قراءة أخلاقية للكتاب المقدس - مايكل برييور ترجمة
فراس الســواح
خاص ألف
2019-04-13
رقة عمل قدمت إلى المؤتمر الدولي لتاريخ أورشليم عمان/ الأردن أوكتوبر 2001
هنالك مسألة ألحت على ذهني لسنوات عديدة خلت. ولكن الهجوم على الولايات المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2001، وما تبعه من تفسيرات وتعليقات، جعل تلك المسألة أكثر إلحاحاً مما مضى. فلقد وجدْتُ في معظم التقاليد الدينية للشعوب نزوعين كامنين؛ نزوعاً نحو الخير ونزوعاً آخر نحو الشر. ففي المسيحية. مثلاً، لدينا موعظة يسوع على الجبل، وذلك النشاط المسيحي العارم في عون ومساعدة البؤساء.
ولدينا أيضاً ذلك السجل الحافل للأمم الغربية في استغلال الشعوب المحلية المستعمرة. وفي اليهودية لدينا أقوال الأنبياء التي تندد باستغلال الفقراء والضعفاء. ولدينا أيضاً نصوصٌ مؤسِسة تمنح لليهودي حقوقاً على الآخرين الأدنى مرتبةً، سواء أكانوا كنعانيين في الماضي أم فلسطينيين في العصر الحديث. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الرئيس الأمريكي بوش، ورئيس الوزراء البريطاني بلير، وشخصيات سياسية ودينية عديدة على أن الإسلام دين مسالم، كان أسامة بن لادن وجماعته يحتفلون بقتل آلاف الناس في الحادي عشر من أيلول، ويسعّرون الروح العسكرية تحت اسم الإسلام. وفي الحقيقة، فإن كل الأديان تستطيع المباهاة بخصائصها النبيلة، ولكن قليلاً منها قادر على التفاخر بعدم تلونها بالإمبريالية وممارسة الاستغلال.
لقد جعلتني إعادة دراسة الكتاب المقدس في مدينة القدس على درجة عالية من الحساسية اتجاه دور قارئ النص المقدس، وموقفه منه. وهذا ما حفزني على تطوير ما يمكن أن أدعوه بالقراءة الأخلاقية للكتاب المقدس. فخلال عشرين السنة الماضية واجهتني نصوص إشكالية في الكتاب المقدس، وبشكل خاص في كتاب العهد القديم، جرى الاعتماد عليها لدعم مشاريع عدوانية نجم عنها في الماضي الكثير من الأذى والخراب في بقاع متعددة. واليوم نستمر في رؤية ذلك الأذى والخراب في منطقة الشرق الأوسط، حيث ما زالت مشكلة الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين العرب بدون حل. وهي المشكلة التي حملت في خفاياها، بتقدير الكثيرين، عنصراً هاماً وفاعلاً في أحداث الحادي عشر من أيلول في أميركا، وما زالت تعبر عن نفسها في الحرب الأميركية على أفغانستان.
لم تقدني إعادة قراءة الكتاب المقدس إلى التفكير في الطريقة التي تم فيها استخدام الكتاب كوسيلة ومبرر للعدوان والقمع فحسب، وإنما إلى التفكر أيضاً في الطبيعة العامة للدراسات الكتابية ومنظومتها المعرفية، وضرورة قيام الضالعين في هذه الدراسات بممارسة مسؤوليات عامَّة وإخضاع أنفسهم لمحاسبة أخلاقية. لعل اهتماماتي في تفسير الكتاب المقدس قد أخذت منحىً مختلفاً، لو لم أتم معظم دراستي العليا اللاهوتية في أرض الكتاب المقدس: لقد قدمت دراستي في القدس، وتحديداً في القدس الشرقية، واحداً من أهم الحوافز التي غيرت مسار حياتي. ولربما كانت الأمور مختلفة تماماً لو أنني اقتصرت على الدراسة في المعاهد الكتابية أو في مكتبات دبلن أو لندن أو روما.
