جلس فواز وهو يكاد يبكي على الدرجة العريضة التي تقع بين بوابة الممر المؤدي إلى المسرح، والرصيف المحاذي لأحد الشوارع الجانبية في سوق المدينة. منذ دقيقتين فقط، استجاب الله لدعاء والديه الذين لا يحبان المسرح، فطرده المخرج من بروفات المسرحية التي ظل يتدرب على أداء مشاهدها منذ أسابيع، في هذا الشتاء البارد، مع زملائه من طلاب المدرسة الإعدادية. كانت الشمس قد غابت باكراً كعادتها الشتوية، تأمل بعد أن جلس أولئك الناس الذين يعبرون أمامه غير مبالين بتعاسته الحقيقية، لا أحد منهم جرب أن يلتفت إليه، ويتأمل ذلك الحزن العميق في عينيه. تنهد وهو يردد في سره بأسى، بعد أن دفن وجهه في كفيه خجلاً: - لقد طردتُ من المسرح..
فوقه تماماً، على العارضة العلوية لبوابة المسرح، جلس شبحٌ غير مرئي، اسمه العار، يحمل دلواً مليئاً بسائل داكن ولزج اسمه القهر، مال بالدلو ليسكب كل سائله دفعة واحدة على فواز. تذكر عندما وقف سعيداً منذ أسابيع قليلة أمام لوحة الإعلانات، وقرأ ذلك الإعلان عن رغبة إدارة المدرسة بتقديم مسرحية، وتمنت الإدارة ذاتها في الإعلان ذاته من الطلاب الذين يهوون التمثيل، مراجعة غرفة أستاذ الفنون والرسم الذي أسندت له مهمة إخراج المسرحية على الرغم من ثقافته المسرحية المتواضعة. قرر آنذاك تسجيل اسمه ضمن القائمة في غرفة أستاذ الفنون، تخيل أن المسرحية سوف تكون عن الحب، ويكون هو بطلها، أما البطلة فسوف تكون زميلته ندى التي يحبها سراً، ولم يستطع أن يبوح لها بعواطفه، فقرر أن يذهب إلى المسرح ليحكي لها عن عواطفه، مختبئاً في رداء شخصية أخرى، لكن أمله خاب عندما اكتشف أن المسرحية تتحدث عن أشياء أخرى غير الحب، وخاب أمله ثانية عندما أسند له المخرج دوراً ثانوياً لا يكاد يذكر، وخاب أمله مجدداً عندما عارض والداه ذهابَه المسائي المنتظم إلى المسرح للتدرب مع زملائه على البروفات، لكنه واجههما بعناد، أما الخيبة الأخيرة فهي التي يتجرعها الآن مع
"تخيل أن المسرحية سوف تكون عن الحب، ويكون هو بطلها، أما البطلة فسوف تكون زميلته ندى التي يحبها سراً، ولم يستطع أن يبوح لها بعواطفه، فقرر أن يذهب إلى المسرح ليحكي لها عن عواطفه" غصات مريرة على درجة باب المسرح، تحت ضوء عامود الرصيف.
- لقد طردتُ من المسرح..
