“آه! يا له من لقاء حزين، لقاء الكتاب الكبار!”. كذلك كتب ميلان كونديرا تعليقًا على حادثة إرسال فرانز كافكا مخطوط روايته (المسخ) إلى مجلة، كان مسؤولُ تحريرها، روبير موزيل، على استعداد لنشرها، إذا قام المؤلف باختصارها. موقف مماثل، لكنه أشدّ عنفًا، تمثل في رفض أندريه جيد -وكان مستشارًا للنشر لدى منشورات المجلة الفرنسية الجديدة التي ستقوم عليها من بعد منشورات غاليمار- نشر الجزء الأول من رواية مارسيل بروست (البحث عن الزمن المفقود)، وإن اعتبر، وهو يعتذر بعد ذلك، أن رفضه كان “الأكثر مرارة في حياته”. لن تكون مثل هذه اللقاءات إذن حزينةً دومًا؛ إذ حين أصدر روبير موزيل (1880- 1942) الذي سيعتبر أحد كبار روائيي القرن العشرين، الجزء الأول من روايته الكبرى (الإنسان بلا خصائص)، كتب روائي كبير آخر عن هذه الرواية، بما يضفي بعض الغبطة على لقاءات أخرى بين كبار الكتاب: “مشروع شعري، لا مجال للشك في أهميته الحاسمة من أجل تطور الرواية الألمانية، وارتقائها، وثرائها الروحي. هذا الكتاب المتألق الذي يحافظ بأروع الطرق على التوازن الصعب بين المقالة والكوميديا الملحمية، لم يعد، ولله الحمد، رواية بالمعنى الجاري للكلمة: لم يعد لأنه، كما قال غوته، (كل ما هو كامل في نوعه، يسمو بهذا النوع، كي يصير شيئًا آخر، غير قابل للمقارنة). فسخريته، وذكاؤه، وروحانيته، تقع ضمن أكثر المجالات دينية، وطفولية، أي ضمن مجال الشعر. إنها أسلحة النقاء، والأصالة، والطبيعي ضد الغريب، والاضطراب، والتزييف، ضد كل ما أطلق عليه موزيل، باحتقار حالم، (الخصائص)”.
لم يكتب هذه الكلمات ناقد أدبي أو مؤرخ آداب، بل كتبها أحد كبار روائيي القرن العشرين، توماس مان، صاحب (الجبل السحري)، و(موت في فينيسيا)، حول مشروع أحدِ أهمّ مبدعات القرن العشرين الروائية، رواية معاصرهِ روبير موزيل (الرجل بلا خصائص) التي ترجمت إلى العربية في طبعتيْن ناقصتين بالنسبة إلى طبعاتها الألمانية المختلفة للرواية، ولا سيما بالنسبة التي طبعة (Rowohlt ) المعتمدة والتي كان قد أشرف عليها -بعناية فائقة- أدولف فريزيه (Adolf Frisé)، الأولى الصادرة في عام 2003 عن دار الجمل، بترجمة فاضل العزاوي، تحت عنوان (الرجل الذي لا خصال له) وتمثل ثلث الرواية تقريبًا، والثانية الصادرة في عام 2007 عن دار المدى، بترجمة محمد جديد، تحت عنوان (رجل بلا صفات) وتمثل خمْسيْ الرواية. أي أن نصَّ الرواية، المعتمد اليوم في اللغة الألمانية، والمتاح سواء لقارئها أو للقارئ في البلدان الأخرى، عبر ترجماته الكاملة إلى مختلف اللغات الأوروبية، لا يزال غير متاح بكامله لقارئ اللغة العربية.
