جدل العلمانية والديمقراطية
وائل السواح
خاص ألف
2019-04-26
انشغل مثقفون ومفكرون في العالم العربي خصوصا بقضية شديدة التعقيد، وحاول كل منهم جذب اللحاف صوبه، مما كشف الطرف الآخر للبرد. هذه القضية هي العلاقة الشائكة بين العلمانية والديمقراطية. ويعتقد طيف واسع من المعارضين (الإسلاميين والقوميين والماركسيين) أن الديمقراطية هي الإطاحة بالسلطة القائمة في بلد ما وإقامة حكم الغالبية العددية. في أحسن الأحوال هذا فهم قاصر للديمقراطية. فالأخيرة ليست فقط صندوق الاقتراع، على رغم أنها لا تقوم من دون ذلك. الديمقراطية، بالأحرى، هي ثقافة متكاملة تقوم على مبدأ صيانة الحريات الفردية الأساسية. وليست التشويهات التي تعرض لها هذا المفهوم على يد حركات التحرر الوطني وأنظمتها التقدمية والوطنية والقومية، وذلك بنسبتها إلى الشعبية أو الثورية أو الإسلامية، إلا إفراغاً كاملاً للمفهوم من محتواه.
الديمقراطية إذاً ثقافة تقوم على الحريات الفردية التي لا يمكن المساس بها ما لم تؤذ المجتمع ككل، أو أفراداً آخرين. وذلك لا يمكن أن يتم من دون دستور متكامل، يقوم على أساس أرقى ما وصلت إليه القيم الحضارية والديمقراطية العالمية، وليس على أساس ما قبل مدني يميز هذا المجتمع أو ذاك. والدستور هو الوسيلة الرئيسة للحد من مقدرة الحكومات على المس بالحقوق المدنية. وبذلك تنأى هذه الحقوق عن خطر التهديد من قبل حكومات تمثل هذا الطيف أو ذاك، أكثر مما تمثل المجتمع ككل.
وبذلك تأخذ الديمقراطية الحديثة تعريفاً أوسع وأدق من تعريفاتها السابقة: فهي حكم الأغلبية وصون حقوق الأقلية. أما الفهم البسيط للديمقراطية باعتبارها حكم الأغلبية العددية فحسب فسوف تكون له نتائج كارثية كالتي نشهدها اليوم في العراق، إذ يعيش الآشوريون والسريان والكلدان والتركمان، بشكل خاص، قلقاً كبيراً على مستقبلهم الثقافي، بل والوجودي أيضاً، بسبب طغيان الأغلبية العددية، الذي نتج عن الديمقراطية الميكانيكية.
إدخال الانتخابات الحرة، إذاً، إلى البلدان التي ليس لديها رصيد كبير من الثقافة الديمقراطية، والتي عانت كثيراً من الحكم الشمولي والدكتاتوري، لن يكون كافياً لتحقيق نقلة من الدكتاتورية إلى الديمقراطية؛ فما هو مطلوب أيضاً، وبالتوازي مع الانتخابات، نقلة أوسع على صعيد الثقافة السياسية وتشكيل مؤسسات الدولة الديمقراطية. وثمة أمثلة كثيرة من التاريخ الحديث والمعاصر تثبت أن الانتخابات الحرة لم تكن دوماً ديمقراطية، الأيام الأولى للثورة الفرنسية على سبيل المثال، شهدت أكثر الانتخابات حرية، ومع ذلك فإن حمامات الدم والقتل والدسيسة وحكم الوشايات الأمنية لا يمكن وصفها بالديمقراطية! وثمة أمثلة أخرى من التاريخ، ومن العصر الحالي، ولعل أبرز مثال لدينا هو إيران التي تتباهى بانتخاباتها الحرة، غير أن قلة قليلة يمكنها أن تجادل في أن إيران ليست بلداً شمولياً من الطراز الرفيع.
والحال ان الديمقراطية نتاج من نتاجات الحداثة، ولا يمكن بحال من الأحوال فصلهما إلا بعملية جراحية، غالباً ما تكون فاشلة. وهي بصفتها كذلك لا بد من أن تكون، كأي منتج حداثي آخر، قائمة، وفق تعبير البروفيسور عزيز العظمة، على أربعة أسس لا انفكاك بينها، هي العقلانية والعلمانية والعلم والانعتاق الاجتماعي. وتتأسس جميعها على قاعدة الحرية الفردية، وعلى قانون أسبقية الحق على الخير. فالحق واحد والخير متعدد، وهناك عدد لا يحصى من الطرائق المختلفة للوصول إليه.