ردد هذه الكلمات المريرة، وشعوره بالعار يتعاظم داخل صدره، فتضيق عليه أنفاسه أكثر فأكثر. نهض متعباً يريد الذهاب إلى بيته البعيد جداً من هنا، لكنه تريث قليلاً، قرر أن ينتظر نهاية هذه البروفة، ليرافق صديقه كريم في مشوار الرجوع إلى البيت، لأن "كريم" لديه دراجة هوائية، وبيتاهما متجاوران، في حارة بعيدة عن المسرح. دسّ يديه في جيبيه وهو يمشي متعباً على الرصيف، ركل حصاة كانت أمامه بينما كانت الدمعات تركل عينيه.. رجع يجر رجليه مثل عجوز ليدخل بوابة المسرح إلى الممر الطويل، في نهايته اختلس النظر إلى زملائه وهم يتدربون على أداء الأدوار، شتم في سرّه ذلك المخرج الأبله، واقترف بحقه صامتاً بضع شتائم، رجع والملل يفتك بروحه، ذهب إلى الحمامات حيث غسل وجهه، وشرب قليلاً من الماء، وبعد أن خرج من الحمامات دفعه فضوله لأن يمشي في ممرٍ طويلٍ شبه معتم، يمتد جانب الحمامات، إلى أن وصل باباً قديماً، فتحه ببطءٍ ونزل بضع درجات لينتبه مستعيناً بأضواء الأعمدة على الرصيف، التي تأتي من نوافذ في أعلى جدران هذا المكان، ليكتشف أنه في المستودع.. صالة كبيرة مليئة بالأشياء، معدات وإكسسوارات وأزياء ومجسمات متنوعة، تنتمي إلى عصور عديدة وشعوب كثيرة، ديكورات صغيرة وكبيرة، أقنعة وتماثيل وأشياء أخرى. تجول فواز طويلاً بين أنقاض عشرات المسرحيات، التي قدمت في الأعلى خلال السنوات السابقة، تعثر ببعضها، حدق متعجباً في بعضها الآخر، ارتدى ثوباً قديماً وهو يغير نبرة صوته بما يناسب هذا الثوب المرمي على كتفيه، عبث بأشياء أخرى محاولاً اكتشافها، كان مستودع المسرح كبيراً جداً، يحتوي على أشياءٍ علاها الغبار والنسيان، يحتاج المرء لأيام حتى يتفرج عليها، في هذه اللحظة، وهو يدير رأسه على جهات المستودع، أيقن أنه قد دخل متحفاً يضم بين جدرانه تعساء وبؤساء من الشعوب كلها. لم يعرف كم لبث من وقت في المستودع، تذكر صديقه "كريم" فأسرع ليخرج من المستودع، واتجه عبر الممرات إلى خشبة المسرح، لكنه لم يشاهد أحداً من الممثلين أو المخرج، هرول إلى الباب الرئيسي ليكتشف أنه مغلق ومقفل، لقد ذهبوا بعد إغلاق الباب خلفهم.. دون أن ينتبهوا لوجوده في الأسفل، في المستودع، بين بقايا المسرحيات، وجثث الحكايات، خبط بكفيه على الباب من الداخل، وهو يصرخ باسم المخرج، وباسم صديقه كريم، لعلهما ما يزالان قريبان، لكن لم يرد عليه أحد. زفر فواز بحنق وهو ينحني ليجلس متعباً على الأرض، فكر قليلاً.. ثم أيقن أنه سوف يظل سجين المسرح حتى الصباح، إلى أن يأتي مستخدم المسرح وبقية الموظفين ويفتحون الباب مع بداية يوم عملٍ جديد. أيّ حظ سيءٍ هذا؟ رجع يجرّ رجليه منهك القوى، مشى بأسى في ممرات المسرح، وصل مجدداً إلى المستودع، نزل درجاته، ومن النوافذ الضيقة في أعلى الجدران لمح القمر، وقد حاصرته غيوم الشتاء، شعر بالبرد، بحث بين قطع الأزياء المتناثرة على شكل تلالٍ من قماش هنا وهناك، حتى وجد معطفاً رثاً فارتداه. مرّت ساعات الليل ببطءٍ، وفواز يجلس هنا تارة، وهناك تارة، بين بقايا المسرحيات، في عتمة خفيفة تتناثر في فضاء المستودع. انتبه لوجود شخصية من مسرحية لا يعرفها، جالسة هناك، تحدث قليلاً معها، ثم بدأت بعض الشخصيات الغريبة، تنهض من هنا وهناك، من بين تلال الأزياء، وفوضى الأشياء في هذا المستودع، منهم من اقترب من فواز ليتبادل معه الكلام، وبعضهم لم ينتبه لوجود فواز. انخرطوا معاً في أحاديث ومناقشات تعلو تارة وتهدأ تارة، وكأنهم يتابعون المشكلة ذاتها في مسرحيتهم الأساسية. وقف قليلاً عند تلك المسرحية، ثمّ جلس برهة بجانب هذه المسرحية، قبل أن يدخل أشلاء مسرحية أخرى، وعلى أريكة متهالكة تمدد في مسرحية ليست بعيدة عن البقية، سرعان ما غادرها إلى مسرحية أخرى، دخل في بقايا مسرحيات، وخرج من بقايا مسرحيات، كانت الحكايات كثيرة، غير كاملة، أشلاء قصص دون بدايات أحياناً وأحياناً دون نهايات، حكايات
"انتبه لوجود شخصية من مسرحية لا يعرفها، جالسة هناك، تحدث قليلاً معها، ثم بدأت بعض الشخصيات الغريبة، تنهض من هنا وهناك، من بين تلال الأزياء، وفوضى الأشياء في هذا المستودع، منهم من اقترب من فواز ليتبادل معه الكلام، وبعضهم لم ينتبه لوجود فواز" شاحبة لأناس منهكين، يخيل لفواز أنهم يعيشون حولنا، عن قرب منا، لكننا لا ننتبه لهم، مصائر متناثرة كيفما اتفق مع شخصياتها في هذا المستودع، في اختلاطٍ حكائيٍ غريب، تزدحم فيه وجوه البؤساء. مشى وجلس بينهم فواز، راقبهم واستمع إليه، كانوا عشرات الشخصيات، من حقب وأزمنة مختلفة، دخل في مسرحياتهم وعاش في جزءٍ من حكايتهم، قبل أن ينسحب ليكتشف حكايات أخرى. عندما استباح التعب والنعاس كل جسده، تمدّد في زاوية بعيدة وهو يلف المعطف على جسده، ثم يتكور على نفسه وينام. على وجهه تمشت أشعة الشمس التي تسللت بخجلٍ من نافذةٍ أعلى الجدار فوقه تماماً. استيقظ فواز وتمطى بكسلٍ قليلاً، تذكر أنه ما يزال في مستودع المسرح سجيناً منذ ليلة البارحة، نهض بسرعة ليرمي عن جسده ذلك المعطف، وأسرع إلى باب المستودع وهو يتعثر بفوضى الأشياء وازدحامها هنا، صعد الدرجات ليخرج من المستودع دون أن يغلق بابه، أو حتى يلتفت ليلقي نظرة وداعٍ على بقايا المسرحيات. مشى بهدوءٍ في ممرات المسرح، لم ينتبه له الموظفون الذين بدأ دوامهم منذ قليل، في الغرف المتناثرة على أطراف الممرات هنا. عندما وصل إلى الباب الرئيسي قفز فوراً من خلاله إلى الرصيف، وراح يجري عليه متنفساً الصعداء.. كان سعيداً، وهو يعبر الشوارع يتأمل البشر من حوله والمحلات والأرصفة والأشياء، وكأنه اشتاق كثيراً للمدينة، وكأنه لم يشاهدها منذ سنوات عديدة. وصل إلى حارته فشعر بشيءٍ غريب لم يفهمه، بعد قليل شهق مندهشاً وهو يقف متعجباً أمام بيته. كان بيت عائلته عبارة عن فيللا قديمة من طابق واحد، لكن.. مكان بيته الآن شاهد بناءً من عدة طوابق، فرمقه مذهولاً، كيف اختفت الفيللا وحل مكانها هذا البناء بطوابقه البشعة؟ لم يعرف! دخل من بوابة البناء وصعد الأدراج، بعض النازلين رموا عليه التحية مع ابتسامات سريعة، فرد التحية وهو ما يزال مندهشاً، في الطابق الرابع انتبه إلى اسمه مكتوباً على مستطيلٍ رخامي، جانب باب الشقة الواقعة على يسار الدرج. فتش جيوبه فعثر على مفتاح، خمن أنه مفتاح هذه الشقة، وفعلاً فتح به الباب ليدخل بيتاً صغيراً وضيقاً، كاد أن يختنق وهو يتلفت حوله في هذا البيت الضيق، الذي لا يشبه الفيللا الواسعة التي كانت هنا. شعر بالعطش وقد جفّ حلقه، أسرع إلى صنبور ماءٍ فوق المغسلة ليشرب كثيراً، ويزيح عن حلقه كثبان رمال جافة. رفع رأسه ببطء،ٍ فشاهد وجهه في المرآة فوق المغسلة، أمعن نظره في وجهه، والماء ينقط من ملامحه.. تأمل وجهه الشاحب، يبدو أنه في الأربعينات من عمره. تنهد، ثمّ همس بأسى لوجهه في المرآة:
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...