الإرهاب الكنسي 2
2006-05-10
الحوار سمة حضارية في المجتمعات الديمقراطية
وفي عصر صارت المسكونة كلها قرية صغيرة بعد المتغيرات المذهلة وثورة التكنولوجيا الإعلامية سريعة الإيقاع التي تتابع الأحداث المتلاحقة بدرجة تفوق كل تصور أو خيال، وتفرض على الجميع تخطي الرؤى السطحية للأمور وصولاً إلى الأعماق والجذور وتحتم البحث عن الحلول المقنعة بغير تزييف أو نفاق، ومن هنا صارت مواجهة الحقائق لازمة لا تتأتى بغير توسيع لدائرة النقاش وتبادل المنشورة بلا تهوين إذ لم يعد في الدنيا كلها ما يمكن أن نسميه أسراراً خاصة أو غرفاً مغلقة أو أسواراً تحجب ما وراءها من خفايا مما يؤكد ما سبق أن أعلنته الكتب المقدسة من أنه ليس خفياً إلا ويعرف، ولا مكتوم إلا ويستعلن وما يقال في الظلمة ينادى به في النور وما يهمس به في الآذان وعلى المضاجع ينادى به فوق السطوح، ومن فوق المنابر وعلى موجات الأثير بغير مواربة أو مدارة وتتناقله كل وسائل الإعلام بعد لحظات من وقوع الأحداث بل ومن مواقع صنع القرار، وتسجله الصحائف لتبقى للتاريخ على مر الدهور.
ولقد انقضى الزمان الذي كان فيه حديث رجل الدين محصوراً في الغيبيات لمجرد إطلاق الخيال عن نعيم الجنة أو التخويف من عذاب النار، وآن الأوان أن يمزج بين حقائق الروح والواقع المادي المعاش، فلا يكفي لرجل الدين أن يحدث الناس عن الزهد في الماديات بينما يستفز مشاعرهم بما يرونه فيه من تخمة في جيوبه أو ازدياد في بذخه في المأكولات والمشروبات والملبوسات أو مآدب الغذاء أو ولائم الإفطار والعشاء أو الإغداق في الإكراميات أو إنفاق الألوف والمئات على الأقرباء والأصدقاء والمنافقين والمتسلقين والمنتفعين والوسطاء أو تنامي ثرواته في البنوك والشركات بينما يعاني الفقراء من حوله من شظف العيش في زمن رديء عز فيه تكريم الإنسان فالشعور بالإحباط يصيبهم والحقد الدفين عليه يملأ قلوبهم فالظلم وحده لا يقيم الثورات لكن الشعور بالظلم هو الذييقيمها، وإذ لم يعد محتملاً السكوت على مثل هذه المظاهر الاستفزازية فقد ضاقت الصدور بما تراه العيون وتسمعه الآذان، وما يعتقل في الصدور من كبت وضغوط أفقدت العظات الكررة مصداقيتها وتهاوت العديد من العقيم وصار حتمياً الوقوف مع النفس للتقييم والتقويم قبل إطلاق الشعارات أو ترديد العظات.
إن رجل الدين وقد وطد حياته طواعية أن ينزع من قلبه كل رغبة في اقتناء الخيرات في الدنيا وأن يحرم نفسه اختياراً من شهواتها اكتفاء بالآخرة الصالحة التي يدعو الناس للسعي للوصول إليها عليه أن يكون قدوة في البذل والعطاء مما لديه من نعم وخيرات في إقامة البنايات للإسهام في حل مشكلة الإسكان.
فرجل الدين هو أكثر الناس إحساساً باحتياجات الجماهير بحكم معايشته لها واحتكاكاته المستمرة بها، فقط أن يكون قدوة وتجسيداً لما ينادي به دينه من قيم ومبادئ.
وإذ لم يعد سراً أن لدى الكثيرين من كبار رجال الدين من خيرات الله مما يمكن أن يقدمونه فيصيروا نماذج صالحة من صور البذل والعطاء.
