدرات رعاية كبيرة. ومع ذلك، لم يمنع أيٌّ من ذلك من إسقاط الرئيس العجوز، بعد ثمانية عشر يومًا من التظاهرات.
من أجل فهم خصوصية سورية، من المهم التمييز بين نوعين من “الدعم” الذي استفاد منه النظام. وتتألف الفئة الأولى من أولئك الذين يفضلون استمرار الأسد على البديل الذي كان من المحتمل أن يكون قد خرج من الانتخابات. وإذا افترضنا أن هناك انتخابات حرة قد عقدت في آذار/ مارس 2011؛ فإن قوة إسلامية سنّية ستكون في مكانٍ ما، بين أيديولوجية الإخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية التركي. وأولئك الذين يروعهم هذا الاحتمال هم، في معظمهم، أقليات دينية. وكما قلنا، فإن الوضع هو نفسه في مصر، لولا هذا الاختلاف الكبير في سورية أن واحدة من هذه الأقليات، وهم العلويون، تسيطر على الجهاز القمعي، وهناك تخوف الأقليات الدينية الأخرى (المسيحيين، الدروز، الإسماعيليين). (8)
هناك فئة أخرى من السوريين الذين لم يدعموا الثورة، أو على الأقل تباطؤوا للقيام بذلك، على الرغم من أنهم لم يخشوا الإسلاميين، لأنهم ربما كانوا يروجون لهم إذا كانوا قد اقترحوا القيام بذلك في سياق الانتخابات الديمقراطية. نحن نفكر هنا في المقام الأول في طبقة السوق، المصدر الرئيس لتمويل النخبة الدينية، ونشر رؤية تجاه العالم في كثير من الأحيان بشكل أقل ليبرالية من جماعة الإخوان المسلمين (9).
في آذار/ مارس 2011، لم تكن هذه البرجوازية السنية تعتقد بوجود البديل لعائلة الأسد، خاصة أن الأخيرة فُرضت عليها، في مقابل تدابير التحرر الاقتصادي الأخيرة، وتعرضها للابتزاز على نطاق واسع، فضلًا عن المنافسة غير العادلة للرأسماليين المرتبطين عضويًا بآل الأسد مثل ابن خال الأسد، رامي مخلوف، وشقيق حافظ السابق. ما يخشاه هؤلاء التجار السنة هو في الواقع شروط الانتقال المحتملة، أي الحرب الأهلية. وخلافًا للطبقات الشعبية ورؤيتها، شرط أن تكون معظم مقومات التحدي حقيقية، شعرت بأنها ستخسر الكثير من الامتيازات، في حال المشاركة في مغامرة يمكن التنبؤ بعواقبها، مع الأسف.
يمكن للمرء أن يعترض على الدور المهيمن للفئات المحرومة في الثورة السورية، الذي أعطى الأخيرة جانبًا من “الصراع الطبقي” الذي يُفسر أيضًا الولاء النسبي للبرجوازية للنظام. وهذا صحيح جزئيًا، ولكن طبيعة الجيش هي التي تشكل مرة أخرى المتغير المستقل للمعادلة. في مصر وتونس، جعل الجنرالات العملية الثورية “مقبولة” نسبيًا لدى الطبقات المهيمنة، من خلال تأطيرها، وبالتالي منع أي انحراف نحو ثورة اجتماعية. ولا يمكن للجيش السوري أن يقوم بدور من هذا القبيل، فهو غير قادر على اقتراح أي شيء سوى الدفاع عن موت عائلة الأسد.
باختصار: إن الفكرة التي من شأنها الإبقاء على النظام السوري، مدة أطول من نظرائه التونسي والمصري، هي أنه سوف يتمتع بقدر أكبر من الشرعية القائمة على التناقض. هذي هي الحال، على الأقل، بوجود من يفسر هذه “الشرعية” بأنها، بالنسبة إلى أولئك الذين يعترفون بها، تقوم على تفضيل النظام الحالي على أي نظام آخر، وعلى ذلك؛ فإن غياب النظام سيعني الحرب والفوضى. ومن وجهة النظر هذه، يمكن القول إن قدرة المقاومة للنظام السوري تتناسب عكسيًا مع شرعيتها، حيث إن هذه القدرة على المقاومة تعتمد -على وجه التحديد- على الطابع غير التمثيلي (وبالتالي غير المبرر) لقواتها المسلحة.
