هل العالم فعلًا على شفا هاوية حرب بين إيران والولايات المتحدة، كما تهوّل بعض وسائل الإعلام في العالم العربي خصوصًا؟ وهل يسعى أيٌّ من البلدين المذكورين فعلًا إلى شن مثل هذه الحرب؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فلماذا إذن توجيه إحدى كبرى حاملات الطائرات الأميركية إلى مياه الخليج، والتصريحات الحربية التي يطلقها ترامب أو بومبيو أو بولتون، صباح مساء، لو لم تكن ثمة نيّة مبيتة لشن حرب ولو محدودة ضد إيران؟ أم هو مجرد إجراء استباقي لأية عمليات قد تقوم بها هذه الأخيرة ردًّا على الحصار الاقتصادي الخانق الذي تعمل الولايات المتحدة على تشديده ودعمه ضدها؟ ثم، ما الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه على وجه الدقة من وراء هذا الحصار؟ هل هي الاستجابة بالفعل إلى أمنيات بعض الدول العربية في وضع حدٍّ للتمدد الإيراني في دول المشرق العربي ودفعها إلى العودة إلى داخل حدودها؟ أم هو وضع حد نهائي لطموحها النووي والبالستي طمأنة لحلفائها، كما يقول مسؤولوها أو بالأحرى لحليفها الأول “إسرائيل” واستجابة لها هي التي دأبت على نقد الاتفاق النووي الذي وقعته الدول الست (الصين، روسيا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، الولايات المتحدة) مع إيران، ودعت على الدوام إلى إعادة النظر فيه، إلى أن أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة منه؟
لعل السؤال الضروري بعد كل الأسئلة السابقة: هل يمكن لإيران أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام انهيار عملتها الوطنية وفقدانها موارد النفط الأهم في اقتصادها، بل أمام ما هو أولوي في نظر قادتها: إمكان انهيار نظام ولاية الفقيه؟ وما الذي يسعها أن تفعله في مواجهة القوة الأكبر في العالم؟
ليست هذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها وصول العلاقات بين البلدين إلى شفا الهاوية. لكن كلًا منهما كان يدير المواجهة على نحو يبقيها بعيدًا عن المواجهة العسكرية حتى في أدنى حدودها. ولعل تصريح ترامب الذي بدا وكأنه “خارج الموضوع” وسط التهديدات المتلاحقة، والذي عبر فيه عن تطلعه إلى لقاء القادة الإيرانيين للتفاوض مجدّدًا حول الاتفاق النووي، يشير إلى الهدف الأساس الذي يسعى إليه الرئيس الأميركي: إعادة النظر في الاتفاق النووي الذي رفضه في صيغته التي وقع عليها سلفه.
لكن إيران التي استمرت تقاوم المعارضة الدولية لبرنامجها النووي وتخصيب اليورانيوم منذ عام 2002، وواجهت العقوبات المتزايدة التي فرضتها قرارات مجلس الأمن المتوالية بين 2006 و2011، والتي كانت تنتظر أن يؤدي الاتفاق النووي الموقع عام 2015 إلى وضع حدٍّ لها، لن تقبل الخضوع تحت وطأة الحصار الاقتصادي مهما بلغت شدته، وسوف تعمل على التخلص منه بمختلف الوسائل التي باتت تملكها التي لا تؤلف قوتها العسكرية وحدها عمادها.
ذلك أنها، وهي تستعيد حلم الشاه الإمبراطوري في الهيمنة على المنطقة العربية وتعتمده من جديد مشروعًا توسعيًا باسم ثورة الشعب الإيراني التي استحالت “ثورة إسلامية” تحت حكم ولاية الفقيه، بفضل هيمنة رجال الخميني وأنصاره عليها، استطاعت إيران الخميني ثم خامئني أن ترسخ بالتدريج وجودًا استعماريًا في بلدان المشرق العربي خصوصًا، فريدًا، لا يشبهه أو يضاهيه أي وجود استعماري آخر عرفه تاريخ الاستعمار، قديمًا أو حديثًا. لم تستخدم في سبيل هذه الهيمنة جيوشًا مدججة بالأسلحة تنقلها إلى البلدان التي كانت تريد الوصول إليها والسيطرة على مقاديرها، ومن ثمَّ الإشراف على مختلف مراكز السلطة والحكم فيها. بل كانت وسائلها إلى ذلك متعددة، بعضها يعتمد على قوى وتنظيمات محلية تشرف على إنشائها وتنظيمها ومدها بالمال وبالسلاح، كما فعلت في لبنان منذ إنشائها “حزب الله” واعتماده وكيلًا لها، أو اعتمادًا على النظام الحاكم كما في سورية التي استثمرت فيها، ببطء طوال حكم الأسد الأب ثم بصورة مكثفة وسريعة ومباشرة خصوصًا اعتبارًا من عام انطلاق الثورة الشعبية ضد النظام الأسدي 2011، قواها كلها من أجل التغلغل عميقًا في نسيجها الاجتماعي والاقتصادي والعسكري، بواسطة الميليشيات التي جندتها لهذا الغرض جنبًا إلى جنب “حزب الله” الذي وضع كل قواه في خدمة هذا الهدف؛ أو في العراق بعد أن أتاحت لها الولايات المتحدة منذ عام 2003 فرصة التغلغل في نسيجه الاجتماعي، وصولًا إلى مراكز القرار السيادي فيه؛ أو في اليمن من خلال الحوثيين. فضلًا عن محاولاتها الفاشلة في البحرين وفي السعودية، ويفترض أنه ما تزال لها فيهما خلايا نائمة يمكنها استثمارها، كلما دعت حاجتها إلى ذلك.