موقع التفسير:
تسيطر كليات الدراسات الكتابية في الجامعات الغربية على التأهيل الكتابي (مثلما كان حال الكنيسة وحلقات المحفل قديماً). هذه الكليات هي التي تقرر بخصوص المسائل الدراسية الأهم، والتدريب الأكثر ملاءمة لطلابها. وفي المقابل فإن حلقات لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية قد نبهت منذ البداية إلى أهمية البيئة والمحيط اللذين يمارس فيهما المتدرب تأملاته اللاهوتية، وهذا ما قادها إلى التوكيد على أن التفسير الغربي للكتاب سيكون عرضةً للتحوير. ذلك أن الرسالة المركزية في الكتاب المقدس هي إن الله يقف دوماً في صف المظلومين. ولكن المفسرين الكتابيين في أميركا الشمالية وأوروبة لم يعرفوا وقتاً كانوا فيه عرضةً للظلم الشخصي أو الاقتصادي أو المؤسساتي. وهذا ما يجعل أراءهم تصدر من موقف القوة(1). وفي الواقع، فإن كل الباحثين الكتابيين الغربيين يعيشون في بحبوحة وأمن، وهم أعضاء محترمون في معاهد أكاديمية معتبرة. إن مثل هذا الوضع، كما سيكتشف المرء، يشكل عقبة في سبيل قراءة أصيلة وحقيقية للنص. وغني عن القول إن هنالك ديناميات مختلفة عن هذه تعمل ضمن الحلقات المتأثرة بلاهوت التحرير.
في البرازيل، على سبيل المثال، يسود الاهتمام بالبؤساء، وتجري قراءة الكتاب المقدس انطلاقاً من منظورهم، وتضعف الثقة بطرائق واهتمامات الدراسات الكتابية الغربية إلى حد أن أولئك الباحثين الذين تربوا في ظلها لا يسمح لهم بدخول ما يدعى بالدراسات القرينية، التي تعتمد القرينة وسياق النص (Contextual Bible Study)، إلا كخدم، ولا يشاركون إلا عندما يطلب منهم ذلك. وبدلاً من النظر إلى الباحثين الكتابيين كمعلمين حازوا حكمة يحسدون عليها من خلال خبرتهم بالطرائق التاريخية – النقدية في دراسة الكتاب، فإنهم لايُقبلون إلا إذا أبدوا استعداداً للانطلاق في بحثهم وفي عملهم من الواقع المعاين، وآلوا على أنفسهم الانخراط في عملية التحويل الاجتماعي – السياسي من خلال قراءاتهم الكتاب(2).
يرى إغناسيو إللاكوريا، رئيس جامعة أميريكا الوسطى بسان سلفادور أن اللاهوت الأصيل يقوم على ثلاثة عناصر هي: التأمل، والخيار الأخلاقي، والتطبيق العملي. فاللاهوت المسيحي الصحيح يتضمن التأمل الناجم عن الإيمان المسيحي وموضوعه ملكوت الله. وبما أنه ينشـأ عن الانغماس في الحقيقة التاريخية " لشعب الله ( المؤمنون المسيحيون)، فإن مثل هذا اللاهوت يقدم خياراً أخلاقياً أصولياً يقود إلى التطبيق العملي. هذه العناصر الثلاثة يجب أن لا تعتبر مراحل مستقلة عن بعضها تتم وفق تسلسل زمني، واحدة إثر أخرى، وإنما كعناصر متدامجة تماماً، وجاهزة معاً بتوتر دينامي في تلك المواجهة الثرة بمواجهة وطأة الحقيقة(3).