إن الصراع في داخل هذه التعددية، كما يرى ليوتارد، هو فضيلة من فضائل الديمقراطية، ولا يمكن التضحية بها على مذبح الديمقراطية نفسها، وإنما بمأسسة هذا الصراع يتم ضمان عدم تحول النظام الديمقراطي إلى نظام أوتوقراطي. إن فرض عقيدة بعينها ترى أن ثمة طريقة واحدة لتحقيق الخير هو طغيان واضح، حتى لو جاء عن طريق صناديق الاقتراع. ولا شك في أن «ديمقراطية» تنتجها أغلبية قومية أو دينية أو عشائرية أو طائفية، لا يمكنها أن تكون في أحسن الأحوال إلا «ديمقراطية إجرائية» وفق تعبير عادل ضاهر. وهي ديمقراطية ستؤدي في بلداننا، في بعض الحالات، إذا لم ننتبه إلى خطر الإسلام السياسي، إلى فرض حجاب المرأة (إيران) وفصل الصبية عن البنات في المدارس والجامعات، ومنع تدريس دارون في المدارس. ونحن نعرف منذ الآن مدرسة واحدة على الأقل في دمشق ألغت درس التكاثر البشري من مقرر العلوم، وفصل الفائدة المركبة من مقرر الرياضيات.
وأسوأ من ذلك، إن احتكار الخير من قبل عقيدة واحدة يعني حرمان أفراد من المجتمع من ممارسة حق من حقوقهم المركزية، وهو ليس فقط الاعتقاد بما يشاء وفي أي دين يشاء، ولكن أيضاً حقه في تغيير دينه أو في اختياره أن يكون لادينياً أو لاأدرياً أو أي شيء آخر. فأين تقف ديمقراطية الأغلبية العددية من كل ذلك؟ وكيف يمكن أن نوفق بين ذلك وبين حكم الردة عند الجماعات الإسلامية مثلاً؟
يرى البروفيسور عادل ضاهر أن ثمة خمسة شروط لازبة للديمقراطية هي: أولاً: أن تكون الإرادة الجمعية الواحدة مصدراً للسلطة والتشريع؛ وثانياً: الحياد، الذي يعني أن حق تقرير القيم التي ينبغي أن ينظم حولها متحدهم الاجتماعي هو حق لكل عضو من أعضاء هذا المتحد، وليس لفئة منهم أو حتى لأكثريتهم؛ وثالثاً: إعطاء كل عضو من أعضاء المتحد حقاً متساوياً ومماثلاً للجميع في ممارسة الحرية على أوسع نطاق؛ ورابعاً: لا يجوز تجريد أي عضو من أعضاء الدولة من حقوق المواطنة على نحو تعسفي، أي مثلاً، على أساس ديني أو عرقي؛ وخامساً: وجود إطار تعاوني تتوافر ضمنه الشروط القمينة بحصول تفاعل اجتماعي حواري بين كل ممثلي المصالح المشروعة والمنظورات القيمية المتنوعة، على أساس مبدأ الاحترام المتبادل.
يصعب على أي عقلاني أن يرى في نظام لا علماني (الإسلام السياسي في بلادنا) أي إمكانية لتحقيق أي من الشروط الخمسة الفائت ذكرها. فكيف يمكن تأمين شرط الإرادة الجمعية الواحدة إذا كان التشريع عند الإسلاميين منوطاً بالخالق لا بالمخلوق؟ أولن يؤدي ذلك إلى هيمنة حفنة من وكلاء الله على الأرض (ذلك أن الله لا يمكن أن يحكم بشكل مباشر) على مهمة التشريع واحتكار السلطة؟ ونحن هنا لا نتحدث عن الإسلاميين المتطرفين الذين يرفضون كل شكل للحوار أو المساومة مع الأطراف الأخرى، ولكن حتى الإسلام السياسي المعتدل يرفض التسامح مع الخصوم السياسيين، إلا إذا كان الخلاف على الوسائل وليس على الغايات، كما يوضح راشد الغنوشي من تونس مثلاً.
