شهد صعود الفكر الديمقراطي طوال تاريخ البشرية العديد من المحطات، حيث بدأ من أكثر صور الحكم الديمقراطي تخلفاً وصولاً إلى أرقى أشكاله كما هو الحال في وقتنا الراهن. ولعلّ أهم مرحلة مرّت بها الديمقراطية هي إبان عصر اليونان وحاضرتهم الذائعة الصيت أثينا، فقد كانت نقطة الانطلاق في بداية مسيرة الديمقراطية. حتى تحولت الديمقراطية لسمةٍ من سمات الحكم اليوناني القديم، على الرغم من سيطرة بعض الطغاة بين الفترة والفترة على مقاليد الحكم في أثينا ومدن اليونان الأخرى. ولكن الجماهير اليونانية كانت دائماً تقف في وجه الطغاة لترجّح الكفة لصالح الديمقراطية من جديد.
وقد كانت هذه الديمقراطية اليونانية الفتية تعاني الكثير من التحديات منها ما يتعلق بتوفر الإطار الفكري الفلسفي، والذي مثّله العديد من الفلاسفة اليونان كأرسطو أفلاطون وسقراط وصولون وأبيقراط ...إلخ. بيّد أنّ هذا الفكر الفلسفي كان يستند أساساً على فهم الفلاسفة اليونان للحالة الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العصر، إلى جانب أهمية نوعية العلاقات القائمة بين أنظمة الحكم المختلفة الأشكال والمواطنين في تحديد ملامح هذا الفكر الفلسفي، كما لم تكن هناك معارف وفلسفات تراكمية هائلة كما هو الحال عليه في عصرنا هذا. ومنها ما يتعلق بالأجواء السياسية المتقلبة وصعود الحضارات الجديدة واضمحلال الحضارات التي كانت قائمة، ومنها ما يتعلق أيضاً بعوامل الهجرة والانتقال والحروب التي كانت سمة العصور القديمة، ما دفع بالحضارات إلى تدمير الحضارات والثقافات التي تغزوها، وعدم الوقوف على مستوى المعرفة والثقافة التي بلغتها الحضارة المستهدفة، وحتى التفكير في الاستفادة من هذه الحضارة وما وصلت إليه من تقدم ورقي فكرياً وعمرانياً واجتماعياً وحتى فيما يتعلق بطبيعة أنظمة الحكم، ما أدّى هذا إلى فجوات ثقافية ومعرفية كبيرة في تاريخ البشرية عموماً.
لقد كانت حادثة عائلة بيزستراتوس في القرن السادس قبل الميلاد في اليونان، أيام الفيلسوف والمشرع الشهيّر صولون، من أكثر الحوادث ذات الدلالة على عمق الفجوة بين الطغيان والديمقراطية. فقد كان بيزستراتوس يدّعي بأنّه يقود حركة الفلاحين والعمال في الأرياف، وهو بالأساس ينحدر من عائلة ارستقراطية، وذلك لمواجهة الحركات والأحزاب الارستقراطية، مثل حزب الشاطئ، وقوامه التجّار وأصحاب السفن، وحزب السهل وقوامه أصحاب الأراضي من الأغنياء. وقد أطلق بيزستراتوس على حزبه تسمية "حزب الجبل"، وطرح نفسه لجموع العامة على أنّه سيقوم بتوزيع الأراضي على الفلاحين وسيشرك العمال في الاستفادة من أرباح أرباب العمل. وفي إحدى اجتماعات الجمعية العامة لمدينة أثينا جاء بيزستراتوس إلى الجمعية، وكشف عن جرحٍ في خاصرته، أدّعى بأنّه نتيجة تعرضه لمحاولة اغتيال، فطلب من الجمعية أن تخصص له عدداً من الحرس لحمايته، ولكن صولون المشرّع رفض طلبه لمعرفته بمكائد بيزستراتوس ودسائسه، ولكن الجمعية لم تنصت إلى صولون وبالفعل أمرت بخمسين رجلاً من الحرس لحماية بيزستراتوس، وبعد فترة قصيرة استطاع بيزستراتوس أنّ يجمع حوله أربعمائة من الحرس والتابعين، واقتحم معهم الأكروبول وعيّن نفسه حاكماً أوحداً على أثنيا. وما كان من الأثينيّين إلاّ أنّ هربوا وخاصة الأغنياء والارستقراطين، لأنّهم وجدوا بيزستراتوس قائد عالم العبيد يتقلّد زمام السلطة، فاعتبروا أنفسهم مهددين، لذلك توزّعوا على المقاطعات المجاورة، وهرب صولون من أثينا. بينما بيزستراتوس لم يكن ينوي الحكم لصالح الفلاحين والعمال، وإنّما كان ينوي إنشاء حكم فردي شمولي وبمساعدة من طبقة الأغنياء والتّجار وأصحاب السفن أنفسهم. لكن بعد خمس سنوات من حكم بيزستراتوس استطاع شعب أثينا من دحره وإجباره على مغادرة أثينا.
