من ثوابت الثورة إلى أولويات قوى الاحتلال
بدر الدين عرودكي
2019-03-02
منذ تقديمها على سواها من قبل روسيا، وتسويقها على أنها أولى خطوات الحل السياسي، خلافًا لما اعتمده بيان جنيف وقرارا مجلس الأمن 2218 و2254، باتت اللجنة الدستورية أولوية المهتمين بالحدث السوري، ومن بينهم بوجه خاص رئيس وأعضاء الهيئة العليا للتفاوض. ومع الوصول، أخيرًا، بعد أكثر من سنة ونصف من الجدال حولها، إلى اعتماد الأسماء الخمسين التي قدمها لتمثيله كلٌّ من أطراف مكوناتها الثلاثة: النظام الأسدي، والهيئة العليا للتفاوض في صيغتها الثانية، والأمم المتحدة؛ انطلقت النقاشات مجدَّدًا حولها وبصددها، ولا سيما على شبكات التواصل الاجتماعي، واتخذت أشكالًا متعددة، تبدأ بإنكار كل صلاحية شخصية لوجود بعض أو كل الأسماء بين أعضائها، ولا تنتهي بتخوين البعض أو الجميع بسبب قبول اختيارهم فيها.
لا بد من الاعتراف بأن روسيا قد نجحت حتى الآن، بالتعاون مع إيران وتركيا وبالتواطؤ مع الولايات المتحدة الأميركية، في ليّ ذراع القرارات الأممية التي سبق أن وقّعت عليها، على الأقل على مستوى تنظيم الأولويات الإجرائية، تمهيدًا لتطبيق حلٍّ سياسي كانت منذ البداية تستهدف عبر تفسيرها لها إعادة صوغه ومن ثم فرضه. وقد باشرت في التمهيد له على الأرض عمليًا ،منذ أن قررت دعم المعارك الدبلوماسية، التي كانت تخوضها لصالح النظام الأسدي على الصعيد الدولي، بالتواجد عسكريًا على أرض وفي سماء سورية، ابتداء من 30 أيلول/ سبتمبر 2015، سعيًا لتثبيت توصيفٍ آخر للثورة السورية، قوامه محاربة الإرهاب والإرهابيين، ومن ثمَّ إعادة تأهيل النظام الأسدي الذي ثار عليه الشعب السوري وفرْضِ قبوله على الجميع. هكذا، وبالتدريج، انتقل خلال السنوات الأربع الأخيرة مركز الثقل في الشأن السوري من مقرات الأمم المتحدة بجنيف ونيويورك وفيينا إلى أستانا وسوتشي في روسيا الاتحادية، ولم يبق إلا الاعتراف الدولي، بعد إنجاز ما يشبه الاعتراف الإقليمي، رسميًا، بمرجعيتهما في تحديد وتأويل مختلف بنود الحلِّ السياسي، فضلًا عن ترتيب نظام أولوياتها ضمنه.
جرى ذلك كله على مرأى ومسمع من الجميع. كان من المفهوم، بعد أن لجأ إليها مستنجدًا، أن يقبل النظام الأسدي بكل ما كانت روسيا تمليه عليه من خيارات كانت تؤدي في نظره إلى إنقاذه وترميمه وإعادة تأهيله إقليميًا ودوليًا. كما كان من الطبيعي، في ظل التواطؤ الروسي الأميركي، أن تتغاضى الأمم المتحدة عن المحاولات الروسية وأن تتلافى نقدها. أما ما لم يكن مفهومًا ولا مقبولًا، فقد كان انسياق المعارضة، التي تصدت لتمثيل الشعب السوري ومطالبه، تدريجيًا، إلى القبول عمليًا، هي الأخرى، بالإملاءات الروسية عبر الدول العربية “الداعمة” لها. والواقع أن هذا الانسياق، الذي أدّى إلى القبول، لم يتمّ دفعة واحدة.
فقد عقدت المنظمات الأساس للمعارضة السورية مؤتمرها الأول بالرياض في العاشر من كانون الأول 2015، من أجل تأليف الهيئة العليا للمفاوضات التي كانت الأمم المتحدة تسعى لإجرائها بين النظام السوري وممثلي المعارضة، بناء على القرار الذي كان قيد الإعداد والذي سيصدر عن مجلس الأمن تحت رقم 2254 بتاريخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015. وأعلنت هذه الهيئة غداة تأليفها تمسكها من جهة بثوابت الثورة السورية، أي وحدة سورية، وأن لا مكان لبشار الأسد ورموز نظامه، خلال العملية الانتقالية التي يجب أن تؤدي إلى إقامة نظام جديد يمثل كافة أطياف الشعب السوري؛ ومن جهة أخرى، في ما يخص الإطار التنفيذي، فقد اعتمدت الحلَّ السياسي خيارًا استراتيجيًا، وفق ما نص عليه بيان جنيف وقرارا مجلس الأمن 2118 و2254، يقوم على “إنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية”. على أن ثمة، في بيان جنيف وقراري مجلس الأمن، تفصيل شديد الأهمية: فهو إذ “يؤكد على أن الحل الدائم الوحيد للأزمة الراهنة في سورية يقوم فقط من خلال عملية سياسية شاملة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، ضمن هدف التطبيق الكامل لبيان جنيف بتاريخ 30 حزيران/ يونيو 2012، كما صادق عليه القرار رقم 2118 لعام 2013، المتضمن قيام جسم انتقالي شامل، بصلاحيات تنفيذية كاملة” إلا أن تشكيل هذا الجسم لا يمكن أن يتم إلا على أساس “التوافق المتبادل (أي بين النظام والمعارضة) بالتوازي مع ضمان استمرار عمل المؤسسات الحكومية”. شأن كل العبارات الدبلوماسية، هناك مساحات واسعة للتفسير وللتأويل تسمح للأطراف الفاعلة، أي روسيا هنا تحديدًا، بتحديد من هي “القيادة السورية” ومن هو “الشعب السوري”، وهو ما أكدته خطوات روسيا التالية على توقيعها على هذه القرارات؛ فالقيادة السورية المعنية هنا، في نظرها، هي المتمثلة في النظام الأسدي تحديدًا، الذي لا بد من موافقته على طبيعة الحل السياسي، ومضمونه، وخطواته، وترتيب أولوياته.
هل يعني ذلك أن قرارات مجلس الأمن بصدد سورية كانت ملغومة منذ البداية؟ إذ من كان بوسعه أن يصدق أن الأمم المتحدة التي استمرت في إضفاء الشرعية على النظام الأسدي يمكن أن تدعو إلى هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية “لا مكان [فيها] لبشار الأسد ولنظامه”؟ ثمَّ، من كان بوسعه أن يصدق أن بشار الأسد الذي رفض التفاوض، قبل أن تراق نقطة دم واحدة من السوريين، سوف يقبله اليوم بكل أريحية بعد أن كان وراء مئات ألوف القتلى والجرحى وملايين المهجرين والنازحين؟
كان لا بد والحالة هذه -بين أسباب عديدة أخرى- من أن يُعادَ النظر في تشكيل الهيئة العليا للتفاوض، كي تنسجم مع الواقع السياسي الذي بدأت فيه عملية القبول ببقاء بشار الأسد “ولو إلى حين”! هكذا عقد مؤتمر الرياض الثاني، بعد يومين من استقالة منسق الهيئة العليا للمفاوضات وعشرة من أعضائها، وبعد نشر تصريح نقل عن لسان وزير الخارجية السعودي -قيل يومها إنه لم يكن دقيقًا في النقل- مفاده “أن الرياض تريد خروج بشار الأسد من السلطة اليوم، ولكن الوقائع تؤكد أن لم يعد ممكنًا خروجه في بداية المرحلة الانتقالية”. وعلى هذا النحو، تمَّ الانتقال من مؤتمر الرياض الأول 2015 من قرار صارم: “لا مكان لبشار الأسد ونظامه في العملية الانتقالية” إلى مؤتمر الرياض الثاني 2017، أي إلى موقف قابل للأخذ والرد: “التأكيد على ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد وأركان نظامه مع بداية المرحلة الانتقالية”.
لكن هذا “التأكيد على ضرورة رحيل” رئيس وأركان النظام الأسدي، سوف يبقى مجرد أمنيات، وسيتلاشى في الواقع بعد أن بدأت إقرارات القبول إقليميًا ودوليًا تتوالى حول بقاء الأسد ونظامه خلال المرحلة الانتقالية وربما بعدها. ذلك ما أدّى إلى التغاضي عن تشكيل “الهيئة الانتقالية” كأولوية لصالح القبول بـ”تشكيل اللجنة الدستورية” الذي كان يفترض أن يكون إحدى أواخر المهام التنفيذية الأساس للهيئة الانتقالية كاملة الصلاحية التي لا مكان فيها لبشار الأسد ولأركان نظامه فيها.
لجنة دستورية إذن، بدلًا من الهيئة الانتقالية، تمكنت الدول الضامنة (روسيا وإيران وتركيا) من تشكيلها بعد سنة ونصف من استمرار روسيا في زرق إرادتها في عروق القرارات الأممية ونجاحها الظاهر -على الأقل حتى الآن- في تسويق وفرض فكرة استمرار بشار الأسد ونظامه في الحكم التي ألغت بالضرورة تشكيل الهيئة الانتقالية كاملة الصلاحية. كان مجرد تشكيل هذه اللجنة بمكوناتها ومرجعياتها يعني أن الانزلاق، الذي تلا الانسياق وتمَّ وفق إرادة القوى المهيمنة على الساحة السورية، كان تعبيرًا صريحًا ومباشرًا عن التنازل عن ثوابت الثورة السورية التي تبناها بيان جنيف ومجلس الأمن في قراريْه المشار إليهما.
لا شك في أن السؤال، الذي قد يبدو مُفحِمًا، سيُطرَح الآن مجدَّدًا: ماذا كان بوسع ممثلي المعارضة وقوى الثورة أن يفعلوا غير ما فعلوه، تحت وطأة إرادات القوى الكبرى والإقليمية التي هيمنت على مصير سورية شكلًا وموضوعًا بإرادة وسعي رأس النظام الحاكم مقابل البقاء على كرسيِّه؟
ولكن، أليس الأصحّ أن يُطرح السؤال في صيغة أخرى: ما الذي فعله ممثلو المعارضة وقوى الثورة كي لا يجدوا مناصًا من الانسياق وراء ثم الانزلاق وفق إرادات القوى المهيمنة والفاعلة في سورية؟
الآن، أمام ما يمكن أن يطلق عليه من دون أي مبالغة: انهيار آمال أجيال كاملة في بلوغ ما تطلعت إليه يومًا: استعادة كرامتها وحريتها، والخراب الكارثي المعمَّم اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعمرانيًا، ما الذي كان بوسع هؤلاء الذين تصدوا لتمثيل قوى الثورة والمعارضة أن يفعلوا بدلًا من الانزلاق إلى القبول بأولوية اللجنة الدستورية، تحت هيمنة الراعي الروسي والإيراني والتركي وبحضور مستبد ملطخ اليديْن بدماء مئات آلاف السوريين؟
كان يوسف العظمة يدرك تمام الإدراك أنه لن يكون بوسعه مواجهة جيش كامل العدة والعتاد، مع قلة من الرجال الذين لم يكونوا يملكون من السلاح والعتاد إلا أقل القليل. وكان يعرف أنه ذاهب معهم إلى الموت الذي سيكون نصره المشرف أمام عدوٍّ محتل.
لم يكن مع ذلك مطلوبًا ممن تصدوا لقيادة قوى الثورة والمعارضة الذهاب إلى الموت، بل مجرد رفض الذهاب باسم الشعب السوري الثائر إلى مفاوضات تجري تحت رعاية وهيمنة قوى احتلت سورية وعزمت على أن تقرر مصير مستقبلها.