سوى أن اللقاءات الحزينة بين الكتاب الكبار لا تحدث، غالبًا، إلا بسبب توقف مفاجئ في عمل البصيرة لدى بعضهم، يحول بينهم وبين رؤية ما ينطوي عليه عمل أدبي من إمكانات جديدة، أو ما يقترحه من آفاق غير مسبوقة، كما كان الأمر مع كافكا أو مع بروست. فحين نشر روبير موزيل الجزء الأول من روايته (الإنسان بلا خصائص)، سيفضل البعض، ممن لا يمكن مع ذلك الشك في ذائقتهم، ذكاء موزيل على فنه، في حين سينصحه آخرون أن يسير على هدي بروست في الكتابة الروائية! لم يكن هؤلاء وأولئك، وهم يكتبون ذلك، قادرين على رؤية الجدّة التي تخرج بهذه المبدعات عن المألوف، أو عن التقاليد شبه الراسخة في هذا الجنس الأدبي الذي كان يشهد، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، قفزة نوعية في تاريخه مع مارسيل بروست، ثم مع فرانز كافكا، وهرمان بروخ، وروبير موزيل.
على غرار رواية (البحث عن الزمن المفقود) التي لم يتمكن مارسيل بروست من إنجازها في حياته، كانت رواية (الرجل بلا خصائص) مشروع حياة أكثر منها مجرد رواية بين روايات أخرى. كان روبير موزيل وهو في الثالثة والعشرين من عمره، يضع تصوراته الأولى عن روايته هذه التي يبدو أنه كان آنئذ يخطط أن تكون سيرة حياته، واضعًا لها عنوان (الجاسوس) لكنه سرعان ما سيتخلى عنه حين سيعكف فعليًا، وقد بلغ الأربعين من عمره، بين عاميْ 1920 و 1926، على وضع مخططها، الذي سيعرضه في مقابلة له عام 1926، مشيرًا إلى أنه وضع لها عنوان (الأخت التوأم). ولسوف يستمر عشرين عامًا في الكتابة فيها، إلى أن داهمه الموت على حين غرّة يوم 15 نيسان/ أبريل عام 1942 وهو منكبٌّ على كتابتها، من دون أن ينجزها. لم يكن قد نشر قبل وفاته منها إلا ثلثي الفصول التي ستتضمنها طبعة أدولف فريزيه. إذ إن الفصول الأخرى، التي ستكون حصيلة جهود زوجته أو أصدقائه، والتي انصبت على دراسة مخطوطات غير نهائية للفصول القادمة من الرواية وفق خطتها الأساس، والتي تركها موزيل وراءه، سمحت في النهاية، مع بعض الافتراضات، بضروب ترميم تتمات افتراضية للرواية في الطبعة المشار إليها، أي تلك التي اعتمدتها طبعة الترجمة الفرنسية الصادرة في عام 1956 في حوالي 1842 صفحة.
لكن الذين أدركوا أهميتها في حياة مؤلفها، أي قبل تمامها، كانوا من الروائيين أساسًا، على غرار توماس مان وهرمان بلوخ، ثم من جاء بعدهم من كبار روائيي أوروبا الوسطى، كما يحلو لميلان كونديرا أن يميزهم، مثل غومبروفيتش، بل وكونديرا نفسه. فقد اكتشفوا ما كانت تمثله هذه الرواية، على الرغم من عدم اكتمالها، بوصفها مشروعًا روائيًّا يجدِّد الكتابة الروائية الغربية. أما نقاد الأدب المعاصرين لهم، فلم ينتبهوا إلى ما كانت تنطوي عليه رواية موزيل، بل لم يروا فيه روائيًا حقيقيًّا. منهم الناقد الأدبي والمترجم الألماني، والتر بينيامين، الذي حملته (الإنسان بلا خصائص) على التعبير عن إعجابه بذكاء مؤلفها لا بفنه! في حين وجد الناقد الأميركي إدوار روديتي أن شخصيات موزيل في هذه الرواية خالية من الحياة؛ وبلغ به الأمر أن اقترح على مؤلفها السير على هدي مارسيل بروست، حين أجرى على سبيل المثال مقارنة بين إحدى شخصيات بروست، مدام دو فيردوران، وبين شخصية رواية موزيل: ديوتيم، على صعيد الواقعية السيكولوجية.