أقولها صراحة وبغير مواربة: لدى مؤسساتنا الدينية الكثير مما يمكن أن يسهم في حل مشكلاتنا المطروحة وبذلك تكون عظاتنا للبناء والإنشاء لا مجرد موضوعات إنشاء.
بدلاً من تحطيم المرايا، لماذا لا نواجه الحقائق بشجاعة؟!
يتعجبون من طرح الأمور الكنسية للمناقشة على صفحات الصحف ويستنكرون مواجهة الحقائق ويستبعدون جدوى الحوار لعدم اتفاقه والمبادئ المسيحية ويطالبون بالحفاظ على سرية خصوصيات الكنيسة داخل الإطار الأسري المنغلق!!
وما يطالب به هؤلاء هو من المستحيلات في هذا العصر الذي صار فيه مواجهة الحقائق ضرورة حتمية لا تتأتى بغير توسيع لدائرة الحوار وتبادل الرأي والمشورة من جميع الأطراف بغير تضخيم أو تهويل وبغير تبسيط أو تهوين فالتاريخ يبطئ حقيقة لكنه أبداً لا يخطئ والله يمهل ولا يهمل والذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً!
فحين تتناول صحيفة أو مجلة قومية أو حزبية، مؤيدة أو معارضة أي شأن كنائسي خاص فهي لا تقحم نفسها في إقطاعية خاصة أو جزيرة منعزلة أو تتخطى أسلاكاً شائكة أو مكهربة محيطة بمنطقة محظورة مليئة بالألغام.
ونخطئ يقيناً حين نردد أن الكنيسة مؤسسة ثيوقراطية لها أسرارها التي ينبغي ألا تذاع وأنه ليس من الحكمة أن يناقشها غير بنيها، فالحقيقة أن ما لدى الذين هم خارجها من خباياها تفوق بكثير ما يسمح للذين هم داخلها بمعرفته بمقدار بعد أن سيطرت عليهم أوهام أدت إلى غياب وعيهم أو رانت على عقولهم سحب كثيفة أو ضباب من جهل أو غباء وأدخلتهم في كهوف ومغارات لم يعد لها في هذا العصر مكان، وعلى الحكماء والعقلاء أن ينهضوا لاحتواء الأمور قبل أن يفلت الزمام وقبل أن يضيع ما بقي من هيبة واحترام هي يقيناً في سرعة متناهية إلى زوال لعل التاريخ يسجل لهم نقطاً بيضاء في صحائف الإصلاح ويعتبرهم رواداً وحملة للمشاعل مع السائرين في دروب التنوير البناء.
كتب الأستاذ المفكر يوسف جوهر مطالباً ألا تهدأ مطاردة الظلم لحظة فإن ما أصاب البعض شعور مرير بأنهم ليسوا أمام القانون مع غيرهم سواء هو شعور لا يجوز أن نستخف به ولا أن نقابل صرخات المظلومين بصمت رهيب وأن علينا ألا نتعامل مع المظلومين بمنطق السادة والعبيد وألا نصبر على الظلم أو نستسيغه ونتيح لزبانيته أن يدمروا الإيمان بالعدالة وأنه يجب أن يكون الحوار مفتوحاً و ساخناً في أية مشكلة حتى يصل الحق لأصحابه وأن ننتبه ونتمرن لكل أشكال العدوان على حقوق الذي أصبح للأسف ظاهرة لا تثير الدهشة وتقابل بالاستسلام فكم من منصب نسي شاغله أنه يمثل الحق ويلقي في روع نفسه بعدما أصابه من الصلف أن موقعه يخصه شخصياً ومن أملاكه الخاصة ويضيق بالحوار المعلن وما يطرح من وجهات نظر تضيء لإظهار الحقيقة وتخف إلى نجدة تصرفات قد تتهم بالباطل وهي بريئة، كما تتيح الفرصة للذين يخطؤون في توجهاتهم أن يتداركوا أخطاءهم وعليهم ألا يجدوا غضاضة في العدول عن سقطاتهم ففي هذا المعنى الجليل أن العدل يثق في نفسه ولا يأنف أن يصحح مساره ويستأنف قراره أمام نفسه ويمسك ميزانه بيد إن لم تكن حانية لكنها ثابتة لا تميل يميناً أو يساراً ولا تدلل ذاتها استخفافاً بعقول البشر أو تخديراً لضمائرهم أو جرياً وراء شعارات غيبية وغبية في آن واحد.
