مرة أخرى حول السواح والحجاب...
فؤاد حميرة
2019-04-20
أثار المنشور الذي كتبه الباحث فراس السواح في حسابه على "فيسبوك" الكثير من الضجيج واللغط بين أكثرية هاجمته وبحدة وشراسة وأقلية تنوعت بين الرمادي والمدافع عن السواح كونه باحثا ومثقفا ومن حقه أن يقول رأيه في قضية حجاب المرأة ومن حقه أيضا اختيار أصدقائه بل إن من حقه كذلك اعتبار الحجاب غطاء للعقل.
لكن الموضوع يفتح أيضا شهية الحديث عن طبيعة المثقف ووظيفته وحدود الأدوار التي يلعبها، وهنا يصبح الكلام صعبا، إذ إن جميع الدراسات الأكاديمية لم تنجح في خلق مقاربة عن مفهوم المثقف حتى أن الدكتور محمد عناني يقول في مقدمة ترجمته لكتب إدوارد (المثقف والسلطة) أن كلمة (representation) تسبب للمترجم (عنتاً) بسبب تنوع توظيفها واستخداماتها، فيما يقدم سعيد وعبر الكاتب نفسه تعريفين شهيرين أحدهما للمناضل والصحفي الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي يرى أن (جميع الناس مفكرين)، ولكن (وظيفة المثقف أو الباحث لا يقوم بها جميع الناس).
أما التعريف الثاني فقد جاء على لسان جوليان بندا في كتابه (خيانة المثقف)، حيث يصف المثقفين بأنهم (طبقة العلماء والمتعلمين البالغي الندرة نظرا لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحق والعدل).
أما إدوارد نفسه فيقدم تعريفا خاصا به مفاده أن المثقف هو الذي يطرح الأسئلة المحرجة، والذي يجب عليه (مواجهة كل أنواع التنميط والجمود)، فإذا أخذنا بمفهوم سعيد هذا للمثقف كان الباحث فراس السواح يمارس حقه كمثقف في (السباحة ضد التيار) وفقا لسعيد، فما الذي حدث؟ هل هي معاناة المثقف في مجتمعاتنا التي تفض عليه نوعا من الديكتاتورية الاجتماعية هذا الاستبداد الأكثري الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى سكوت المثقف وصمته؟ في هذه الحالة سيكون السواح ليس مثقفا فقط، وإنما يشكل بطلا فكريا محاربا للجمود ومقاتلا للتعوّد الاجتماعي الذي من شأنه أن يجمد العمليات العقلية، خاصة حين نتعمق في مفهوم سعيد للمثقف فيقول (لا شيء يهدِّد واقع المثقَّف إلا الطابع اللاعقلاني الذي يخرج عن دوره الحقِّ في النقد على أسس عقلانية، أخلاقية وحتى سياسية، وأن لا يصبح المثقَّف مجرَّد "جوقة تردِّد صدى النظرة السياسية السائدة".
فالمثقّفون هم الذين يعارضون المعايير والأعراف السائدة وينزعون نحو الطعن بما هو سائد.
في هذه الحالة يبدو الهجوم على السواح نوعا من القمع الاجتماعي ومحاولة لتهميش دور المثقف والمفكر لصالح المقدس والعام عند الناس وطبعا ليس كل ما هو سائد عند الناس صحيح، والدليل أن كثيرا من العلماء دفعوا أرواحهم ثمنا لعلومهم التي خالفت السائد الديني في العصور الوسطى، خاصة أولئك الذين قالوا بكروية الأرض وبأنها ليست مركز الكون وأنها هي التي تدور حول الشمس وليس العكس، خالف أولئك العلماء السائد بل والمقدس فتم قتلهم بأوامر دينية مقدسة، لتكتشف البشرية بعد قرون أن الكنيسة المقدسة ارتكبت جرائم بحق التطور الإنساني حين أصدرت أحكامها بإعدام العلماء، وفي مقاربة ردود الفعل على منشور السواح تبدو الحكاية أقرب إلى مصائر العلماء السابقين ...ولكن.
هل ما قاله السواح كان حقيقة علمية؟ أنا أناقش الموضوع هنا بعيدا عن قدسية الحجاب لدى البعض وبعيدا عن مفهومه الديني، أتساءل من منطلق المحاولة لفهم ردود الأفعال العصبية على ما قاله السواح، فكثير من تلك الردود لم تكن لأسباب دينية ولا حتى كتابها كانوا متدينين أصلا بل كان الرد البعض من منظور علمي يأخذ بعين الاعتبار استحالة أن تكون قطعة قماش غطاء للعقل، لم يقل السواح مفاهيم علمية ولم ينطق بحقائق لا تقبل الدحض لنشببه بعلماء عصر الباباوية، وإنما قال مزاجا هو يعارض السائد فعلا وهو في أحد جوانبه يطابق مفهوم إدوارد سعيد للمثقف (مخالفة السائد)، ولكن هذه المخالفة يجب أن تكون قائمة مرتكزة أساسا على حقائق علمية، على نقاش عقلي منطقي لا مجرد رأي مزاجي ناتج عن حالة، فهم مغلوط لموضوع لم يعد دينيا فقط، فللحجاب أسباب أخرى غير دينية ربما اجتماعية وفي جزء منها اقتصادية، لقد وقفنا مع السواح في أفكاره الواردة في كتبه (مغامرة العقل الأولى –لغز عشتار –دين الإنسان) وغيرها من الكتب لأنه كان يتحدث بمنهج علمي.
خطأ الباحث "فراس السواح" ليس في اقترابه من المقدس الديني كما يتخيل البعض وإنما في إصداره حكما غير علمي لا يليق بباحث بمكانة السواح، وهو الذي استشهد في مقدمة أحد كتبه التي لا أذكرها الآن فعلا بالباحث التاريخي "إيريك فروم"، فينقل عنه قوله "كلما تعمقت في علم التاريخ ازداد احترامي للمرأة"، وأعتقد أن السواح أهان الكثير من النساء بمنشوره ذاك.