كان توماس مان، إذن، أول من رحّبَ برواية موزيل، قبل اكتمالها، بعدَ أن أدرك ببصيرته -كروائي- ما كانت تنطوي عليه من جدّة لم يلمحها أو يدركها معاصروهما من نقاد الأدب أو مؤرخيه. وسيليه بالطبع معاصر آخر، هو هرمان بروخ، صاحب رواية (السائرون نيامًا) التي استقصت، هي الأخرى، إمكانات الفن الروائي فيما وراء ما عرف بالواقعية السيكولوجية التي انطوت على قوانين بدت للبعض شبه دائمة، وبدا أن نقاد موزيل ورفاقه يتوقفون عندها، وقد أطلق عليها ميلان كونديرا القواعد الثلاث: “1) يجب إعطاء أكبر قدر من المعلومات عن الشخصية: عن مظهرها الخارجي، وعن طريقتها في الكلام وفي السلوك؛ 2) يجب عرض ماضي الشخصية، لأننا سنجد فيه دوافع سلوكها كلها في الحاضر؛ 3) يجب أن يكون للشخصية استقلالها التام، أي أن على المؤلف أن يختفي وأن تختفي آراؤه الشخصية كي لا يزعج القارئ الذي يريد الاستسلام للوهم واعتبار التخييل واقعًا”.
لكن موزيل أخلَّ بهذه القواعد مثلما أخلَّ بها، كلٌّ على طريقته، عددٌ من كبار معاصريه في بداية القرن الماضي. يرى كونديرا أن أكبر روائيي المرحلة ما بعد البروستية، وخصوصًا كافكا وموزيل وبروخ وغومبروفيتش، أو من كان من جيله، مثل كارلوس فوينتيس، كانوا “شديدي الحساسية لجمالية الرواية، شبه المنسيّة، التي سبقت القرن التاسع عشر: فقد أدمجوا التأمل المقالي في فن الرواية؛ وجعلوا التأليف أكثر حرية؛ واستعادوا حرية الاستطراد؛ ونفخوا في الرواية روح اللا جدية واللعب؛ وتخلوا عن عقائد الواقعية السيكولوجية بابتكارهم الشخصيات دون أن يزعموا منافسة السجل المدني (على طريقة بلزاك)؛ وبصورة خاصة: فقد عارضوا واجب الإيحاء للقارئ بوهم الواقعي: الواجبُ الذي حَكمَ بصورة مطلقة زمن الرواية الثاني برمّته”.
هذه الحساسية هي أيضًا حساسية كونديرا التي تجلت في مبدعه الروائي. وهي –أيضًا- ما يفسر كيف أنَّه في ثلاثيته حول الرواية (فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار) يكاد لا يتوقف في معظم فصولها عن الإشارة إلى روبير موزيل، وإلى روايته (الإنسان بلا خصائص) تارة يقارنها مع رواية توماس مان، (الجبل السحري) التي حول فيها بعض السنوات قبل حرب 1914 إلى عيد رائع لوداع القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كان فيه موزيل يسبر الأوضاع البشرية في الحقبة التي ستلي، أي هذه المرحلة النهائية في الأزمنة الحديثة التي بدأت في عام 1914 وهي -فيما يبدو- في طريقها إلى أن تختتم اليوم [ستينيات القرن الماضي] تحت أعيننا؛ وتارة أخرى يشير إلى ما أدخله موزيل، ومعه بروخ أيضًا، في جمالية الرواية الحديثة. إذ لا علاقة للتأمل في رواية كل منهما مع تأمل العالم أو الفيلسوف، بل ربما يكاد يكون، كما يرى، لا فلسفيًا بل معادٍ للفلسفة، أي مستقلّ بعنف عن كل نسق أفكار مسبق التصميم. ذلك أن الرواية -كما يقول الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو في روايته (الملاك المُبيد) 1974- “هي ما تبقى لنا في عالم هجرته الفلسفة […] بوصفها آخر مرقب يسعنا منه أن نحتضن الحياة الإنسانية بوصفها كلًّا”.
تلك هي فرادة الرواية التي فكَّرَها موزيل وبروخ في النصف الأول من القرن الماضي: تلك التي لا يسع سواها قولَ ما تقوله.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...