“اللامرئي” في الفكر، الفن، الأدب والموسيقى
علاء رشيدي
2019-06-01
في العام الذي غادرَنا فيه، تُصدر منشورات المتوسط واحدًا من أهم كتب الفيلسوف الفرنسي كليمون روسي (1939 – 2018)، وهو (اللامرئي) 2018، كتاب يعدّ امتدادًا لمنهج كليمون روسي، في فلسفته ما بعد التراجيدية في رؤية العالم. هذا المنهج الذي ميز الفيلسوف تجلى في سلسلة كتب أولها كتاب (الواقع والنسخة عنه، 1976)، (الواقعي الخيالي الوهمي، 2000)، (الأوهام، 2005)، (مدرسة الواقع، 2008)، و (اللامرئي) الذي أصدره في العام 2012.
اللامرئي والحواس والإدراك:
في (اللامرئي) يحاول المؤلف التطرق إلى مفهوم حساس ومركب، لذلك يكثف كامل قدراته اللغوية والفكرية ليبيّن أهمية التفكير بمفهوم “اللامرئي” والكشف عن آثاره. فهو يدين أن تكون فكرة “اللامرئي” مجرد وهم، أو معنًى لما هو مسحوب عن الوجود إلى مكان لا يخترق. بل إن “اللامرئي” فاعل في حضارتنا، فهو يدخل في الحواس، مثلًا في مجال البصريات، ندعي دومًا أننا استطعنا قراءة ما وراء اللوحات أو وصلنا إلى تعابير الوجوه. فاللامرئي يؤثر في الحواس، كما هي الحال في التجارب الجمالية والآثار الوجدانية التي تولدها الأعمال الفنية. كذلك يبرز أثر “اللامرئي” في قناعاتنا، فالبشر يعتقدون ويؤمنون بما لا يرون، وهذا ينعكس على حياتهم وسلوكياتهم.
يستشهد كليمون روسي، بما كتبه مونتاني، عن علاقتنا مع المكان: (إننا لا نقيم أبدًا في مسكننا، ودائمًا نعيش في عالم آخر، ذلك هو الخلل الأكبر لتفكيرنا)، على إثره يبين روسي خاصية إدراكية لدى الإنسان تسمح له، بإدراك ما هو غير موجود ومستعص بالضرورة على كل إدراك، يكتب في هذا الخصوص: (أن نرى أو نعتقد رؤية ما لا يمكن رؤيته، وأن نتصور ما لا يمكن تصوره، وأن نتخيل ما يتعذر في الحقيقة تخيله، لأن الإنسان غالبًا ما يمتلك ملكة اعتقاد إدراك أشياء في غاية الالتباس، والتي يمكننا أن نقول إنها موجودة وغير موجودة في الآن ذاته).
هذه الملكة التي يشرحها روسي، أي رؤية ما لا يرى، وتصور ما لا يمكن تصوره، هي لربما تتعارض مع قواعد العقل والذهن السليم، لكن آلاف الوقائع اليومية تؤكد أننا نؤمن، نعتقد، ونستلب إلى ما هو “غير مرئي”.
البارانويا واللامرئي:
المثال الشهير في علم النفس هو البارانويا، في كتابه (الهذيانات الشبقية، 1921) يكتب الطبيب النفسي غايتان دو كليرومبو: (البارانويا أو الهذيان الشبقي أو المس الشبقي هو من أنواع الأمراض الناتجة عن اضطراب نفسي، من أعراضه اعتقاد المريض بأوهام غريبة، تؤدي إلى هلوسة واضحة، وشعور دائم بالاضطهاد، يجعله يعتقد بتعرضه لمعاملة حاقدة ومطاردة وتجسس، أو يعتقد على عكس ذلك بوجود شخص، يكنّ له الحب في سره، ولا يعترف له به)، وهذه إحدى تجليات اللامرئي التي تؤثر في الحياة النفسية، وبالتالي بالحالة الذهنية للإنسان.