من أجل الحفاظ على هذا الشكل من الشرعية السلبية، لا يزال من الضروري الحفاظ على النظام الذي يقدم نفسه كميزة نسبية على الغوص في الفوضى. ولم يعد هذا واضحًا منذ شباط/ فبراير 2012، عندما بدأت القوات الموالية بتدمير مدن بأكملها بدءًا من حمص. فالأسد يفقد بالتالي “دعم البرجوازية، لا سيما في دمشق. (10)
المسألة الاجتماعية، مفتاح التحول
كما رأينا للتو، من الصعب فصل الجوانب الطائفية والاجتماعية – الاقتصادية عن السياسة السورية، وعواقب تدابير التحرير الاقتصادي التي نفذها النظام، خلال العقد الماضي، مثال آخر.
أما انتفاضة عام 2011، فتحولت إلى مسرح للاحتجاج الشديد، بعد غيابها منذ الفترة 1979-1982. هذه هي الحال في حماة، حيث تمكن المتظاهرون السلميون خلال الربيع والصيف من عام 2011 من التحرك، وأقام المتظاهرون السوريون “مدينتهم” (11)، على ساحة العاصي التي تستضيف التظاهرات، حتى تدخّل الجيش بوحشية في شهر آب/ أغسطس. وكانت تعد بقعة ساخنة أخرى للثورة، وقربها من بلدة صغيرة هي جسر الشغور، التي كانت مسرحًا لمذبحة سيئة السمعة في عام 1980. ويمكن تقديم ملاحظات مماثلة لحمص أو اللاذقية.
سيكون من الخطأ أن نرى في ثورة 2011 مجرد نسخة طبق الأصل، من ثورة سحقت في وقت سابق قبل ثلاثة عقود. ففي الواقع، التكوين الحالي ليس انعكاسًا لثورة 1979. فقد كانت حركة 1979-1982 حضرية في الأساس، وشهدت محاولة تلك الطبقة الوسطى الحضرية المحافظة الإطاحة بقوى اشتراكية لا تزال قائمة. في ذلك الوقت، كان تأثيرها في الريف قليلًا، كما استطاع النظام جزئيًا تجاوز الانقسام الطائفي بين السنة والعلويين، من خلال سياساته الاقتصادية، وبخاصة الإصلاح الزراعي (12).
وكان أبرز مثال على هذا النجاح بلا شك منطقة حوران (محافظة درعا)، سهل زراعي يقع إلى جنوب دمشق، على وجه الحصر وتقربه إلى السنة، بعد بروز العديد من الشخصيات الرسمية، وأشهرها نائب الرئيس فاروق الشرع، ونائب وزير الخارجية فيصل مقداد، ورئيس المخابرات السورية السابق في لبنان، رستم غزالة. لكن ذلك لم يمنع، ونحن نعلم، أن تتحول محافظة درعا إلى مهد الثورة في آذار/ مارس 2011. إن حقيقة أن معقل الموالين أصبح بؤرة احتجاج، توضح مدى عملية التحول السورية نتيجة للتحولات الاقتصادية الأخيرة. (13)
بدأ انفتاح الاقتصاد السوري على مضض في السبعينيات من القرن الماضي، وبجدية أكثر قليلًا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، انفتاح الاقتصاد السوري لم يتخذ حقًا شكل تحوّل نيوليبرالي إلا في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين (14). ومن هذا المنعطف، سنتحدث هنا عن عاقبتين أساسيتين: الأولى، ذات طابع سياسي، هي إضعاف حزب البعث، المروج الرئيس للنموذج الاشتراكي، باعتباره هيكل تأطير للسكان. لم تقنع الأيديولوجية البعثية أي شخص لفترة طويلة، فقد تحول الحزب إلى قناة بسيطة لإعادة توزيع الموارد. وقد أدى ضعف هذه القدرة على إعادة التوزيع، بسبب تهميش البعث من قبل العائلة الحاكمة، إلى ظهور شعور عميق بالضيق في صفوف الحزب. وفي حالة درعا، على وجه الخصوص، يعبّر عن هذا الشعور بالضيق قبل عام 2011. وفي عام 2007، يقول أحد قادة الحزب في المحافظة: “نحن لا ننظم أي نشاط في أي مجال، وليس لدينا الميزانية لمحاولة القيام بذلك. لا يمكننا حتى الوصول إلى الشباب، من خلال توفير الحد الأدنى من المرافق الرياضية. ومن الصعب بالفعل تنظيم الاجتماع الداخلي لمنطقتنا المحلية”. (15)
في هذا السياق، نحن لا نستغرب استقالة مئات الكوادر الحزبية في المحافظة، خلال الأسابيع الأولى من انتفاضة 2011، وهي ظاهرة ستلاحظ أيضًا بعد بضعة أشهر في محافظة إدلب. ولذلك، في كلتا الحالتين، لا نواجه انتفاضة “المجتمع المدني” ضد “الدولة الحزبية”، بل تحدي منطقة بكاملها للحكومة المركزية.
