أكان البرد أم الجمال أم الجوع ما جعله يتداعى؟
وائل السواح
2019-03-23
لم تكن فادية الوحيدة التي اعتقلت من بيت الكومونة في المخيّم، إذ اعتقل في ما بعد برهان الزعبي وأحمد الرشيدات ومحمود العلي من بيوتهم في درعا. وأطلق سراح برهان ومحمود بعد أشهر قليلة، فيما انتظر فاروق وأحمد حتى شباط/ فبراير 1980، ليخرجا مع الجميع.
على أن حملة الاعتقالات لم تتوقّف عند رابطة العمل الشيوعي. فحافظ الأسد قرّر إنهاء كلّ معارضة لحكمه من أي طرف جاءت. ولئن كانت مجابهة اليمين تبدو أسهل للنظام، بسبب التباين الفكري واختلاف القاعدة الاجتماعية بين الطرفين، فإن التحدّي الذي كان يجابهه، “الاشتراك-العلماني-اليساري، إلخ” كان يأتي من جهة اليسار، لأنه يشاركه في خلفيته الفكرية ويتقاسم معه الطبقات الشعبية ذاتها. كان ببساطة يكشف زيف الكثير من ادعاءاته اليسارية والقومية، والعلمانية طبعاً. لذلك قرّر الأسد إنهاء المعارضة اليسارية بشكل كامل، ونجح في ذلك إلى حدّ كبير، حين استطاع أن ينهي الفصائل اليسارية الصغيرة، بدءاً من اتحاد الشغيلة إلى حزب العمّال الفلسطيني مروراً بالفصيل الشيوعي وجماعة النهوض. واعتُقل في حملة أيلول/ سبتمبر عدد من أصدقائنا ورفاقنا، بينهم زياد وطفة وسعيد عبد اللطيف وخلف الزرزور، وسبقهم فايز سارة، القيادي الأبرز في جماعة النهوض وحزب العمّال الفلسطيني.
بيد أن ما آلمني أكثر كان اعتقال الأصدقاء الذين أُخِذوا من بيت الكومونة في كمائن أمنية. كان بينهم أصدقاء مقربون، كصديقي السلموني الجميل وسام عوّاد. لم يكن وسام سياسياً، على رغم أنه من مدينة السلمية التي ترضع نساؤها السياسة مع حليبهن. كان شابا حييّاً نحيلاً، طويل القامة، يحب الخمر والثقافة والتاريخ الذي كان يدرسه في الجامعة. كان يضحك لأي طرفة ويحوّل أي حادثة عادية إلى قصّة درامية مشوّقة. ولكنه كان يأخذ الأمور ببساطة وعلى مهل. حتّى في سيره، كان يسير متمهّلاً، كأنه يغبّ الشوارع والدكاكين والصبايا، وحين نسير معاً، كان يسارع خطواته ليماشيني، وهو يصرخ: “ولك طولك متر ونص وبدي أركض وراك ركض!”. اعتقل وسام في كمين في بيت الكومونة، وأمضى أيضاً أشهراً في فرع الخطيب. بعد خروجه، سافر إلى باريس لاجئاً، حيث فتح الطريق أمام الكثير من رفاقنا للسفر إلى فرنسا، وبات عوناً لكلّ سوري يحطّ رحاله في عاصمة النور. التقيته عام 1992، في مدينة بواتييه، كان لديه بيت فرنسي جميل في الريف وزوجة فرنسية لطيفة، لم تستطع في النهاية الاستمرار معه، فانفصلا وعاد إلى سوريا.