يؤكد إللاكوريا على أن المحيط الذي يتم فيه التأمل اللاهوتي هو أمر حيوي للغاية، ويرى أن محيطه الخاص هو فقراء أميركا اللاتينية(4)، ممن يعتبرهم المسمرين الفعليين على صليب تلك المنطقة(5). وكما كان إغناطيوس الليولاتي Ignatius of Lyola يحث تلامذته على الركوع تحت الصليب وطرح السؤال : ماذا فعلت من أجل المسيح المصلوب؟ وما الذي أفعله في الوقت الحاضر؟ وماذا سأفعل غداً؟ كذلك يتوجب على المسيحيين اليوم أن يتأملوا أحوال الضعفاء والبؤساء ويطرحوا سؤالاً مشابهاً: ماذا فعلت من أجل الشعب المسمر على الصليب؟ وما الذي أفعله في الوقت الحاضر؟ وماذا سأفعل لأجل إنزاله عن الصليب، وأجعله يُبعث من جديد(6) ؟ إن الوجود بين الناس المصلوبين هو الموقع الحقيقي للاهوت(7). وهذا ما قد يقتضي ثمناً باهظاً. ففي غمار كفاحه من أجل إنزال الشعب عن الصليب تمَّ رفع الأب إللاكوريا نفسه على الصليب في أبلغ تعبير درامي عن التزامه بالتأمل اللاهوتي الهادف إلى التطبيق العملي. وفي 16 نوفمبر من عام 1989 قامت ثلة من الجنود بقتله في الجامعة مع خمسة من الرهبان الجزويت إضافة إلى طاهية المعهد اللاهوتي وابنتها. وقد نجا من القتل في تلك الليلة راهب جزويتي آخر في الجامعة بسبب وجوده خارج البلاد، وهو جون سوبرينو Jon Sobrino الذي أعلن أيضاً بأن مهمة اللاهوت هي إنزال بؤساء أميريكا اللاتينية عن الصليب(8). ولقد كان هذان الرجلان مستشارين لرئيس الأساقفة أوسكار روميرو Oscar Romero، الذي قتل قبل ذلك بسنوات في 24 مارس 1980 عندما كان يقيم القداس. إن ممارسة اللاهوت في بعض المناخات الاجتماعية يمكن أن تكون مسألة حياة أو موت لصاحبها..
القوة التغييرية للتجربـة:
على الرغم من أن بؤرة اهتمامي فيما يتعلق بالأرض المقدسة تركزت بشكل أساسي على "الماضي الكتابي". إلا أنني لم أستطع تجنب الوضع الاجتماعي الراهن للمنطقة. ولقد غيرت تجربتي في أرض الكتاب المقدس، والتي عززتها مطالعات غنية عبر سنوات، منظوري الخاص بخصوص المجريات السياسية في المنطقة، مثلما غيرت أيضاً مسألة فهمي لمهمة الباحث الكتابي. فإلى جانب استغراقي في البحث الأكاديمي، فإن انشغالي بالمسألة الأخلاقية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني قد أخذ يمتص طاقتي على البحث الأكاديمي لبعض الوقت، واتخذ هذا الانشغال طابع الإحساس بالواجب الخلقي. إن دراستي للكتاب المقدس في أرض الكتاب المقدس قد خلق عندي وجهات نظر لم تكن لتتوضح عندي في مكان آخر. وهذه نقطة تستدعي الإيضاح.
يمكن للتجربة أن تغير الأفراد. ولقد فرضت عليّ ظروفي المتبدلة تغييراً دائماً في مفاهيمي كقارئ للكتاب المقدس، ومواجهاتي مع الأرض المقدسة أحلت عندي تغييرات لن أتحدث هنا إلا عن أكثرها أهمية(9). إنني بصورة عامة لا أطمئن للرجوع إلى التجربة الشخصية كأساس للمناقشة الأكاديمية. ولكن الممارسة قد أعطت للمسألة وجهاً آخر. إن مسألة من نحن تؤثر إلى حد بعيد على كيفية تلقينا وامتصاصنا للتجربة. يعطي النقد الأدبي الحديث وزناً لموقـف القارئ وإلى درجة يصل معها حد تجاهـل الكاتـب تماماً. ووفقاً للشاعر الإيرلندي باتريك كافانا P. Kavanagh فإن "الذات تقدم نفسها فقط كمثال ونموذج"(10). بالمقابل يؤكد الشاعر وليم بتللر ييتس W.B.Yeats على " أننا إذا فهمنا عقولنا الخاصة والأشياء التي تجاهد لكي تعبر عن نفسها من خلالنا، صرنا قادرين على تحريك الآخرين، لا لأننا فهمنا أولئك الآخرين وفكرنا بهم، بل لأن للحياة بأكملها جذراً واحداً مشتركاً" (Shamhain , in Exploration , 1905 ) .