مرة أخرى، يظهر الصراع الاجتماعي الاقتصادي الطائفي في البعث، بعد أن كان أداةً تمكن النظام من خلالها من تجاوز الانقسام الحزبي الطائفي السني-العلوي، باعتباره إضعافًا له، ولكن الثورة كشفت استمرار الدولة العميقة، ليكون لجهاز الأمن العسكري الكلمة الفصل، وهو الذي تسيطر عليه طائفة الأسد وعائلته. وكان العقد الذي سبق الثورة قد رأى في الواقع أن أجهزة الاستخبارات تلعب دورًا متزايدًا في إدارة البلاد، مع ما يترتب على ذلك من تكثيف الممارسات والتجاوزات لدى الرجال الأقوياء في الجهاز الأمني. وهنا أيضًا، تعتبر درعا حالة مثالية نموذجية. عندما بدأت ثورة عام 2011، كان يقود أجهزة الأمن عاطف نجيب، (ابن خالة الرئيس) الذي تصرف بطريقة سيئة للغاية، أثناء شغله منصبه، مما أدى إلى الغضب في المحافظات الأخرى، وقد نجح في أن يكون شريكًا وبنسبة مئوية في صفقات الأراضي التي تخضع لسلطته الأمنية من هذه المنطقة الحدودية، وبموافقة الأجهزة الأمنية.
النتيجة الرئيسية الثانية، منذ إدخال الليبرالية الجديدة، أن الاقتصاد الكلي منذ ذلك الوقت أدى إلى اتساع الفجوة في الثروة بين مدينتي دمشق وحلب، من جهة، وبقية أنحاء البلاد، من ناحية أخرى. بينما في النظام الاشتراكي، فإن الدولة هي التي تقرر تخصيص الاستثمارات، ويمكن أن تصحح الاختلافات في التنمية بين المناطق. أما في النظام الليبرالي، يتم ترك تخصيص الاستثمارات لجهات خاصة، متصرفًا بموجب منطق اقتصادي بحت، وبالتالي التركيز على المناطق التي تحقق الاستثمارات فيها عائدات أعلى، وهذا ما ندعوه “المناطق الحضرية”. (16)
يفسر التحليل السابق لعلم الاجتماع أن مركز ثقل الاحتجاج، في ثورة 2011، لم يعد كما كان في عام 1979، لدى الطبقة الوسطى الحضرية، ولكن كان لدى الأكثر تواضعًا، أي الطبقات “الهامشية على أطراف المدن ومحيطها من السكان قرب المدن ومراكز المحافظات، التي هي الضواحي والأحياء الفقيرة من المدن الكبرى”. وهناك بالطبع استثناءات لهذه الملاحظة. ففي حمص وحماة، على سبيل المثال، سارع شباب الطبقة الوسطى إلى الانضمام إلى حركة الاحتجاج. وبالتالي يجب مراعاة الخصوصيات المحلية، مثل وجود فجوة اجتماعية-مكانية واضحة جدًا، بين الأحياء السنية والعلوية (حمص)، أو التمرد لأسباب تاريخية، وهي كراهية النظام (حماة). وفي المقابل، فإن محافظة حلب، ومعظمها من الريف والفقراء، ظلت هادئة نسبيًا حتى بداية عام 2012، لأسباب لا تزال بحاجة إلى توضيح كامل. ومن المؤكد أن الإدارة الأمنية للمحافظة تتميز في الحقيقة بأن الأجهزة الأمنية، في ظل نقص السكان العلويين بين السكان الأصليين في حلب، بعد آذار/ مارس 2011، جندت شبيحة تابعة لها، وقد تم تجنيدهم إلى حد كبير من العشائر والعائلات السنية المحلية مثل آل بري. وينطبق ذلك في ملاحظة مماثلة على منطقة دير الزور، التي كانت مع ذلك مسرحًا لتظاهرات حتى دخلها الجيش في آب/ أغسطس 2011.