لم تطل فادية وبرهان ومحمود ووسام مكوثهم في سجن جادة الخطيب، خرجوا بعد أسابيع أو أشهر. فاروق العلي انتظر مع بقية الرفاق حتى 4 شباط 1980 ليخرج مع الجميع. ولكن الأشهر التالية كانت حاسمة في مسيرة حياتي ومسار الوطن. على رغم أن مدرسة الكادر في حلب لم تكمل مشوارها، فقد تمّ توسيع اللجنة المركزية لرابطة العمل وعادت إلى الرقم الأصلي المقدّس: 11. وإلى جانب من تبقى من الهيئة القديمة وهم أصلان عبد الكريم وفاتح جاموس ونهاد نحّاس، انضم علي الكردي ومصطفى خليفة وكامل عباس ومنیف ملحم وحسام علّوش وزياد مشهور وأحمد رزق والعبد الفقير. في أوّل جلسة للهيئة المركزية، انتابني إحساس متناقض، لأنني لا أحبّ أن أملي على الآخرين ما يفعلون من جهة، ولم أحبّ في حياتي أن أكون قائداً في أي مجال، من جهة أخرى. أوّل منصب قيادي في حياتي شغلته في الصف العاشر، عندما انتخب الفصل لجنة لتمثيله مع الإدارة مؤلفة من خمسة أشخاص. لم أرشّح نفسي، ولكن أسماء طلاب الفصل الأربعين كانت مدرجة، وجاء اسمي بين الخمسة الفائزين. شعرت بالغبطة والخوف: الغبطة من أنك فجأة صرت في مكان أعلى، يشرف على الآخرين، والغبطة من أن رفاقك في الفصل اختاروك أنت من بينهم؛ والخوف من ألا تقوم بواجبك كما ينبغي، ألا تكون على قدر المسؤولية، أن تفشل. المرّة الثانية كانت حين انتخبت عضواً في اللجنة الفرعية للحزب الشيوعي السوري في حيّ الحميدية بحمص. كان ذلك الانتخاب مهزلة، فتقريباً، فرضت القيادة اسمي على الناخبين في مؤتمر الفرعية، لسبب واحد: كنت الوحيد من عائلة مسلمة في حيّ مسيحي. كنت لا أزال في السابعة عشرة، وفي الفرعية رجال محنّكون ونساء مثقّفات، وكان ينتابني خجل شديد وأنا أحضر اجتماعاً لإحدى الفرق الحزبية بصفتي ممثلاً للجنة الفرعية.
نشوء التنظيم والحلقات الماركسية
في رابطة العمل، كان الوضع يختلف، فقد رافقت نوء التنظيم منذ أيام الحلقات الماركسية، وكنت عضواً في أولى تشكيلاته، وعرفت قيادته عن كثب، ربما بسبب صداقتي الشخصية مع أحمد جمّول. ومن جديد انتابني سرور داخلي بالمسؤولية الجديدة، ولكن سؤالاً قلقاً كان يؤرّقني: إذا كنت أنا، بخبرتي القليلة، سأشغل هذا المكان، فهل يعني ذلك أن المنظمّة باتت بأيدٍ غير مؤهلة للقيادة؟ بيد أنني لم أمتلك ترف الوقت الكافي للتفكير، فعقدنا أول اجتماع للمركزية في مدينتي حمص، التي زرتها متخفياً لأول مرّة. حلقت لحيتي وأبقيت شاربين مكسيكيين بليدين فوق شفتيّ، ووضعت على عينيّ نظارة شمسية نهاراً، وفي الليل كنت أستبدلها بنظارة طبية بعدسات نمرة زيرو. وسرت في شوارع المدينة كالغريب، وفي جيبي بطاقة هوية مزورة بإتقان عجيب باسم “وليد ل.” كانت بطاقة حقيقية لشخص حقيقي كنت أعرف عنه كلّ شيء، قام الرفاق باستبدال الصورة وحسب، بحرفية مذهلة. أضعت هذه البطاقة الرائعة بحماقة في ما بعد، واستبدلتها ببطاقة سيئة التزوير، كانت سبب اعتقالي بعد سنوات على الحدود، آتياً من بيروت.
في اجتماع الهيئة المركزية في حمص، انتخبنا لجنة عمل جديدة وهيئة تحرير لـ”الراية الحمراء” و”الشيوعي”، وأخرى لتحرير “النداء الشعبي”. كانت الراية الحمراء الجريدة الرسمية والناطق بلسان الرابطة، ننشر فيها الرؤى السياسية والبرنامجية والتحليلات السياسية محلياً وإقليمياً. في المقابل، كانت “الشيوعي” المجلة النظرية للرابطة، وفيها ننشر مقالاتٍ وأبحاثاً ذات طابع نظري وأحياناً تأسيسي. أما “النداء الشعبي”، فكانت جريدة تحريضية كنا نوزعها على نطاق واسع بين الطلبة والعمال والفلاحين وأصحاب الدكاكين، وننشر فيها مقالات بلغة صاخبة وتحريضية، تحض على التمرد على النظام وتبشر بالثورة الشعبية – العسكرية المشتركة. طوال سنين وقفت ضدّ فكرة جريدة “النداء الشعبي”، فعقابيلها كانت أسوأ من خيراتها، وفشلنا في تأليب جماهير العمال والفلاحين من وراء جريدة النداء الشعبي، وجلبنا ويلات الاعتقال من النظام الذي أزعجته الجريدة أكثر من كلّ نشاطاتنا الأخرى.