إن الذين في مثل تكويني العقلي والثقافي (وأنا كاهن مسيحي كاثوليكي) يتعاملون مع الكتاب المقدس برهبة وإجلال. والتلاوات الطقسية المستمدة من الكتاب دائماً تختتم بجملة " هذه هي كلمة الرب"، والتي يعقّب عليها المستعمون بالقول "لك الشكر يارب". كما أن الآيات الأولى من رسالة بولس إلى العبرانيين تلخص الموقف المسيحي من الله الفاعل في تاريخ الإنسانية على النحو التالي:
"الله، بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين. هو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانـا جلس في يمين العظمة في الأعالي" - العبرانيين 1،1-3.
كما أن المكانة السامية للكتاب المقدس في الروحانية المسيحية وفي اللاهوت قد جرى التعبير عنها في الشروحات والتفسيرات خلال ألفي عام من التأمل المسيحي. لنتأمل في التقييم التالي الذي ورد في مخطوطة إيرلندية من القرن الخامس عشر والمعروفة بعنوان Leabhar Breac(11):
"الكتاب المقدس إحدى العطايا النبيلة للروح القدس. به ننير الجهل، ونسلى كل حزن أرضي، ونقدح نار كل ضوء روحاني، ونتقوى على كل ضعف. بقوته نطرد البدع والهرطقة من الكنيسة، ونسوي كل خلاف وشقاق. فيه نجد المشورة الكاملة والتوجهات المناسبة لكل مرتبة كنسية. بمعونته نقهر أحابيل الشيطان وأعوانه. فهو الأم والحاضن الرؤوم لكل المؤمنين الذي يدرسونه ويتفكرون فيه، ويتربون في ظلاله حتى يغدوا أبناء لله بعونه. ذلك أن الحكمة تعطي أبناءها بسخاء، أولئك المبتهجين بالشراب العذب ولذائذ طعام الروح. وبها هم أبداً من السعداء".
في عهد أقرب إلينا، وخلال مؤتمر الفاتيكان الثاني، جرى تكرار مثل هذه المواقف الفكرية. فوفق دستور الوحي الإلهي (Dei Verbum أو كلمة الله)، فإن الكتاب المقدس ينير العقل ويقوي الإرادة ويشعل روح الإنسان بمحبة الله (الجزء 23 من الدستور). كل الوعظ والتبشير الديني يجب أن يتغذى من النص المقدس لأن فيه القدرة على الإيمان، والغذاء للروح، والنبع الدائم للحياة الروحية (21-23). إن دراسة الصفحات المقدسة ينبغي أن تكون بمثابة روح اللاهوت. وعلى المؤمن أن ينشغل بقراءات متكررة للكتاب مصحوبة بالصلوات. إن الجهل بالكتاب يعادل الجهل بالمسيح – اقتباس عن القديس جيروم – (23-25). ومن الناحية التطبيقية أيضاً، فإن نصوص الكتاب هي في قلب الحياة المسيحية، وتؤدي دوراً أساسياً في كل الصلوات الرسمية الكنسية.