تلك في الواقع هي القوة الإضافية التي سهرت إيران مستفيدة من مرحلة النكوص التي يعيشها العالم العربي طوال العقود الأربعة الماضية، على ترسيخها وتنميتها من أجل استثمارها ومن ثمَّ استخدامها، عند الحاجة، في تحقيق أهدافها السياسية والتوسعية، كما فعلت في كلٍّ من العراق وسورية واليمن. لا بدَّ هنا من الإشارة إلى أنها استطاعت تنمية وتنظيم هذه القوى تحت نظر ورقابة القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية. كما لو أن غياب مقاومة هذا التوسع كان عنصرًا من عناصر “الفوضى الخلاقة” التي تبنتها وزيرة الخارجية الأميركية في عهد جورج بوش الابن، كوندوليزا رايس، سياسة معتمدة في منطقة المشرق العربي، سياسة لا تزال كما يبدو قيد التطبيق بأساليب متباينة في عهد الرئيس الحالي.
ويبدو أن ترامب لا يسعى من وراء الحصار الاقتصادي إلى تحقيق مطامح حلفائه العرب في تقزيم إيران، بقدر ما يستهدف حماية “إسرائيل” عن طريق إرغام إيران على الاستجابة إلى مطلبين رئيسين: إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي وإدخال تعديلات جذرية عليه يحرم إيران من أي إمكانية مستقبلًا لتطوير أدنى قوة نووية عسكرية من ناحية، وإنهاء أي تواجد عسكري لها في سورية سواء عبر “حزب الله” أو الميليشيات الأجنبية التي استخدمتها لدعم “حزب الله” في مغامرته السورية. أي بما يستجيب حرفيًّا لمطالب “إسرائيل” الملحة. ولعل هذا ما يفسر الأخبار التي انتشرت حول دمج عناصر هذه الميليشيات في الجيش السوري النظامي وتجنيس أفرادها. بعبارة أخرى، لا تستهدف الولايات المتحدة تقزيم إيران بل تحجيمها سعيًا إلى الاستفادة من تواجدها، ومن توسعها في العالم العربي بعيدًا من “إسرائيل”.
فيما وراء ذلك، لا تبدو هناك أي مصلحة أخرى تدفع الولايات المتحدة إلى أي مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران. ومن الواضح في هذه الحالة أن يكون أقصى ما يمكن أن تلجأ إليه إيران، ردًّا على حصارها الاقتصادي، يتمثل في تحريك هذه القوى لتحقيق أهداف محدودة غايتها تحذير أوروبا بوجه خاص في مجال الطاقة، كما تجلى ذلك في الهجوم المحدود على السفن التجارية في منطقة الخليج مؤخرًا، والذي نفت إيران القيام به. هل سيؤدي ذلك إلى دفع الولايات المتحدة تحت ضغط غير مؤكد من حلفائها في أوروبا إلى تخفيف الحصار؟ وهل تأمل إيران أن تجد في الصين تعويضًا ولو جزئيًا، هذا في الوقت الذي تسعى فيه هذه الأخيرة إلى حل مشكلاتها الاقتصادية والتجارية مع الولايات المتحدة؟
أكبر الظن أن الوقت سيطول قبل أن تقبل إيران الجلوس إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى. وربما لن تقبل الجلوس قبل أن تتمكن، بطريقة أو بأخرى، من تأمين قواعدها التي تضمن استمرار نفوذها الذي لن تتخلى عنه ما دام العالم العربي يعيش هذا النكوص على الصعد كلها في ظل أنظمة الاستبداد القائمة اليوم.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...