فإذا كانت الكنيسة شريحة من نسيج الوطن وهي مؤسسة لها عقائدها الدينية التي لا يجوز المساس بها حقيقة ثابتة لا يناقش صحتها أحد كثوابت إيمانية مستقرة فهي يقيناً ليست هي أشخاص هم إلى زوال مهما طالت أيامهم وأخطاؤهم محسوبة على أنفسهم وسقطاتهم مضافة إلى أرصدتهم أمام الله والناس ولا تتحمل الكنيسة أخطاءهم مهما شغلوا من مناصب فيها أو تولوا من وظائف ومن ثم لا يعتبر نقدهم أو المطالبة بتصحيح مسار تصرفاتهم مساساً بهم وبإيمانيات كنائسهم ودياناتهم مادام قد سبق تنبيههم إلى أخطائهم وأعطوا لأنفسهم حق تجريح غيرهم وكشف عوراتهم واستقطاب الرأي العام بوسائلهم وإمكاناتهم ومواقفهم ضدهم بعد أن وهموا أنهم أعداؤهم في رغبة محمومة في حجب الحقائق وسلبهم أبسط حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم بطرق هي أبعد ما تكون عن دياناتهم، ومجمل القول أن الساكت عن الحق شيطان أخرس وأن طرح أمور كنسية في الصحافة ليس بدعة وليدة اليوم بل هو سمة حضارية بعد أن صارت الكلمة هي أصدق وسيلة للتعبير عن الرأي وعلى من بيدهم الحل والعقد أن يحسنوا النوايا وألا يحطموا المرايا وأن يسعوا للإصلاح قبل فوات الأوان.
آفة النفاق في حياة رجل الدين:
ما أسهل الكلام وما أصعب العمل، فإن من السهل أن تنصح غيرك وأن تعلمه، ولكن ما أصعب أن تعمل طبقاً لما تعلم.
إن المعلم والواعظ الذي يكتشف تلاميذه تناقضاً بين أقواله وأعماله تذهب هيبة تعليمه ويصير تعليمه لغواً، فالتلميذ يراقب أعمال معلمه أكثر مما يراقب أقواله ويرصد تصرفاته العملية، لا سيما العفوية والتلقائية، ويتعلم أكثر مما يراقب تصريحاته النظرية وتعبيراته الشفهية، ومواقفه الرسمية المتكلفة، وكلما وجد في سيرة معلمه وسلوكياته قدوة صالحة ومثالاً نموذجياً ازداد إيمانه بقيمة تعاليمه وتعمقت ثقته فيما ينادي به من مبادئ أما إذا تبين أن ما ينادي به معلمه شيئاً وما يطبقه في حياته شيئاً آخر مناقضاً انهارت فوراً ثقته فيما سبق أن آمن به، وصارت مواعظ معلمه طبلاً أجوف لا يساوي الحبر الذي كتب به.
ومن هنا وجب أن يتصف رجل الدين صغيراً كان أم كبيراً، شهيراًَ أم مغموراً بعدم تناقض مواقفه مع تعاليمه فيكون صادقاً مع نفسه، قبل أن يكون كاذباً على غيره.