من الثورة إلى الحرب الأهلية
تأسس (الجيش السوري الحر)، في تموز/ يوليو 2011، من قبل ضباط منشقين عن النظام، وهو يتكون في الواقع من عدد وافر من الفصائل التي أنشئت بشكل مستقل من قبل المنشقين والمتطوعين المدنيين، وكان السنة في معظمها. وقد شهد صيف عام 2012 محاولات جادة لجمع هذا السديم من المتمردين الثوار تحت قيادة موحدة، والمبادرات الأكثر نجاحًا كانت تشكيل المجلس العام العسكري الأعلى، بقيادة سليم إدريس، الذي تم إنشاؤه في كانون الأول/ ديسمبر 2012.
خلال الأشهر الأولى، بدا أن الصراع غير متوازن للغاية، مع بضعة آلاف من الرجال (من بينهم العديد من المدنيين غير المدربين)، غير مهيئين ليواجه النظام بهم المعارضةَ العسكرية المتضخمة، بمعدات عفا عليها الزمن. وفي عام 1982، تدخّل هذا الجيش أخيرًا لإنهاء التمرد الإسلامي، بالتكلفة التي نعرفها. ولكن بعد ثلاثين عامًا، كان هذا الجيش نفسه يواجه تحديًا بحجم مختلف، مما سيثبت أنه عاجز عن بسط كامل سيطرته.
فشل الجيش السوري عندما بدأ يواجه تمردًا في عام 2011، أسفرت عنه الطبيعة الريفية وشبه الريفية للحركة، وتنطوي عليه نتيجتان رئيسيتان: الأولى هي أن تجنيد الجنود السنة يأتي من العالم الريفي نفسه، ويُطلب من الجيش قمع الدوائر الاجتماعية التي يأتي منها العديد من أعضائها، أي الجنود أنفسهم. ففي 1979-1982، كانت المشكلة أقلّ حدة، بسبب الطابع الحضري للحركة المتمردة على النظام، كانت لا تزال الوحدات العسكرية السنية تعين النظام حتى إرسال الحملة القمعية الأكثر وحشية في وحدات تتألف من العلويين والبدو (17).
في عام 2011، ومع ذلك، يجب على الجيش التدخل في المناطق المعروف عنها أماكن تجنيد تاريخية. كما في حالة الرستن، والمعروف عن الرستن الواقعة إلى الشمال من حمص أنها بلدة العماد أول مصطفى طلاس، المقرب من حافظ الأسد ووزير دفاعه 1973-2003، والملازم عبد الرزاق طلاس، قريب الضابط السابق وأول المنشقين في الجيش في حزيران/ يونيو 2011.
طبيعة الترسيخ السوسيولوجي للثورة واضحة أيضًا، غير أن هذه الأخيرة لم تعد ترتكز في المدن الكبرى، كما كانت الحال قبل ثلاثين عامًا، ولكنه يعمل على مساحات واسعة، ويصعب الوصول إليه أحيانًا، مثل “الأكواخ” التي تم إنشاؤها في صيف عام 2011 في منطقة جبل الزاوية (محافظة إدلب). إن الحكم على تمرد من هذا النوع يتطلب عددًا أكبر بكثير من الناس في قمع العصابات الحضرية، وهي مشكلة تصبح مستعصية على الحل، عندما تفتقر قوى القمع إلى أرقام موثوقة للأسباب الطائفية والاجتماعية التي ذكرتها للتو.