بعد هذه الحادثة أقرّت الجمعية العامة قانوناً اسمه قانون "رجل المحار"، يتمحور حول إمكانية نفي أيّ مواطن أثيني لخارج أثينا لمدة عشرة سنوات، إذا وجدوا بأنّ له تأثيراً على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو العسكري، وذلك لحماية النظام الديمقراطي من سطوة الطغاة الطامعين في مقاليد الحكم والسلطة.
لم تقف محاولة الأثينيين عند حدود هذه الممارسة السلبية لرؤيتهم الديمقراطية وحماية أنفسهم من الطغاة، وإنما ارتضت ضرباً من الديمقراطية هي "الديمقراطية المباشرة"، وكانت أول محاولة في التاريخ لإقامة حكم يرتضيه العقل ويقبله، ويحترم قيم الإنسان وكرامته. وهي تجربةً ظلّت قروناً طويلة تصحح نفسها، ويضيف إليها المفكرون والفلاسفة حتى وصلت إلى صورتها الراهنة في الفكر الغربي.
لقد كانت التجربة الديمقراطية عند اليونان غايةً في البساطة، فمدينة أثينا تجتمع بشعبها كله، لا هيئة منتخبة ولا طائفة أو طبقة، إنما هناك جمعية شعبية تضم كل من تتوافر فيهم الشروط، وهي أنّ يكون مواطناً (لا مقيماً) أثينياً، من أبوين أثينيين، حراً، ذكراً، يبلغ العشرين من عمره، وهي شروط فصلها أرسطو في كتاب السياسة.
تتولى هذه الجمعية الشعبية أو الوطنية سلطات البرلمانات الحديثة، لا سيّما السلطة التشريعية، ومراقبة أعمال الحكومة، أمّا رجال الدولة أنفسهم وغيرهم ممن يشغلون الوظائف العامة، كالموظفين العموميين والقضاة وقادة الجيش والضباط ... إلخ، فيُختارون بالانتخاب حيث يتم انتخاب ضعف العدد المطلوب، ثم تُجرى القرعة بينهم لاختيار العدد المطلوب. ويعد دستور صولون الذي عطّله الطاغية بيزستراتوس نقطة البداية في مراحل التطور الديمقراطي في أثينا، إلى أنّ بلغت آخر وأكمل تطور لها بعد الإصلاحات والتجديدات التشريعية التي قام بها كلستين عام 507 قبل الميلاد.
إن هذه الديمقراطية المباشرة أخطأت في فهم المقولات السياسية للديمقراطية، فإذا كانت الديمقراطية تعني – حتى لغويا – حكم الشعب، فإن أثينا لم تقف على المدلول الحقيقي لمصطلح الشعب، واحتاج الأمر إلى قرون طويلة، لكي يتضح هذا المعنى ويستقر. وإذا كان جناحا الديمقراطية هما الحرية والمساواة، فإن الديمقراطية الأثينية أخطأت فهمهما معاً.
كما أن مفهوم الشعب لم يكن واضحاً أو محدداً تحديداً وافياً في أثينا، وذلك جليّ من الفئات التي استبعدت منه: الأجانب، الأفارقة، النساء. فاقتصرت الحقوق السياسية على المواطن الأثيني الذكر الحر! وهذا الفهم القاصر للشعب هو الذي ظلّ سائداً أيام الديمقراطية الرومانية أيضاً.
إن فقهاء القانون يفرّقون بين مصطلح "الشعب" بمدلوله الاجتماعي الذي ينصرف إلى جميع الأفراد الذين ينتمون إلى جنسية الدولة، والشعب بمدلوله السياسي الذي لا يمتد إلى كل هؤلاء الأفراد، وإنّما يقتصر على من لهم حقُّ مباشرة الحقوق السياسية، وإذا كانت الديمقراطية تعني أنّ الشّعب هو صاحب السلطة ومصدرها، فإنّ ذلك ينصرف إلى الشّعب بمدلوله السياسي، أو من لهم حق الانتخاب أو هيئة الناخبيّن؟ أو ما سُمّيَّ فيما بعد باسم "مبدأ الاقتراع العام"، وعلى ذلك فكلما اقترب مصطلح الشعب بمدلوله السياسي من مفهوم الشعب في حقيقته الاجتماعية كان أكثر تعبيراً عن المبدأ الديمقراطي.
لهذا كافحت البشرية طويلاً في سبيل الوصول إلى مبدأ الاقتراع العام، الذي يجعل حق التصويت والاشتراك في الانتخابات، حقا لكل مواطن راشد، بغض النظر عن مستواه العلمي، أو انتمائه الطبقي ...إلخ، بحيث لا يشترط في الناخب سوى بلوغ سن الرشد والأهلية فقط، ولا تكون قد صدرت ضده أحكام مخلّة بالشرف ... إلخ.
ومعنى ذلك أنّ البشرية جاهدت طويلاً في سبيل إلغاء الرّق وتحريمه، وكانت هناك مراحل طويلة، وصعوبات كبيرة في سبيل الوصول إلى هذه الغاية وتحقيق هذا المبدأ الإنساني الديمقراطي في الوقت نفسه.
ثم كافحت البشرية، ولا تزال، في سبيل تحرير المرأة وإعطائها حقوقها السياسية، و كما قيل بحق: " النساء آخر الرقيق في عالم البيض"، وتريد البشرية تحقيق شعار: "لا تمييّز: لا في اللون، ولا في الجنس". إذ لا يزال وضع المرأة في الكثير من دول العالم، على نحو ما كانت عليه عند اليونان.
لقد كانت الديمقراطية اليونانية والرومانية من بعدها ذات طابع خاص، يُبعدها عن الديمقراطية الحقيقية ويُدنيّها من النظام الأرستقراطي. وذلك لأنّ الذين كانوا يسهمون في الحياة السياسية وحكم المدينة هم أقلية ضئيلة من السكان لهم حقّ التّمتع بصفة "المواطن". أمّا الرقيق الذين يقومون بأعباء الحياة الاقتصادية، وكذلك الأجانب الذين يقيمون على أرض الوطن لفترات طويلة مهما بلغت سنوات إقامتهم، وكذلك النساء ...إلخ، فلم يكن لهم نصيبٌ في حُكم المدينة، بلّ كان مُحرماً عليهم الاشتراك في الحياة السياسية. ويتضح من ذلك أنّ هذه الديمقراطية لم تكن إلا شكلاً فقط، أو هي بداية بسيطة جداً للفكرة التي سوف تتطور وتترسّخ في أذهان الذين عانوا طويلاً من حكم الفرد، وذاقوا العذاب من الطغاة...
المراجع
إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية، عالم المعرفة، 1994، ط2.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...