اليوتوبيا واللامرئي:
في مثال آخر عن تأثير اللامرئي في حياتنا، يمكن الإشارة إلى فكرة اليوتوبيا، فعلى الرغم من أن العالم المثالي، اليوتيوبيا أو الطوباوية، هي مجموعة من الأفكار المتخيلة واللاواقعية والخالية من كل مصدر للحقيقة، إلا أنها فكرة فاعلة في الواقع، وناظمة لسلوك وتصرف الأشخاص، بخاصة إذا كان لهؤلاء الأشخاص إيمان صادق بصحتها، بحيث يمكن ترجمة أفكار اليوتوبيا إلى نظم سياسية مثالية وقوانين اجتماعية، يتقاسمها أفراد مجتمع ما.
اللامرئي اللغوي:
يقدم المؤلف نماذج من اللامرئي في اللغة؟ يظهر اللامرئي اللغوي جليًا، حين نبحث عمّا ينوي قصده شخص من وراء كلامه أو كتابته، أي بالبحث عن تلك النية التي تذوب وتنحل جزئيًا في ما تعرب عنه اللغة، فنذهب في التأويل الذي يصبح غير مرئي بالنسبة إلى المفردات المسموعة أو المقروءة.
كأأكث
اللامرئي البصري واللامرئي الموسيقي:
كذلك في مجال الرسم، طالما أعلن الرسامون من الفنانين أنهم لا يرسمون الأشياء، بل يرسمون ما هو كامن خلفها. أما في الموسيقى، التي تحتل جزءًا كبيرًا من التحليل والتنظير في هذا الكتاب، فإننا نجد أن المؤلفين والمنظرين الموسيقيين، طالما وضحوا أن الموسيقى الحقيقة هي فيما بين النوتات، وليست في العلامات الموسيقية نفسها. فما تحدثُنا عنه الموسيقى، وتنقله إلينا وجب العثور عليه في كلامها الخاص، وعدم البحث عنه خارجها. وكل ما يمكننا القيام به هو العودة إلى الموسيقى والاستماع إليها مجددًا. كتب إدوراد هانسليك (1825 – 1904): “إن الموسيقى لسان نفهمه ونتحدث به، لكن يستحيل علينا ترجمته”.
اللامرئي في الخلق الفني:
كما أن رؤية اللامرئي قد تشكل مادة وهم، فإنها، بالمقابل، يمكن أن تشكل مادة إبداع ذات طابع شعري. وحينئذ يكتسب الموضوع الموحى إليه قيمة أدبية بارزة. هنا يبرز اللامرئي كنجاح جمالي، فإن فن الإيحاء بشيء ما دون استحضار أي شيء محدد، هو ميزة الإبداع الشعري. هذا هو الأساس الذي يقوم عليه مذهب الشاعر ستيفان مالارميه (1842 – 1898) الأدبي، وتحديدًا رؤيته لمفهوم “الخلق الفني”، مفهوم “الخلق” لدى مالارميه لا يعني بالنسبة إليه خلقًا حقيقيًا، ولكن، إيحاءً وهميًا بالخلق، لأن الخلق الأدبي أو غيره هو في حد ذاته وهم، لا يختلف عن الوهم العادي، في اعتقاد رؤية ما لا يمكننا رؤيته.
ينتقل روسي في هذا الإطار للحديث عن أعمال الرسام الإسباني غويا، إذ يرى في أعمال غويا أن إندماج المأسوي بالكوميدي يترافق باندماج آخر: ذلك الذي يجمع بين الحقيقي والخيالي اللذين يتعايشان عند هذا الرسام بشكل يبدو شديد الحميمية، بحيث يتعذر علينا معرفة من أين يبدأ الأول، وإلى أين ينتهي الآخر.
كتاب (اللامرئي)، وهو من ترجمة المصطفى صباني، جولة برفقة فيلسوف من براعة كليمون روسي، يتابع مفهوم جذاب للتفكير مثل اللامرئي، في الفكر، وفي أنواع الفن المختلفة من اللغة الشعرية، إلى الأعمال التشكيلية، والأعمال الموسيقية.