على الرغم من مئات الآلاف من الرجال المسجلين على الورق، فإن جيش النظام عاجز عن شغل مواقعه بسرعة. حيث تبدأ المشكلات بمجرد نشر القوات، لهزيمة الاحتجاجات السلمية، وهي مهمة تتطلب بحكم تعريفها عددًا أقلّ من القوات للقضاء على المعارضين المسلحين. كما يشرح ناشط من دوما -وهي تكتل في الطرف الشمالي الشرقي من منطقة العاصمة الدمشقية- عن تطور علاقات التواطؤ سريعًا مع رجال الرتب العسكرية مع السكان، حيث يقول: “أرسلوا إلينا أولًا قوات النخبة، ثم المخابرات. وفي وقت لاحق، أرسلت تلك الرسائل لقمع النزاع في أماكن أخرى من البلاد. ثم رأينا وصول وحدات عادية من الجيش مسؤولة عن وضع نقاط التفتيش. وسرعان ما استطعنا أن نتواصل معهم؛ حيث كانوا يسمحون لنا بالمرور، عندما يعرفون جيدًا أننا نظمنا التظاهرات. (18)
يدعي ناشط في حماة أن ظاهرة مماثلة في خريف عام 2011 أدت إلى استبدال جميع الجنود الذين تم تعيينهم في نقاط التفتيش في المدينة من قبل “العلويين والشوايا” (19). وبغية تجنب الخيانات والانشقاق، اختار النظام بالتالي نشر قواته جزئيًا في المناطق المتنازع عليها، مما عرّض النواة الموالية للجيش لخطر فرط الانتشار.
من الواضح أن الظاهرة المبينة أعلاه ستزيد فقط مع عسكرة المعارضة، الأمر الذي يتطلب نشر أعداد متزايدة في الوحدات العسكرية القتالية، ومن ثم يزيد من احتمال الانشقاق. وفي كانون الثاني/ يناير 2012، واجه النظام وضعًا مثيرًا للقلق للغاية، لأن المتمردين يسيطرون، من بين أمور أخرى، على جزء كبير من محافظة إدلب، ومعظم حمص، ومناطق عديدة من حماة، ومدينة الزبداني الاستراتيجية على الحدود اللبنانية، وبعض ضواحي شرقي دمشق. وبغية عكس هذا الاتجاه، قررت القوى الموالية التغلب على مشكلات مقاتليها باستخدام قوة نيران أكبر بكثير من قوة المتمردين. فاستخدمت المدفعية الثقيلة، ثم العمل العسكري بالمداهمات، وللمرة الأولى، استخدمت تلك المدفعية ضد أحياء حمص التي تتمركز فيها المعارضة. وستشهد الأشهر التالية نشر طائرات هليكوبتر قتالية، ومنذ صيف 2012 تم إلقاء البراميل المتفجرة، وابتداء من كانون الأول/ ديسمبر، استخدم النظام صواريخ باليستية من طراز (سكود). غير أن هذا التصعيد لم يردع المتمردين في التقدم المستمر في جميع أنحاء البلاد، وخلق تدريجيًا فرقًا في المناطق النائية السنّية في اللاذقية، “عاصمة” العلويين، مع غالبية مناطق محافظة حلب ونصف العاصمة، خلال صيف عام 2012، مما أدى إلى قطع الطريق السريع بين دمشق وحلب إلى معرة النعمان، في تشرين الثاني/ نوفمبر، كما تسبب في شلل مطار دمشق الدولي في الشهر التالي.