البحث الكتابي التقليدي:
إلى جانب كوني مؤمناً مسيحياً فأنا أيضاً باحث كتابي. وقد تلقيت التعليم الكتابي العالي في جامعات دوبلن وروما ولندن والقدس. هذه المنظومة تعمل بشكل رئيس على نقل الباحث إلى العالم القديم المتخيَّل للكتاب المقدس، بغرض فهم فترات الماضي المختلفة التي أنتجت أسفار الكتاب المتنوعة. وهذا ما يدعى في المنظومة المعرفية الكتابية بالنهج النقدي – التاريخي. في جامعة دبلن اكتسبتُ تمرساً أفضل باللغات اللازمة للدراسات الكتابية وهي اليونانية والسريانية والعبرية (والألمانية). في المعهد البابوي للدراسات الكتابية بروما عكفت على مزيد من الدراسات اللغوية، وعلى مزيد من الانشغال بالنص الكتابي، إضافة إلى المنظومات المعرفية المساعدة مثل الجغرافيا وعلم الآثار والتاريخ الكتابي وما إليها. وساعدني في ذلك وجود مكتبة ضخمة في أكاديمية مزدهرة تضم نخبة من الباحثين المهمين. في كلية الملك بلندن، أكملت دراستي لرسالة بولس إلى تيموثي، والتي كانت في بؤرة اهتمامي خلال إقامتي في معهد الآثار الكتابي بالقدس (1983-1984). هذه الزيارة الثانية للقدس تبعتها زيارات منتظمة فيما بين أواخر الثمانينات وأواخر التسعينات لغايات دراسية، من ضمنها سنة واحدة قضيتها في جامعة بيت لحم كأستاذ زائر في اللاهوت، وفي معهد تانتور Tantur المسكوني لللاهوت (1996-1997).
زيارتي الأولى للقدس كانت بدورها مثمرة. وقد كنت قبلها أشارك في المناقشات حول الأوضاع السياسية للمنطقة مما شاع بين جيل الشباب في ذلك الوقت. قبل ذلك بكثير، وعندما كنت في سن السادسة فقط، أذكر الآن مدى إعجابي حينها بتشكيل دولة إسرائيل عام 1948، وهي نفس السنة التي تشكلت فيها دولتي جمهورية ايرلندا الحرة مستقلة عن الكومنولث. فقد شاركت أساتذتي في ذلك الوقت حماسهم لإعادة إحياء العبرية واستخدامها لغة قومية، وهو تصميم بدا لنا بمثابة النموذج لتطلعات الأمة الإيرلندية في إعادة إحياء اللغة الغاليِّة، لغة إيرلندا التقليدية.
أملاً في أن أصبح كاهناً كاثوليكياً، انضممت في عام 1960 إلى طائفة القديس فينسنت التي تفخر بتجنبها للقضايا العامة الدنيوية، وذلك اقتداءً بمؤسسها الأول في فرنسا القرن السابع عشر، القديس فينسنت دي بول. فلوعي منه بتعدد المرجعيات السياسية لتلامذته الذين ينتمون إلى دول قومية مختلفة، كان القديس يحذرهم من الالتفات إلى الشؤون السياسية. على أية حال، فقد أنفقت معظم وقتي حينها (1961-1965) بدراسة الفيزياء التجريبية والرياضيات في الجامعة .
في معهد اللاهوت كان يجري النظر إلى اللاهوت كنظام فوق تاريخي مستقل عن أية شؤون وظروف اجتماعية أو سياسية. ولقد أثارتني في ذلك الوقت موسوعة البابا بولس السادس Populorum Progressio بتحليلها الجريء لأنظمة الحكم المعاصرة، ونقدها للنزعات القومية ودفاعها عن نظام عالمي عبر – قومي. وبينما كان لاهوت التحرير يتكون في رحم أميركا اللاتينية، كان اللاهوت الإيرلندي يعمل ضمن إطار إيديولوجي ساكن، مستريحاً في حضن زواج منهك بين كاثوليكية منتصرة واثقة من نفسها ونزعة ثورية قومية دخلت حيز الروتين تماماً. خلال ذلك كانت المقاطعات الستّ في إيرلندا الشمالية تغلي بالاضطرابات، غير أني لم أكن قد صعدت شمالاً حتى ذلك الوقت.
كانت المقررات التعليمية في كتاب العهد القديم ( التوراة ) قد جعلتني واعياً للسياق السياسي والاجتماعي للتأمل اللاهوتي، وإن يكن هذا السياق يخص الماضي فقط. فلقد تتبعنا الأوضاع الحياتية للأنبياء العبرانيين ودرسنا البيئة التي ظهرت فيها الأسفار الحكموية. أما بخصوص أسفار موسى الخمسة التي تشكل حجر الأساس للكتاب اليهودي، ولا تعترف طائفة السامريين إلا بها، فلا أذكر أنني قد عنيت بها كثيراً، فيما عدا بعض إصحاحات سفر التكوين، من 1 إلى 11 التي تورد قصة الخليقة والطوفان إضافة إلى قصة الخروج من مصر في سفر الخروج. ولهذا فقد فاتني التوقف كثيراً عند أحداث الإبادة الجماعية لأهل فلسطين الكنعانيين بأمر من الرب، كما أن الوحشية والفظاعة التي يحفل بهما سفر يشوع لم تترك عندي انطباعاً خاصاً، بينما قدمت لي قصص عصر الملوكية نزهة فكرية تفكرت خلالها بالصلات بين المشهد الديني والظروف السياسية المتغيرة. ومع ذلك فقد عرّفتني دراسة التوراة إلى نوع من الكتابة التاريخية يحاول إعادة بناء "الماضي" انطلاقاً من بينات وشواهد مبعثرة وغير مترابطة. وبالطريقة نفسها التي لم أكن بها واعياً في ذلك الحين إلى أن كتابة تاريخ إيرلندة كانت تتم في إطار قومي ضيق لايعنى كثيراً بكل ماهو سابق لنشوء الاهتمام بتحقيق الدولة القومية، فإني لم أكن واعياً أيضاً إلى أن الرواية التوراتية ربما كانت أيضاً نوعاً من ابتكار ماض يعكس مفاهيم المحررين التوراتيين المتأخرين.
حرب الأيام السـتة:
في منتصف سنوات دراستي اللاهوتية اندلعت حرب الأيام الستة في حزيران، يونيو 1967. لقد أثارت الحرب فضولي للمرة الأولى بالصراع العربي – الإسرائيلي، كما وضعني الاستيلاء الإسرائيلي على الضفة الغربية ومرتفعات الجولان وقطاع غزة وجهاً لوجه من خلال شاشات التلفزة أمام حقائق السياسة الدولية. ومازالت أذكر كيف كنت أهرع إلى قاعة العشاء في معهد اللاهوت كل مساء لأراقب على الشاشة كيف كانت إسرائيل البريئة الصغيرة تدافع عن نفسها في وجه العرب الضواري. لم تكن التقارير التي تصلنا تحمل أي تعاطف مع الموقف العربي. وكل مصادر معلوماتي كانت تستعير صورة داود الشاب التقي الذي يصارع جوليات الخسيس. والحق أقول بأن الانتصار الصاعق والشامل لإسرائيل الصغيرة قد أشاع في نفسي موجة من السعادة، ولم يكن عندي من الأسباب ما يدعو لعدم تصديق الكذب المعسول لوزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان عندما ادعى في كلمته أمام مجلس الأمن، وبالطريقة الواثقة والمهذبة التي تميز الخطاب الأوروبي بالغاً ما بلغ من كذبه، بأن إسرائيل كانت ضحية بريئة للعدوان المصري(12).
خلال أواخر الصيف أثارت فضولي لوحة إعلانات في Golders Green بلندن تحمل مقتطفات من أقوال الأنبياء العبرانيين مع تعليقات تقول بأن من يؤمن بالنبوءات التوراتية لن تفاجئه الانتصارات الإسرائيلية. حتى ذلك الحين لم أكن قد جوبهت بإقامة صلات بين ما يجري من أحداث في الوقت الراهن والنبوءات التوراتية. فلقد تعلمنا من الدراسات الكتابية أن النبوءات تمتُّ إلى أحداث عصور الأنبياء وليس من مهمتها كشف حجب عصرنا الراهن، وأن الأنبياء هم ناطقون بالوحي الإلهي لاعرافون يتنبأون بأحداث المستقبل. ولكني تنبهت حينها إلى أن هنالك من يفكر بطريقة مختلفة.
عقب ذلك، وخلال سنوات الثمانينات والتسعينات، عرفت أن حرب عام 1967 قد دشنت عهداً جديداً في المشروع الصهيوني للاستيلاء على فلسطين، والذي اتكأ على مزاعم لاهوتية وتفسيرات توراتية من أجل تسريع الاستيلاء على الأرض وتشكيل المستوطنات اليهودية. بعد عامين آخرين من الدراسة اللاهوتية، وسيامتي كاهناً، وثلاث سنوات أخرى في الدراسات العليا الكتابية، قمت بزيارتي الأولى لإسرائيل – فلسطين في عيد الفصح من عام 1972، ضمن فريق من خريجي الدراسات العليا في المعهد المسكوني بروما.
رؤية وتصديـق:
انحصر هدف تلك الزيارة بالتعرف على أوابد الحضارات القديمة في المنطقة. ولكنها قدمت لي في الوقت نفسه تحدياً لمواقفي الفكرية المسبقة تجاه إسرائيل. لقد أزعجتني منذ البداية الممارسات القمعية الواضحة ضد العرب، الذين تعلمت تسميتهم بالفلسطينين فيما بعد، وشاهدت نوعاً من القمع المؤسساتي. لا أستطيع في ذلك الوقت تذكر ما إذا كان مصطلح " التمييز العنصري " من بين المفردات المألوفة عندي، ولكن خبرتي بدأت تتعمق منذ ذلك الحين. وعندما اندلعت في تشرين الأول / أوكتوبر 1973 حرب " يوم الغفران " لم يكن حماسي لإسرائيل بالدرجة التي كان عليها في عام 1967. وخلال بقية عقد السبعينات لم يكن لدي اهتمام خاص بمشاكل المنطقة. ولقد شاهدت على شاشة التلفاز وقائع الزيارة التي قام بها الرئيس المصري أنور السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، والتي نجم عنها فيما بعد سلسلة من الأحداث أدت إلى توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في عام 1979. في عقد الثمانينات تغيّرت الأمور بالنسبة لي.
في عام 1981 قمت مع فريق من جامعتي بزيارة جامعة بير زيت في الضفة الغربية المحتلة. وبسبب إغلاق الحرم الجامعي هناك من قبل الجيش قبل وصولنا مباشرة، فقد تم تفادي الموضوع بإجراء عملي مبتكر، حيث وضعت الجامعة تحت تصرفنا باصاً تجولنا فيه مع طلابنا وعدد مماثل من طلبة بير زيت، فكان أشبه بجامعة مصغرة ترتحل على عجلات. لقد صدمتني بشدة رؤية الحقيقة من الداخل للمرة الأولى، ومشاهدة الطريقة التي تتم من خلالها مصادرة الأراضي لصالح إقامة المستوطنات في الضفة الغربية، وبدأت أتساءل بخصوص وجهة النظر السائدة التي تقول بأن الأسباب الأمنية كانت وراء الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، على الرغم من كل الشواهد الواضحة على بطلان ذلك الإدعاء، لم أستطع تكذيبه تماماً.
خلال منحتي البحثية في معهد الآثار الكتابي بأورشليم التي استمرت عاماً واحداً ( فيما بين 1983 و 1984)، كان بحثي منصباً على رسائل القديس بولس. ولكن الحياة اليومية في أورشليم قد شحذت حساسيتي العملية، وبدأت أشك في أن الاحتلال الإسرائيلي هو لأسباب أمنية، وأميل إلى الاعتقاد بأن هدفه هو تحقيق إسرائيل الكبرى، التي عرفتُ فيما بعد بأنها غاية الاتجاه السائد في الحركة الصهيونية. وأكثر من ذلك، فإن الاتجاه المتشدد في حزب الليكود كان يطالب أيضاً بمنطقة شرقي الأردن. كان أزيز الطائرات يعكر هدوء فناء المعهد عدة مرات في اليوم عندما كانت تمر فوقنا في طريقها إلى لبنان أو سورية. وبدا في حكم المؤكد حينها أن إسرائيل سوف تعمد إلى مهاجمة سورية، حتى وإن لم يكن لذلك غاية سوى رص صفوف المجتمع الإسرائيلي الذي بدت لي فيه علا