لا يمكن للدولة الإسلامية حتى ولو قامت على أساس صناديق الاقتراع أن تكون محايدة (الشرط الثاني). ولئن ضمن الإسلاميون حق غير المسلمين في الوجود والعبادة، فإنهم، كمؤسسة وكدولة، لا يستطيعون ضمان المساواة في فرص العمل السياسي لجميع الأفراد والفئات، وتوفير الشروط لكل صوت لأن يسمع.
كيف يمكن إذاً حل الإشكال بين الحقوق الديمقراطية الأساسية في مجتمع ديمقراطي سليم، وإمكانية «طغيان الأغلبية،» وفق تعبير توكفيل؟ ليس ثمة بديل عن صناديق الاقتراع بالنسبة لاختيار الحكومة والجسد التشريعي في كل بلد. وهذا لا بد من أن يقوم على أساس أغلبية وأقلية. ولا بأس من أن نعيد هنا ما قلناه في مكان آخر، من أن الأغلبية في المفهوم الديمقراطي لا بد أن تكون أغلبية متحركة، غير ثابتة. وبالتالي فهي لا يمكن أن تكون أغلبية دينية أو عرقية أو طائفية، لأن هذه الأغلبيات ثابتة في زمان ومكان معينين، وإنما أغلبية سياسية يمكن أن تخسر موقعها في الانتخابات لتتحول إلى أقلية وتفسح في المجال أمام أغلبية جديدة كانت حتى الأمس أقلية. ولا بأس أيضا من التذكير بأن من واجب الأغلبية العددية حماية حقوق الأقلية العددية السياسية والثقافية والحضارية، حتى ولو كانت الأقلية أفراداً منعزلين. الحل، إذن، يكون بالتمييز بين المبادئ المكونة للممارسة الديمقراطية، والمبادئ التي توجه اختياراتنا للأساسيات الدستورية. الأولى وسيلة وصول الأغلبية السياسية إلى الحكم، وهو أمر لا مناص منه، لأنه لا يمكن عملياً تحقيق الإجماع حول القضايا السياسية. أما الأخيرة فهي الضامن لأن يتمتع كل فرد أو مجموعة مهما كبرت أو صغرت بالحقوق نفسها في الفكر والاعتقاد والنشاط، وتساوي الفرص بالنسبة لاحتلال أي موقع سياسي أو مؤسساتي، مهما علا الموقع ومهما كان انتماء الفرد. ولا يمكن أن يتم التوصل إلى هذا الخيار إلا عبر الإجماع المتشابك، وفق تعبير جون رولز. ويتجسد هذا الإجماع في الدستور الذي لا بد من أن يلعب دور الموفق بين الحق والخير، على أساس الاحترام المتبادل ومبدأ حيادية الدولة، ولا بد من أن يحظى بإجماع المتعاقدين اجتماعياً للعيش في دولة ما. والدستور يصاغ بالتوافق والإجماع وليس بالأغلبية. وتعديل مواده لا بد أن يخضع لشروط معقدة، ويستلزم ذلك تحقيق ما يسمى بالأغلبية العليا التي لا بد من أن تصل إلى الإجماع، في حال مس التعديل الحقوق الأساسية للأفراد المتعاقدين.
ولا بد من الإضافة هنا أن الديمقراطية مفهوم اجتماعي - تاريخي. وكأي كائن اجتماعي آخر، هو مفهوم متطور. ولا جدوى هنا من أن نتذكر مثلاً أن الديمقراطية تعبير إغريقي استخدم لوصف نظام الحكم في أثينا، بضع مئات من السنوات قبل المسيح. فتلك الديمقراطية ليس لها من مضمونها إلا الاسم. فهي كانت ديمقراطية للذكور الأحرار الأثينيين، أما النساء والعبيد وغير الأثينيين فلم يكن لهم أي دور يذكر. ومن النافل أيضاً أن نربط الديمقراطية بنظام الشورى الإسلامي، لأن الأخير لم يكن ملزماً للحاكم من جهة، ولم يكن أسلوباً للوصول إلى الحكم بالدرجة الأولى.
منذ ستينات القرن الفائت، بدأت علميات إصلاحية كبيرة تجرى على مفهوم حكم الأغلبية. ففي عام 1963 في الولايات المتحدة مثلاً، أقرت المحكمة الدستورية العليا بأن تلاوة الصلوات المسيحية، التي كانت طقساً يومياً في معظم المدارس العامة هو أمر غير دستوري. ومنذ ذلك الحين، ألغت المدارس كافة هذا الطقس، وأزيلت من فوق المباني الحكومية كافة كل الرموز المسيحية (صليب وغيره). إن الولايات المتحدة بلد مسيحي إذا أخذنا في الاعتبار الغالبية السكانية. وبالتالي، فإن من حق غالبية السكان، من وجهة نظر حكم الأغلبية، فرض رموزها وصلواتها. ولكن لأن ثمة في البد أقليات أخرى غير مسيحية، فإن الدستور حكم بلا دستورية ذلك.
ومن المنطقي أن المفهوم قد مر بمراحل كبيرة، وبتطورات وتطويرات مهمة، الأمر الذي يدفعنا إلى الوصول إلى نتيجة في غاية الأهمية، وهي أن أي مجتمع يختار الانحياز إلى الديمقراطية لن يكون عليه أن يبدأ من نقطة الصفر التي بدأت بها المجتمعات الغربية، ومن المضحك الآن أن نطالب هذه المجتمعات بتقديم التضحيات الجسام بالدم والأنفس للوصول إلى الديمقراطية، كما فعلت الشعوب الغربية. فمن ناحية، تكفي الدماء التي قدمتها شعوبنا حتى الآن على مذبح الأنظمة الاستبدادية بتلاوينها وأشكالها وتياراتها الإسلامية والقومية والتقدمية كافة، ومن ناحية ثانية، وفي ظل تحول الديمقراطية إلى ظاهرة عالمية، وفي ظل الكوكبية التي نعيشها منذ نهايات القرن الماضي، فإن الطلب إلى الشعوب أن تبدأ من حيث بدأت الشعوب الأوروبية قبل أربعة قرون، لن يكون إلا كمثل أن تطلب من المجتمعات المتخلفة الآن أن تخترع كومبيوتراً بحجم الغرفة كالذي كان يستخدم في الغرب قبل ثلاثين أو أربعين عاماً وتعمل على تطويره، بينما يمكن استيراد أحدث أنظمة الكومبيوتر الحديثة بكلفة أقل بكثير. إن الديمقراطية منتج غربي، على حد تعبير جودت سعيد، ولا بديل عن استيراد هذا المفهوم من صانعيه كما آل إليه بعد كل التحسينات والتطويرات التي خضع إليها. علينا إذاً أن نحدد اختيارنا. إن نظام الحزب الواحد في أي مكان في العالم، هو نظام سيئ. والتغيير الديمقراطي مهمة ملحة، للمجتمعات كافة. ولكن فهم البديل هو بنفس الدرجة من الأهمية. وإنه تبسيط ساذج للأمور أن نحول الفعل المعارض من فعل برنامجي وسياسي وثقافي، إلى مجرد نكاية بين أحزاب المعارضة والأجهزة الأمنية. ولئن اتفقنا بشكل مطلق مع تحليل البعض من أنه يستحيل أن تنفصل الدعوة العلمانية عن المطالب الخاصة بالمساواة السياسية ونزع حزبية الدولة والمطالب الديمقراطية، فإننا نضيف أنه من المستحيل أيضاً تصور نظام ديمقراطي متكامل بالانفصال عن العلمانية، التي تستلزم على الصعيد الإبيستيمولوجي اعتبار المعرفة المتعلقة بالشؤون الزمنية مستقلة عن المعرفة المتعلقة بالشؤون الدينية، وهو ما يؤدي إلى اعتبار أن الإنسان - وليس الله - هو مركز الكون الأرضي، وإلى نهائية الفصل إذاً، بين الدين والدولة، على عكس ما يرى بعض المفكرين السوريين من أن العلمنة قد تتقدم من دون رايات علمانية. فذلك حرف للفعل عن ساحته الأصلية.
بيد أن مشكلة العلمانية أن لها في أصدقائها خصوما أقسى وأسوأ من أعدائها. وأسوأ هؤلاء الأصدقاء هم الاعتذاريون والشعبويون. فلا بأس من أن يقف رجل دين فيقول إن العلمانية هي نتاج غربي، يهدف إلى تدمير الإسلام، وهو الهدف الذي ينام عليه الغرب ويصحو، آملا تحقيقه. ولا ضرر من أن يستسهل الاستشهاد بالمقدس في مواجهة الدنيوي ولا من أن يحمل كل اللوم على اليهود، حيث أن "الحركة اليهودية أرادت نشر الإلحاد في الأرض فتسترت بالعلمانية،" ولا مشاحة في أن يضع العلمانيين بين "هؤلاء اليهود الذين تستروا بالعمانية والبحث العلمي." ولكن البأس كل البأس في أن يأتي من يسمي نفسه وصيا على العلمانية فيجردها من مضمونها ويملؤها بدلا من ذلك مفهوما طائفيا حينا وشعبويا حينا آخر.
يرى الشعبيون أن العلمانية "لم تنبت هنا [عربيا] من الصراع الاجتماعي الداخلي ولم تنشأ إذن نتيجة لتفكك وتحلل القيم التقليدية الموروثة وزوال فعاليتها في الممارسة اليومية والجماعية، ولكنها نشأت عن طريق التبني من قبل نخبة محدودة العدد، وغالبا معزولة عن الشعب". ويستنتجون بالتالي أن العلمانية تحولت إلى "رديف الديكتاتورية"، ليصلوا بالتالي إلى أن ثمة تعارض بين مصالح العلمانية و"مصالح التحرر والانعتاق العام للمجتمع". وهم يدللون على ذلك بأن أحدا من دعاة العلمانية "لم ينخرط في أي معركة من معارك الحرية، لا الفكرية ولا السياسية... وبعض من جذبته الحركة قليلا قصر جهده على الدعوة إلى ليبرالية فجة تستنجد بالقوى الأجنبية وتدعو إلى تعليق الآمال جميعا عليها".
بينما يرى الاعتذاريون أن مفهوم العلمانية قد تعرض لتهمتين باطلتين: أولاهما أن العلمانية تتعارض مع الإسلام، وثانيهما أن العلمانية نتاج غربي. وهم في دفاعهم يقرون أن النقطتين السابقتين هما فعلا تهمتان أو سبتان، ينبغي لهم أن يتصدوا لكشف بطلانهما. وهم في دفاعهم يركزون على أن العلمانية لا تتعارض مع الإسلام وأنها ليست نتاجا غربيا.
كلا الفئتين الشعبوية والاعتذارية تجعل العلمانيين في موقف اتهام مستمر. فالشعبويون يخيرونك بين حالتين: فإما أن تكون مع الجماهير، حتى ولو كانت هذه الجماهير طائفية ومنغلقة، أو أن تكون مع الدكتاتورية. و الاعتذاريون يفرقون أمام سلطة الأئمة والدعاة المتنامية فيجعلونك تسارع إلى التبرؤ من العداء بين العلمانية والإسلام، وتبحث عن جذور محلية للعلمانية، كيلا تتهم بالاستيراد من الغرب.
والحال كما سنرى لا حقا بين دفتي هذا الكتاب أن النقاش ينبغي أن يكون في مكان آخر. والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هو حول ما إذا كانت العلمانية هي أفضل الحلول لتعايش مجموعات دينية وعرقية ومجتمعية مختلفة على أرض واحدة متمتعين بالحقوق ذاتها والواجبات ذاتها أم لا، بغض الطرف عما إذا كانت تتوافق أم تتعارض مع ديانة بعينها، ذلك أن فرض عقيدة بعينها ترى أن ثمة طريقة واحدة لتحقيق الخير هو طغيان واضح وحرمان لأعضاء في المتحد الاجتماعي لا يؤمنون بهذه العقيدة، ولكنهم مستعدون للعمل مع الأعضاء الآخرين في الإنتاج والعيش وبناء الدولة الواحدة. والسؤال: هل سنقول لهؤلاء الشركاء: "نحن آسفون فنحن مضطرون أن نسلبكم بعض حقوقكم السياسية لأن العلمانية تتعارض مع ديننا، ولأن التزامنا بديننا هو قبل التزامنا ببناء الدولة الواحدة التي تكون على قدم المساواة للجميع؟"