ولعل أخطر ما يصاب به رجل الدين حين يلتف حوله جماعة من المنافقين أو المتسلقين أو المنتفعين فيكيلون له المديح فيتدرج في سقوطه: من سروره بهذا المديح وابتهاجه به في داخله فيحاول أن يستزيده بطريقة أو بأخرى، ثم يشتهي المديح فيحاول أن يظهر الصالح من أعماله لكي ينظره غيره فيزيد من مديحه له ثم ينحدر درجة أخرى فلا يكتفي بوصول المديح إليه وإنما يتطوع لمدح نفسه ويتحدث عن فضائل أعماله فيزهو بها ويتباهى في خيلاء بإنجازاته ويستجلب المطبلين والمزمرين من رجال الإعلام والكتاب المأجورين لمديحه، بل ويتمادى في تمركزه حول ذاته فيمدح نفسه بما ليس فيه فتتعمق في داخله شهوة المديح فيكره من لا يمدحه ويعتبره عدواً له إن قصر في حقه أو السجود تحت أقدامه أو تقبيل يديه والتسبيح بحمده، إذ يعتبر مقصراً في حقه إن لم يعترف بما يعتقد أنه من فضائله، بل ويصل إلى درجة عدم احتماله نقداً ولا توجيهاً ولا يقبل توبيخاً أو انتهاراً حتى ولو كان ممن هو أكبر منه سناً أو درجة أدبية أو أكثر منه عمقاً روحياً أو شفافية رؤيوية بل يعتبر كل نصح أو توجيه أو توبيخ له نوعاً من الاضطهاد يقابله بالتذمر أو الاحتجاج أو بالثورة والغضب، ولعل أسوأ ما يصل إليه رجل الدين من هذا النوع أن يحتكر لنفسه حق نقده لغيره فلا يطيق أن يسمع مديحاً لآخر فيكره المادح والممدوح على حد سواء ويعتبر من يمدح شخصاً غيره عدواً له منحرفاً عن صداقته، بل ويقلل من شأن الممدوح وربما يزداد في نرجسيته «حب لذاته وتمركزه حول نفسه» فيتهمه ظلماً بما ليس فيه فيسيء إلى سمعته ليبني وحده موضوع إعجاب الجماهير لا يشاركه أحد في هذا الإعجاب.
وهذا النوع من رجال الدين الذي يلقون خطباً جوفاء ويسطرون كتباً ويدبجون مقالات تفقد قيمها لا سيما بعد أن يتملك عليه داء حب الرياء وتكون كرامته صنماً أمام عينيه يطلب إلى الناس أن يسجدوا له ويتعبدوا لشخصه، ولا يصفو قلبه حيال من يظن أنه منافسه أو نال كرامة أو مديحاً كان هو أولى به منه فتتملكه حالة عدم الاستقرار، فلا يثبت على رأي بل يختار لنفسه الموقف الذي يجلب له مديحاً في نظر من يلقاه حتى ولو كان مناقضاً لموقف أو قول سابق له، ومن ثم يقع في خطيئة الكذب والتهويل، فيحاول أن يغطي أخطاءه ونقائصه كإنسان بأكاذيب من كل لون أو ينسب لنفسه فضائل ليست له ويبالغ فيهما يرفعه أمام الملتفين حوله والمحتكين به، وقد يدير الدسائس لمنافسيه في الكرامة أو يشتهي سقوطهم أو موتهم، أو يسلك في دروب التشهير بهم وتلويث سمعتهم ابتغاء مجد عالمي باطل لنفسه هو إلى زوال مهما طال الزمان أو قصر.
إن شيطان حب العظمة يتيح الفرصة لهيئة المنتفعين الملتفين حول رجل الدين أو يكيلوا له مدائحهم وأكاذيبهم ليستمروا ابتزازهم له وسيطرتهم عليه، ولكن إذا ما أصابه ضعف أو وهن كانوا أول المنقلبين عليه المذيعين لنقائصه المتملصين من سيئاته الناكرين لأفضاله المستنكرين لأخطائه المبادرين لهجوه ونقده وتجريحه، لأنه بالكيل الذي كال به لغيره يكيلون له ومعهم غيرهم بنفس المكيال بل ويزيدون.
