خالد العظم مؤسس سوريا الحديثة 1-5
خاص ألف
2018-12-01
كان الوقت قد تأخر قليلا في مساء في آخر شتاء وبداية ربيع 1903، عندما وصلت إلى جامع خالد بن الوليد في حمص سيدة دمشقية من أسرة عريقة، ودخلت مباشرة على الصحابي الجليل مستجيرة به وطالبة منه الشفاعة عند خالقها ليرزقها غلاما، بعد أن مات لها غلامان، على امتداد خمسة وعشرين عاما. وقد وعدت السيدة الصحابي بأن تسمي الغلام باسمه إن تحقق رجاؤها. ولا شك أنها بالغت في هز الشبك المحيط بضريح الصحابي كثيرا، لدرجة أن صاحب الضريح استجاب لها، واستجاب الله لهما، فما أن قفلت السيدة عائدة إلى بيتها في حي ساروجة بدمشق، واستقرت فيه مع زوجها بضعة أيام حتى شعرت بأعراض الحمل، وفي 6 تشرين الثاني، ولدت السيدة وكان الوليد غلاما. على أن ذلك كان منة ليس عليها فحسب، وإنما على السوريين جميعا. كانت السيدة هي حرم محمد فوزي باشا العظم، أما الوليد فكان خالد العظم.
لو طلب إلي أن ألخص تاريخ سورية في ثلاثة رجال لاخترت هاشم الأتاسي وفارس الخوري وخالد العظم. ولو طلب إلي اختصاره في رجل لترددت كثيرا في الاختيار، ولرسوت أخيرا على خالد العظم، مفضلا إياه على صاحبيه، لأن الأولين كانا مناضلين وطنيين عظيمين ساهما في استقلال البلاد سياسيا. أما العظم فكان الرجل الذي أسهم في استقلال سورية الاقتصادي وفي تنميتها وتقدمها، و،أهم من ذلك ربما، إعطائها هويته الوطنية الحقيقية.
كان خالد العظم مسكونا بسورية. وكان رجلا حاد الذهن، وفي أحيان كان عرافة، بيد أن ذكاءه كان عائدا إلى مستوى تفكيره، وهو ما كان شاتوبريان يدعوه بذكاء عظمة الروح. وهو مسكون بسورية كما كان شارل ديغول مسكونا بفرنسا وماو بالصين ونهرو بالهند. بيد أنه يختلف عن الجميع، بأنه لم يطبع البلد باسمه، كما فعل الآخرون.
وذلك ربما عائد إلى طبيعته. فهو، على عكس القادة الكبار، رجل انطوائي، خجول، شديد الحساسية، يميل إلى العزلة، وربما كان الأجدر به أن يكون شاعرا أو فيلسوفا أكثر منه سياسيا. وهو يذكر بتولستوي أكثر ما يذكر بلينين، وبأندريه مالرو أكثر من الجنرال ديغول، وبمحمد إقبال أكثر من محمد علي جناح.
حين بلغ سن التعليم، كان يخاف الذهاب إلى مدرسته وحيدا، فكان على المربية ليس أن تصحبه فقط، ولكن أن تجلس بجواره في الصف. أما المدرسة لابتدائية فلم يستطع تحملها لأنه وجد نفسه وحيدا بين أولاد لا يعرفهم، فانتابه وجل سببه على الأرجح عدم اعتياده مخالطة الناس. ذلك أن أباه كان يمنع عليه مخالطة من كان في سنه، ومنعه من ارتياد المقاهي والملاهي ودور السينما، فكان أن أمضى معظم وقته في بيته معزولا, برفقة معلم خاص، كان يغافله ويمضي للعب أو لتناول الشوكولاتة. ثم أحضر والده له مربية إفرنسية وأخرى سويسرية علمتاه الفرنسية والعلوم وآداب المجتمع.
وما أن بلغ السادسة عشرة حتى عرض عليه أبوه الزواج، فتزوج أول مرة من قريبة له، تكبره سنا. وحضر زفافه (التلبيسة) وحضر الزفاف الأمير فيصل والأمير زيد والحاكم العسكري رضا باشا الركابي وأركان الحكم آنذاك. وحين دخلت العروس بيته، وحاولت لصق العجينة بالجدار، وقعت العجينة على الأرض، ثم انقطع السلك الذي يحمل المصباح الكهربائي الكبير الذي كان ينير الحفلة، فتشائم الخلق. وربما كان تشاؤمهم محقا، فلم يمض شهران على الزفاف حتى مات والد العريس. أما العروس فماتت قبل أقل من سنة. وترك الفتى الخجول المدلل ليكمل طريقه الحياة وحيدا. وكان لذلك أثر سيئ على تركيبته النفسية حيث أمسى منكمشا على نفسه، شاكا – ونحن نستعير هنا عباراته بالحرف "في الجميع، وفي كل ما يقال، عديم الاعتماد على أحد، سيئ الظن بأقرب الناس وأخلصهم." وبينما كان يرى إلى البشر كيف يكونون صداقات بيسر وسهولة، كان هو يبقي علاقاته بمن يتعرف عليهم سطحية في غالب الأمر، فغلب عليه وصفه بالتكبر والعجرفة. في حين أن الأمر لم يكن أكثر من طبع خجول انعكس في كونه رجلا "غير أليف،" لا يحب رفع الكلفة بينه وبين الآخرين. وكان لا يحبذ أن يكون محط الأنظار ويستحي من احتلال مكان الصدارة في مجلس. وكثيرا ما كان يذهب إلى صالة السينما لمشاهدة فيلم، فيدخل بعد أن تطفأ الأنوار، لكي لا يميزه أحد.
ومرجع ذلك كله هو أبوه محمد فوزي باشا العظم، الذي كان واحدا من أهم وجهاء دمشق وبلاد الشام. فهو كان نائبا في مجلس المبعوثان العثماني لأكثر من مرة، كما كان وزيرا في حكومة الصدر الأعظم مختار باشا. وكان له الفضل في الضغط السياسي الذي دفع بالحكومة المركزية إلى طرد جمال باشا السفاح من ولاية الشام، وجر مياه عين الفيجة بقساطل الفولاذ إلى منازل دمشق. وبعد انسحاب العثمانيين، وقيام الحكم الوطني، نافس قائمة (رجال الغيب) بقيادة شكري القوتلي وجميل مردم التي كان يؤيدها الأمير فيصل والقائد رضا الركابي بقائمة وطنية وفاز في الانتخابات، ثم نافس الرئيس هاشم الأتاسي، زعيم سورية الأول، على رئاسة المؤتمر الوطني السوري، وفاز برئاسة المؤتمر حتى وفاته.
هذه الشخصية الكبيرة تركت ظلالها على الصبي الصغير والفتى الذي تزوج في السادسة عشرة وفقد أباه وزوجته في سنة واحدة. ولعل تربيته، صبيا، لعبت دورا في تعقيد شخصيته. فهو مفكر اقتصادي وزعيم سياسي، بيد أنه طالما افتقر إلى الحزم والشجاعة، ولم يعرف التهور في حياته، وغالبا ما فضل الحلول الدبلوماسية على الحلول الراديكالية. ونستطيع أن نقول إنه كان يفتقر إلى الشجاعة الشخصية والإقدام. وقعت أخته مرة في بحيرة قرب بيته في تركيا وكان يلعب معها ومع ابن خالة له. وعندما رآها تغوص في الماء ولم يعد يظهر لها أثر، تولاه الخوف فقفز هاربا إلى البيت. وكان من الممكن أن يفقها إلى الأبد لولا أن ابن خالته تملك جأشه، وظل واقفا قرب البحيرة حتى رآها تطفو فحاول إخراجها بخشبة ففشل، ثم ناداه ليساعده فعاد خالد من البيت، وتعاون الولدان على إنقاذ الصبية. غير أنه لم يقل الحقيقة لأخته وظل يمننها بأنه هو الذي أنقذ حياتها. و عندما اندلعت ثورة 1925، هرب إلى مصر، حيث أقام هناك أربعة أشهر، حتى خفت حدة الثورة، فرجع إلى دمشق. وعندما استلم العسكر مقادير الأمور في البلاد منذ الثلاثين من آذار سنة 1949، لم يواجههم بشكل مباشر، وإن عمل كل جهد مستطاع ليحد من تأثيرهم السلبي ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
على أنه كان شديد الذكاء والحساسية. وكان يتمتع بحس قيادي مرهف، تميز مبكرا مثلا بإصدار جريدة كان يحررها مع ثلاثة من صحبه في المدرسة الابتدائية، ويوزعها على أربعة أشخاص هم في الواقع آباء أعضاء هيئة التحرير. ولم يكتف خالد الصغير بكتابة القصص على الورقة مباشرة، بل كان يطبعها على الجيلاتين، بقياس 22 X 30 سم. وهو يصف ذلك فيقول:"وكنا نتقاضى بدل الاشتراك (حسب) مقدرة المشترك المالية، ونعنى بالتحرير والطبع ونقضي أوقات فراغنا في هذه المهنة، حتى يأتي يوم الإصدار الأسبوعي." وهكذا لم يقض خالد وقته يلعب كرة الشراب في الشارع، بل قاد فريقا من ثلاثة صحاب لإصدار مجلة.
08-أيار-2021
17-نيسان-2021 | |
10-نيسان-2021 | |
13-آذار-2021 | |
27-شباط-2021 | |
30-كانون الثاني-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |