قلتُ لأبي في محطة القطار وهو يشعل سيجارتين لي وله، ابتسم ونفث دخانه عاليًا كقطارٍ هرم، حدث هذا منذ سنوات.. ثمّة ذكريات لها في العقل مكان واسع، مع أن مساحتها -حينما حدثت- لا تتجاوز الدقائق، لكنها لا تزول.
كدنا أن نعانق بعضنا أنا وأبي مرتين، في الحياة وفي السينما، الفرصة الأولى كانت في محطة للقطار في شمال سورية، الفرصة الثانية كانت في فيلمٍ إيطالي، يشبهنا أو نشبهه. فيلم (باريا) لـ جيوسبي تورنتوري.
أبي في حياته القصيرة، عانق كلَّ العالم، أنا في حياتي الأقصر عانقتُ -أيضًا- كلَّ العالم. لكن، لا أنا ولا هو خطر في بالنا يومًا أنه علينا أن نعانق بعضنا. أظن لو أننا فعلناها مرّة، لنصف دقيقة، لما كنا بحاجة إلى أن نعانق البشر الذين عبروا حياتنا.
أمي التي شاهدتْ حياتي وحياته، كانت متأكدة منذ بداية الفيلم -في تلك السهرة في غرفة الجلوس- أننا لن نعانق بعضنا فيه، لم تكمله، ذهبتْ -ليلتها- لتنام مع حزنها.
سنحت لنا فرصة أولى لأن نعانق بعضنا في الدقائق الأولى من صباح يومٍ شتوي كئيب، داخل محطة لقطارٍ ينطلق من شمال سورية إلى ساحلها. لم نفعلها، إنما تحدثنا بلا مبالاة -قبل صافرة القطار- عن الأشياء المضرة للصحة: التدخين، المشروب، الجميلات، الأمهات، الكتب.
فرصة ثانية سنحت لنا، هذه المرّة في الدقائق الأخيرة من فيلم، داخل محطة لقطارٍ متجول بين المدن الإيطالية، أيضًا، لم نفعلها.
وحدهم، أولئك الذين فشلوا في أن يعانقوا أنفسهم، سوف يعانقون بكآبة، خلال حيواتهم القصيرة كلّ البشر، تكفيرًا عن ذنبٍ ارتكبوه بوحشة في الحياة وفي السينما، جانب القطارات.
أنا وأبي -في الحياة وفي السينما أيضًا- لطالما خذلنا القطارات.
– لا تنس أن تكتب روايتنا..
صرخ لي أبي يومها مودعًا، وأنا ألوح له من نافذة القطار.
– وأخيرًا جئت، انتظرتك طويلًا.. أنا وتلك البحيرة، أهلًا بك..
بابتسامة غريبة، تحتمل عشرات التفاسير، قال بصوت عميق، لم يسبق لي أن سمعتُ صوتًا شبيهًا له بين أصوات البشر، وهو ينحني ليفتح باب سيارة الأجرة، ترجلتُ منها فصافحني بحرارة.. لكنه، هو وحارس الفندق تجاهلا بعضهما، عندما لم يتبادلا المصافحة! استغربتُ من هذا العجوز.. أظن أنه متسول، لم أكترث لأمره، مشيتُ لأدخل بهو هذا الفندق.
خلال سنوات من مغادرتي البلاد -مضطرًا- بسبب الحرب، وأنا أتنقل مع كتبي ودفاتري وخيالاتي بين الغرف في مدن هذه الدولة الأجنبية، أكتب فيها القصص وألوث جدرانها برسوماتي الفوضويّة، ارتجلها بأيّ قلم على الجدران.
منذ أيام انتقلتُ إلى غرفة الجديدة، في فندق متواضع جدًا ورخيص، فندق بعيد مثل كائن منزوٍ، هذا الفندق موجود هنا -كما عرفتُ- منذ عقدين جانب بحيرة صغيرة، على أطراف قرية بسيطة، تبدو لي قرية ساذجة، بنظاراتي أو من دونها، مثل كل القرى.
صباح الاثنين الماضي جئتُ إلى هنا، واتفقتُ مع الشاب النحيل صاحب الفندق أن أحصل على هذه الغرفة لعدة أشهر.
من نافذتها تأملتُ البحيرة مطولًا، همستُ لنفسي مبتسمًا:
– البحيرات مكان مثالي لكتابة القصص..
مساء الاثنين الماضي، وأنا أنقل كتبي ودفاتري وثيابي، العجوز ذاته الذي فتح لي باب السيارة صباحًا، كان جالسًا على كرسي أمام باب الفندق، قال لي بصوته الغامض، وهو ينفث دخان سيجارته:
– الغرفة التي حصلت عليها، سكنها منذ سنوات كاتب شاب، كتب فيها رواية جميلة ثمّ مات..
كلامه أرقني طوال ليلتي الأولى هنا، شربتُ قليلًا من البيرة نخب غرفتي الجديدة، ثمّ اتصلتُ بـ غرفة الإدارة بعد منتصف الليل، رد عليّ العجوز ذاته.
– أيها العجوز، ما اسم ذلك الكاتب الذي حدثتني عنه؟
– نسيت..
– ما عنوان روايته التي كتبها هنا؟
– نسيت..
– ما هو تاريخ موته هنا..
– منذ سنوات، توفي في غرفتك ذاتها..
شهقتُ، رميتُ سماعة الهاتف وأسرعتُ لأقفز على الأدراج حتى غرفة الإدارة، لأخبط على بابها، فتحه الشاب صاحب الفندق وهو يفرك عينيه ويتثاءب، كان نائمًا..
– أريد أن أتحدث مع العجوز..
– أي عجوز يا سيدي؟ لا أحد هنا غيري..
– مستحيل، الآن تكلمتُ معه هاتفيًا على غرفة الإدارة..
دخلتُ غرفة الإدارة، وأنا أفتش بجنون بين أشيائها عن ذلك العجوز، لم أعثر عليه والشاب يراقبني مستغربًا..
تجمدتُ مكاني وأنا أرمقه بصمت، أشرتُ بيدي إلى تلك الصورة الكبيرة والقديمة على الجدار فوق المكتب.
– إنه هو..
قال لي الشاب من خلفي بصوت خافت:
– إنه والدي، رمى بنفسه منذ سنوات في تلك البحيرة، مات منتحرًا، بعد أن يئس من الشفاء من عدة أمراض لازمته طويلًا..
لم أفهم شيئًا، صعدتُ إلى غرفتي الجديدة، تأملتها طويلًا، همستُ لنفسي بما يشبه يقينًا داكنًا.
– أحدهم في العالم الآخر، أعيش في فندقه، وهو.. يبدو أنه يعيش في مستقبلي، وكأن مستقبلي هو الفندق المفضل لدى موته..
في عتمة الغرفة، وقفتُ جانب النافذة، تأملتُ بصمت لعدة سجائر تلك البحيرة على ضوء القمر.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...