وعلى كل رجل دين ألا يقع في مثل هذا الداء اللعين.
حين ينسى رجل الدين واجباته!!
إن دور العبادة هي سفارات للسماء على الأرض، ورجل الدين هو داعية للبشر يستمد مهام خدمته من الكتب المقدسة فيكون حارساً لأحكامها، أميناً في تفسير نواميسها صادقاً في شرح معانيها، رسالته تتعدى النصوص الجامدة إلى معالجة النفوس من أمراضها، ورعاية أرواح الناس لتحويلهم أصحاب نافعين لأنفسهم ولغيرهم، ليست وظيفته أبداً تعقب الأشرار لإبادتهم وملاشاتهم من الوجود، بل الترفق بهم وعلاجهم حتى يصيروا عملاء لله تعالى في نشر الخير والصلاح في مجتمعاتهم، لكن ماذا لو نسي أو تناسى رجل الدين حدود وظيفته فيمنع إنساناً من تأدية فرائض دينه أو واجبات عقيدته من الصلاة لله أو التمتع ببركات الأماكن المقدسة تحت أي تبرير أو تعليل؟ وماذا لو وعظك بزهد في الحياة بينما يترك نفسه وحاشيته غارقة في بذخ وإسراف أو يحيط شخصه بمنافقين يبررون له كل مسلك مشين؟! وماذا لو اعتبرك تحت وصايته فصادر فكرك أو حجر على رأيك أو طارد خطواتك، وإذا ما خالفته أطلق عليك الشائعات أو استعدى عليك السلطات بما له من صلات وسلطان؟!
وماذا لو أذاع أسرارك أو خبايا أسرتك، أو نشر عنك سوءاً بحق أو بغير حق، فإذا ما اعترضت أمر بحرمانك من حق كفله لك دينك أو دستور بلادك؟ وماذا لو أراد استكتابك إقراراً بخطأ ينسبه إليك أو ضغط بوسيلة أو بأخرى للحصول على اعتراف منك بخطيئة مزعومة يلصقها بك بحجة التثبت من توبتك وضماناً لعدم عودتك إلى ما توهمه من شرك وفي حقيقته لإذلالك طوال أيام عمرك فإذا ما رفضت أو امتنعت حرك من لقمة عيشك وقوت أولادك أو استدعى عليك أسرتك؟ إن الداعية أو الواعظ أو رجل الدين الذي يعتبر بعظاته أو كتاباته أو بكثرة أمواله أو اتساع شهرته فيتسرب إلى فكره أنه أفضل من غيره، وينسى قرب رحيله، عليه أن يدرك أن قدرة الله عليك أعظم من قدرته عليك أو على غيرك، وعلى من يحيطون به أن يعظوه قبل أن يعظهم أو أن يعزلوه من خدمه، ويوم أن يصم أذنه عن نصيحتهم أو يخمد بداخله نداء بقية من ضميره فقد باتت وشيكة نهايته وحينئذ سوف ينفض من حوله كل المنافقين لكبريائه ويفرح لموته كل من أصابهم رزاز أخطائه فإن أجلت السماء على الأرض نهايته، فقد بات واجباً تسليمه إلى أقرب مصحة نفسية بعد أن تنكر لرسالته.
لا يجوز اشتغال رجال الدين بالسياسة!!