وضع الرفاق على كتفيّ أحمالاً عدة. إلى جانب عضوية الهيئة المركزية، انتخبت عضواً في هيئة تحرير “الراية الحمراء” ومجلة “الشيوعي”. وتسلّمت مهمات اللجنة المنطقية في مدينة دمشق، فصرت مسؤولاً عن عدد كبير من الخلايا والرفاق ومشاريع الرفاق (كلمة طالما مقتّها، إذ كيف يمكن لإنسان أن يكون مشروعاً؟). وتعرفت في هذا السياق إلى عدد متزايد من الرفاق الجدد. كان العمل الحزبي يبدو لي أحياناً كلعبة “الضيوف” التي كما نلعبها ونحن صغار. نأخذ زاوية في غرفة الجلوس، ويمثّل بعضنا دور أهل الدار وبعضنا الآخر دور الضيوف، فنقدم الماء في فناجين القهوة، ونروح ننمّق كلماتنا كما تفعل أمهاتنا حين يستقبلن ضيوفهن. زاد هذا الشعور حين صرت أتلقّى بريد الخلايا وتقاريرها، ومن بين الرفاق والرفيقات أصدقائي الذين أسهر معهم مساءً. أعرف خطهم، وأعرف أسلوبهم في الكتابة، وأعرف كيف يتنفسون. فهذا خط فادية، وذاك خطّ برهان، وتلك الرسالة من سلام أو حسيبة.
حسيبة التي أصبحت رشا
سحرتني حسيبة عبد الرحمن بحضورها الطاغي. كانت تمثّل كلّ ما يحبّه الفتى الثوري في الفتاة الثورية: تدخّن السجائر الوطنية بشراهة، تغب العرق البلدي ولا تسكر، تناقش في السياسة والفكر، مغرمة بروزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت وتروتسكي، تقرأ بمتعة كتاب “استمع أيها الصغير” لفيلهلم رايش، وتحب بابلو نيرودا ولوركا ومحمود درويش. وكانت جميلة. أسرتني بشكل خاص يداها الرشيقتان وأصابعها النحيلة، التي تشبه أصابع عازفة بيانو أكثر مما تشبه أصابع مناضلة ثورية، ولذلك تحديداً، اخترتُ لها اسما تنظيمياً رشيقاً: رشا، حملته طويلاً، وراق لي ذلك. كلّما كانت تعود من الضيعة، قرب مصياف، كانت تحضر معها مونة تكفي قبيلة، فتطبخ لنا برغلاً بالحمّص. كنت أزورها في بيتها المتهالك في حيّ كفر سوسة القديم، الذي نجا بمعجزة من الاستملاك والانضمام إلى جنّة الأثرياء الجدد الذين أتى بهم حافظ الأسد إلى ساحة المجتمع والاقتصاد. أحضر معي نبيذاً وطنياً رخيصاً، ونبدأ معاركنا السياسية، فوراً، ومن دون مجاملات. كانت حسيبة تعتقد أن الرابطة ليست ثورية بما فيه الكفاية. وهي لم تكنْ تُكِنّ احتراماً كبيراً للقياديين في الرابطة كما كان يفعل معظم الرفاق. كانت تراهم بشراً، تعرف معظمهم، وبينما كان ولاؤها للرابطة لا يتزعزع، فقط كانت لا تفهم لمَ عليها أن تطيع هؤلاء الأفراد. وكنت أكثر منها إدراكاً بذلك، ولكن كان يلذّ لي أحياناً أن أناكدها، لأراها وهي تنفعل، فتزخّ الكلمات من بين شفتيها كحبّات بَرَدٍ صلبة وقوية وجميلة. اعتقلت حسيبة مراراً كثيرة. فقدت القدرة على عدّ المرّات التي اعتقلت فيها أو استدعيت إلى فروع الأمن. ونالت قسطاً وافراً من التعذيب، وكان مردّ ذلك ثلاثة أمور: كونها من أسرة علوية، ولكن ليس لديها أي قريب في السلطة؛ ورفضها الاعتراف بما يطلبه منه المحقّقون؛ و”وقاحتها” الجميلة في الرد على إهاناتهم بإهانات مماثلة. بعد خروجها من أحد الاعتقالات، ستكتب حسيبة رواية جميلة بعنوان “الشرنقة”، تحكي فيها عن تجربة السجن الأولى، وتفتح أوراق السجن، ورقة ورقة. لم يحبّ البعض روايتها، واعتبرها “استعراضاً للغسيل الوسخ”، أما حسيبة، فكعادتها، ابتسمت بسخرية، وتركت الأمور وراءها، وبحثت عن شيء جديد. ارتبطت بعلاقة فاتنة مع صديقي جبرا بعد خروجه من السجن في 4 شباط 1980، علاقة غريبة ولكن مدهشة. كان في الاثنين من الطيبة ما يكفي عشرة أشخاص ومن الجمال ونقاء الروح ما يكفي عشرين، ولكنّ لهما طبعين مختلفين: جبرا بهدوئه وسكونه الداخلي وحسيبة بتمردّها الذي لا يقف عند حد. حين خرجت من السجن عرفت أن علاقتهما انتهت منذ زمان.
“صامدة في قلعتي”
وبينما تشردنا نحن في كلّ أصقاع الأرض، ظلت حسيبة في دمشق، تقاوم التهجير والاستملاك ورجال الأمن والثوريين الجدد المحترفين على “فيسبوك”، تتشبث ببيتها وتطالب بمعرفة مصير رفيقها المغيّب عبد العزيز الخيّر، وتعدّ من تبقّى في المدينة من رفاق وأصدقاء. وكانت لا تزال تنتمي إلى حيّ كفر سوسة الدمشقي القديم، الذي اقتلع الفاسدون توته الشامي، وغرسوا مكانه طوابق الحجر. “أنا صامدة في قلعتي،” تقول المرأة التي بقيت تحتفظ بسحر الصبية ذاته، “لن أغادر طفولتي ومدرستي وذكرياتي، لن أغادر منزلي إلا إذا انتصر الموت”. كتبت لها قبل يومين اسألها عن حالها، أجابتني: “تحياتي وقبلاتي. الكهرباء مضروبة”!
كانت حسيبة أيضاً من القلّة التي دافعت عني حين كنت أتعرض لهجوم الرفاق بسبب سلوكي “البورجوازي” وأخلاقي “الغربية”.
يوسف عبدلكي
حين عاد يوسف
بين هذه القلّة أيضاً الذين لم تزعجهم بورجوازيتي، سحرني فتى آخر، جاء إلى دمشق من قريته الجميلة “كفرية” ليدرس البكالوريا في دمشق، ومن ثمّ في جامعة دمشق. كان يرتبط تنظيمياً بيوسف عبدلكي، وحين اعتقل يوسف انقطع عن التنظيم حتى وصله بي كامل عبّاس ونحن نعيد لملمة خيوط التنظيم. بعد اعتقالات أيلول، أمره الرفاق بالتخفي، ولكنّهم لم يعطوه ما يعيش عليه، فعاش على مساعدة الرفاق والأهل الأصدقاء: جمال سعيد. دفعني ذلك إلى أول خلاف حادّ بيني وبين رفاق لجنة العمل، وبينهم أصلان عبد الكريم. “نحن مسؤولون عنه”، قلت ومعي من الرفاق أقلية بينهم أجمل أعضاء المركزية أبو فريد (كامل عباس). ولكن الأغلبية قرّرت أنه ليس لدينا موارد إعانة لكلّ رفيق. انضمّ جمال إلى خلية مثقفين كان فيها أيضاً جميل حتمل ونصّار يحيى، وكنت ألتقيه غالباً في شوارع دمشق القديمة، نسرح بين القيميرية وباب توما والعمارة، حيث تناولنا ذات مرّة صحنين من “الكنافة المدلوقة”، وكانت تلك أوّل مرّة يتعرف فيها إلى هذه الحلوى. راقبت وجهه وهو يتلذّذ بالطعم الدمشقي الأصيل، ويردّد: “يا إلهي!”.
في الحواري الشامية، كان جمال يقرأ لي بعض قصائده. كانت قصائد بسيطة ورقراقة كالماء العذب. ولكنني أحببت قصصه أكثر. وأكثر من الاثنين كانت تروق لي نقاشاتنا المتحمسّة حول الشعر والأدب والثقافة والرسم. بسبب شعره البسيط، عرّفته إلى “إيماءات” يانيس ريتسوس و”أوراق العشب” لوالت ويتمان، وكانا نشرا للتوّ بترجمة متألّقة لسعدي يوسف. وبسبب علاقاته مع المثقفين والأدباء، كلّفته بتوزيع “الراية الحمراء” عليهم. وكان يعود إلي بقصص ممتعة عن كيف يتلقّى المثقفون جريدتنا.
بندر عبد الحميد وسهيل ابراهيم وعادل محمود كانوا يبتسمون، ويخبئون الظرف الذي يناولهم إياه جمال في الحال. نزيه ابو عفش اعتقد أن الفتى اللطيف مخبر للأجهزة الأمنية يريد الإيقاع به. سعد الله ونّوس كان الأكثر جدية، يحاور ويدلي برأيه ونصائحه. أستاذ الفلسفة نايف بلّوز كان يستقبله في بيته، ويذهب معه في التفاصيل الدقيقة عن مقالات العدد السابق. خالد أبو خالد وأحمد دحبور كانا يعملان في وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا). رغب أحمد في الحوار مع جمال، فيما صاح به ابو خالد: “لا. لا أريد أن أحاورك!”. أما زكريا تامر فكان يشتم الشيوعيين، ولكنّه في كلّ مرة يدخل يده في جيبه ويخرجها بمبلغ ما يتبرّع به للمنظمة. ومنه تقاضى جمال أكبر تبرّع في ذلك الوقت، 25 ليرة سورية. كان بوسع جمال أن يشتري بالمبلغ طعاماً لأسبوعين لو احتفظ به، ولكنه طبعاً لم يفعل.
الدرج الذي يعرف كل شيء…
لم يكن جمال رفيقاً أمضي معه دقائق في الطريق وأمضي لشأني كحال معظم الرفاق الآخرين. كان الوقت الذي أمضيه معه ينزلق بيسر وليونة، حاملاً معه رهافة وحسّاً وحضوراً أثيرياً لطيفاً. لعيني جمال عمق ودفء غريبان. أردت أن أعرّفه إلى صبية تشبهه في الرهافة والحضور: رنا، شقيقة صديقتنا الجميلة غادة. كانت رنا جميلة بشكل يؤلم أحياناً، لا يخفّف من استبداد جمالها سوى لطفها ودِعَتها، والبراءة الطفلية التي تطلّ من شرفتي عينيها. في أمسية أيلولية لطيفة، صحبت الاثنين إلى مطعم “أبو شفيق” في الربوة. كانت الربوة وقتها في أواخر أيامها الجميلة، ولا تزال المياه تسيل في الوادي الذي يشرف عليه المطعم. تسلّقنا الدرج الذي يحتفظ بحكايات أقدام الملايين الذين صعدوا عليه قبلنا، وجلسنا إلى طاولة منزوية. طلبت نبيذاً أحمر، ورحنا نشرب. كانت رنا تثرثر في كلّ موضوع بانطلاقها المحبّب الجميل، وكان جمال يسهب في الحديث عن الشعر، برويته وهدوئه. لست واثقاً الآن، أكان الهواء الخريفي الذي تسلل إلى قميص جمال الرقيق، أم الجمال الأثيري الذي كان يفيض من رنا، أم لعلّه الجوع، فلست أعرف متى تناول آخر وجبة قبل النبيذ، ولكنني أتذكر كما لو كان بالأمس، كيف شحب لون جمال، وبدأ يتداعى، من الحمّى. ورنا الرقيقة أخذت يديه، لتشعره بأننا معه، كما تفعل الأمهات عموماً. طلبت تاكسي، وعدنا إلى المدينة. أوصلت رنا أولاً، ثم نقّدت السائق أجرة وتركته يأخذ جمال وحيداً. فما كان عليّ أن أعرف أين يقيم.
اعتقل جمال بعد شهور. كان غادر كفرية النائمة في جبال اللاذقية، عائداً إلى دمشق، بعد قرار لجنة العمل عودة الرفاق غير القياديين المتخفين إلى العلن، بعد إفراجات شباط 1980. وجمال الذي كان يطالب هو نفسه بذلك في فترة الإفراج الأولى صار يراه نوعاً من رمي النفس في النار، بعد اعتقال قياديين مثل نهاد نحاس وزياد مشهور. تعرّض لضغط شديد من الرفاق ليعود إلى العلن، فيوافق ويعود إلى دمشق ليحتفل برأس سنة 1981. لم يحتفل جمال برأس السنة. قبل يومين، أوقف حاجز للأمن العسكري، على مدخل المدينة، الحافلة التي كانت تقلّ أكثر من عشرين راكباً. وطلب العناصر من الشاب الذي يرتدي معطفاً بنياً أن ينزل مع أغراضه. نزل جمال، وكما علّمه الرفاق، أراد أن يخلق ضجّة حول اعتقاله، فطلب من عناصر الأمن هوياتهم وأمر الاعتقال. كان يريد، كما قال لي لاحقاً، أن يلفت انتباه “الشعب”، ولكنّ الحافلة التي كانت تقله، أخذت “الشعب” معها وأسرعت في المغادرة، وبقي جمال مع عناصر مفرزة الأمن “وحارس كهل لبوابة معمل الجرارات القريب يمشي متثاقلاً بعد انتهاء نوبة حراسته”.