استنتاج
الطبيعة الطائفية والعائلية للنظام البعثي السوري تفسر كلًا من أسباب الضعف والقوة: إنها تضعف، لأن فيها تقويض شرعيتها، فتمنع أي شكل من أشكال التحرر السياسي، وتولد التوترات التي تؤدي للاحتجاج بشكل متقطع وإدخال المتظاهرين في حلقات العنف الشديد (1979، 2011)، وهي تقوى بذات الوقت بالشكل الذي يضمن صلابة النظام، لأنه يسمح للأسد بتحقيق حلم كل ديكتاتور، وهذا هو المبدأ الذي استخدمه ضد المعارضين، أي العنف الاجتماعي دون حدود، وإذا كان هذا العنف قد تغلّب على الانتفاضة في عام 1979 فإنه فشل في مواجهتها عام 2011، لأنها هذه المرة كانت نتيجة التحرر الاقتصادي، وقد دفعت الطبقات الاجتماعية الدنيا، بعد تحييد الاشتراكية البعثية السابقة، إلى التحول والثورة ضد النظام.
الهوامش
(1) انظر أوبمير 1995. للحصول على تحديث يستند إلى مصدر غير منشور، راجع بنكوريش 2012.
(2) للاطلاع على تحليل اجتماعي – اقتصادي وديموغرافي ومكاني للثورة السورية، انظر فيغنال 2012. للاطلاع على منظور جغرافي، انظر بالونش 2011. للاطلاع على تحليل مفصل للغاية لمجريات الأحداث منذ مارس 2011، انظر التقارير المختلفة التي نشرت منذ ذلك الحين على الموقع الإلكتروني لمجموعة الأزمات الدولية. حول دور الإسلاميين، انظر بييريت 2013.
(3) حول دور روسيا، انظر فصل آن دي تينغوي.
(4) حول دور العامل الطائفي في أزمة 1979-1982، انظر سيورات 2012.
(5) عن أصول الهيمنة العلوية في الجيش السوري، انظر فان دام 2011.
(6) في سورية بين عامي 2003 و2010، غالبًا ما يصل للمسامع حديث الناس عن احتمال تغيير النظام من حيث الوقوع بشكل منتظم تقريبًا في المجال الدلالي للحرب.
(7) ربما تكون هناك سيناريوهات أقل مأساوية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ومع ذلك، خلافًا للأنظمة العربية المذكورة هنا، لا توجد دولة جنوب الصحراء الكبرى من بين الدول التي لديها أكبر الجيوش في العالم بالنسبة إلى حجم سكانها (في عام 2011، كان الجيش السوري حوالي 300،000 رجل نشط أكثر مثل العديد من الاحتياط لحوالي عشرين مليون نسمة).
(8) كانت نسبة المسيحيين، ثاني أكبر الأقلية الدينية بعد العلويين، حوالي 5% قبل الصراع الحاليC أورباج 2007، 189
(9) ، ص. 183 متر مربع . P ierret 2011
(10) على وجه الخصوص، يريد التوقيع على النجاح النسبي لإضرابات التسوق، نظمت في دمشق في مايو ويونيو عام 2012 أو في نفس الوقت، والشائعات أن الأسد كان قد التقى كبار التجار من العاصمة، واعدًا بـ “تكسير سوق الحميدية” على رؤوسهم.
(11) ميدان التحرير في القاهرة، حيث تجري الاحتجاجات الرئيسية ضد حسني مبارك خلال شتاء 2011.
(12) وعمل مرجعي على البعد الريفي للنظام البعثي السوري 1989 – 1998.
(13) على أصول الاحتجاج في درعا، انظر ليندرز وهايدمان 2012.
(14) حول مرحلة التحرير الاقتصادي، انظر أوناتي 2009، ص. 153-160. ولتحليل التحرر الاقتصادي بوصفه العامل التفسري الرئيسي لثورة 2011، انظر هينيبوش 2012.
(15) تم الاقتباس بواسطة إنترناشونال كريسيس غروب، 2011، ص. 12 – حول الشعور بالتهميش الذي عبر عنه بعض البعثيين خلال العقد الأول من القرن الماضي، انظر أيضًا أوناتي 2009، ص. 153-160.
(16) وقد أثرت ديناميكيات المحيط في المنطقة الساحلية، التي نشأت منها عائلة الأسد (بالوش 2006).
(17) انظر حنا 2007.
(18) مقابلة، كوبنهاغن، 12 أيلول/ سبتمبر 2011.
(19) مقابلة هاتفية، 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.