إن اشتغال رجال الدين بالسياسة لا يفترق كثيراً عن إبداء رأيه في أمور سياسية فكلاهما اشتغال بالسياسة وهو أمر مرفوض في المسيحية إذ أعلنها السيد المسيح صراحة «إن مملكته ليست من هذا العالم» فالمسيحية دين فقط يسمو بالروح فوق كل رغبات العالم الأرضية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبقدر ما تسمو الروح عن المادة هكذا تسمو الديانة المسيحية عما في الدنيا كلها من شهوات وينبغي أن يسمو رجل الدين المسيحي عن السلوك في دروب السياسة وحين قال السيد المسيح «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فإنه أراد أن يقول صراحة أنه يجب أن يعمل رجل السياسة فيما لقيصر وأن يعمل رجل الدين فيما لله وطوال حقبات التاريخ الكنسي الطويل لم يكن أحد من الباباوات البطاركة يعمل في السياسة أو يبدي رأياً في أمر سياسي إلا فيما ندر بل تفرغوا جميعاً لرسالتهم الروحية الرعوية السامية فحفظ لهم التاريخ سمعتهم ومكانتهم على مر العصور، كما أنهم لم يمنعوا أحد من تابعيهم أو المؤمنين بعقيدة كنيستهم من إبداء رأيه في أمر يخص بلده فراحوا جميعاً يندمجون مع مواطنيهم في هموم بلادهم فبرز منهم الأعلام ممن عملوا في السياسة بنجاح ودوت سمعة المشاهير منهم في كل الآفاق والمحافل الوطنية والدولية العالمية وحين كان يخطئ واحد منهم كل خطأه يحسب عليه لأعلى كنيسته وعلى أبناء ديانته أما حين ينزل رجل الدين بصفته ممثلاً لكنيسته، وهو ما حدث من سنوات حين اختلفت رؤية الرئيس الديني مع الرئيس السياسي وما قاسته الكنيسة من أحداث جسام من تحديد لمحل الإقامة والتحفظ والاعتقال في أحداث غير مسبوقة في تاريخ الكنيسة على الإطلاق حتى اضطربت أمورها ولولا عناية الله تداركتها في حينه لما رست سفينتها على بر النجاة!!
إن التذكرة الانتخابية التي يحملها رجل الدين إنما يحملها بصفته الشخصية كمواطن عادي له بل وعليه ككل مصري أن يبدي رأيه داخل إطار العملية الانتخابية أو الاستفتاء.
كما أن دعوته لحضور جلسات المجالس النيابية وغيرها من المحافل الرسمية والهيئات الشعبية فشأنه شأن كل من يدعون للحضور كرموز للهيئات التي يرأسونها بحكم وظائفهم ولمجرد الاستماع أما أن ينغمس الرئيس الديني في كل أمر سياسي بمناسبة أو غير مناسبة فقد أفقد آراءه قيمتها فإن المنصب الديني الكبير يسمو فوق كل مناصب الدنيا وعليه أن يترفع عن كل عمل له صبغة سياسية وأن يمتنع عن إبداء رأيه في كل أمر سياسي وأن يسمح لتابعيه بالمشاركة في كل عمل وطني وسياسي بغير توجيه خاص منه أو إلزام بأمر أو وصاية عليه.
وعجيب أن يزعم أحد ضرورة وجود قيمة روحية أو فضائل إيمانية في الشؤون السياسية فلكل من السياسة والدين دائرته، وعلى الحكيم من رجال الدين لا سيما الكبار منهم ألا يلعب في الدائرتين معاً، وألا يسبح في محيط يستعصي عليه أن يجيد أدق قواعد السباحة فيه وإلا غق في لجة أمواجه وغرقت معه كنيسته وجماعته التي يجب أن ينأى بها عن الدخول في مثل هذه المجازات فلعبة السياسة لها رجالها وكنيسة الله التي هي سفارة السماء على الأرض لها حدودها التي ينبغي عليها ألا تتعدها وعلى رجل الدين الذي يرغب في ممارسة لعبة السياسة أن يعلنها صراحة بأنها لعبته وليست لعبة كنيسته فلا يوقعها في حرج ولا يسبب لها أزمة ولا عثرة أو يوردها بتوجهاته ويورد شعبه موارد التهلكة.
إن المسيحية دين يسمو فوق كل السياسات واشتغال رجل الدين بالدين والسياسة معاً هو خليط خطير للأوراق ومزح غير مقبول للحق مع النفاق.
08-أيار-2021
10-أيار-2006 | |
23-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |