خمارة فريدي...رابطة العمل الشيوعي...لينين،تروتسكي، وبليخانوف
2019-07-13
لم تكن حملة اعتقالات نيسان 1979 أكبر من الحملات اللواتي سبقنها. لعلّها كانت أصغر، ولكنها كانت اللحظة التي أطلقت صفّارة الإنذار الداخلية لدينا. لم يعد لدى الرابطة كوادر يمكنها أن تضحّي بها أكثر. وهيئتنا المركزية التي احتفلنا قبل شهور فقط بترميمها وإعادتها إلى الرقم الجميل 11، نقصت من جديد عضوين هما مصطفى خليفة الذي كان أحد مسؤولي الطباعة في حلب وحسام علوش. ولكن الجديد في الحملة كان نقل ملفّ رابطة العمل من يد إدارة لمخابرات العامة إلى شعبة المخابرات العسكرية التي كان على رأسها الرجل الذي كان مجرّد ذكر اسمه يثير رعب السوريين، علي دوبا. منذ منتصف السبعينات بدأ نجم علي دوبا بالسطوع. من ابن شيخ قروي من قرية قرفيص في جبال اللاذقية إلى واحد من الخمسة الأقوياء الذين أحاطوا بدكتاتور سوريا حافظ الأسد، كان علي دوبا قد قطع رحلة طويلة ومعقّدة. وحين تسلّم رئاسة المخابرات العسكرية عام 1974، علم الجميع أن نجما جديدا قد بدأ يعلو في سماء العنف السلطوي والفساد. بعد سنوات، سيستخدم حافظ الأسد علي دوبا مع زملائه علي حيدر وإبراهيم الصافي وشفيق فيّاض ضدّ طموحات شقيقه رفعت الأسد الانقلابية، قبل أن يدرك أن بسالته في مواجهة رفعت لم تكن ولاء لحافظ وحسب وإنما تمهيدا لبناء إمبراطورية مالية سيشرف عليها ابنه محمّد، الذي سيختفي في ظروف غامضة مطلع الثورة السورية.
كانت فلسفة حافظ الأسد الأمنية تقوم على مبدأ تعدد الأجهزة الأمنية وتفاوت صلاحيتها وتداخلها وزرع التنافس بين قادتها. جزء من هذا التنافس سيكون حول الملفّات التي تعمل الأجهزة عليها. سيكون هذا التنافس مفيدا أحيانا. حين سأعتقل بعد سنتين، سأدرك أن المخابرات العسكرية لا تعرف عني سوى اسمي ومكانتي الحزبية، لأن الأجهزة لا تشارك معلوماتها، ولأن ملفي الكامل كان لدى إدارة المخابرات العامة. استولى علي دوبا إذن على ملفّ رابطة العمل، وكان أول إنجازاته حملة نيسان.
عقدنا اجتماعا للهيئة المركزية بعد أيام من الحملة، وكان اجتماعا عاطفيا وغاضبا، أنحى بعضنا باللائمة على الانفلات الأمني، ونالني من هؤلاء الرفاق الكثير، بسبب عدم مراعاتي للقواعد الأمنية، بينما كان الرأي الآخر يقول إن سلوكنا الأخير بعد حملات 1977 و1978 هو الذي دفع بالأجهزة الأمنية إلى التغّول. كنت من أصحاب الرأي الأخير ومعي كامل عباس وعلي الكردي وأحمد رزق، بينما كان فاتح جاموس ومنيف ملحم والعميد (زياد مشهور) من أصحاب الرأي الأول.
لم يكن النقاش على أي حال وليد اللحظة، بل كان تتويجا لنقاش داخلي بدأ منذ راح الرفاق يسكرون بالشعبية التي بدأت الرابطة تكتسبها في أوساط الشباب والطلبة والنساء بشكل خاص. حين شنّ النظام حملته الأولى على التنظيم في آذار 1977، كانت تلك صفعة على وجهنا، وكنا أمام خيارين اثنين: إما أن نواجه الضربة بتصعيد نشاطنا وبياناتنا ومواقفنا السياسية أو ننحني للعاصفة ونحاول تخفيف النشاط. كان أحمد جمول وعلي الكردي (وأحيانا هيثم العودات) من مؤيدي ذلك الطرح، ولكن أغلبية الرفاق آثروا التصعيد والردّ على الضربة بضربة. ولم يبقَ ذلك في مجال العمل والتكتيك، بل انتقل إلى مجال النظرية، حيث تمّ نسف مقولتنا الأساسية في الخطّ الاستراتيجي للرابطة التي كانت تقول إن الثورة القادمة هي ذات طبيعة ديمقراطية، فقرّر الرفاق أن طبيعة الثورة تتحدّد بنمط الإنتاج القائم وليس باستكمال مهامها، ولأن النظام القائم في سوريا هو نظام بورجوازي بيروقراطي يعبّر عن رأسمالية الدولة، فإن الثورة الديمقراطية بمضمونها قد أنجزت، وما تبقى من مهامها ستنجزه الثورة الاشتراكية التي ستقع على كاهل الجبهة الشعبية المتّحدة بقيادة الحزب الشيوعي.
هذا النقاش الداخلي كان متابعة بدأه قبل أكثر من سبعين سنة ثلاثة ماركسيين كبار، بليخانوف ولينين وتروتسكي حول طبيعة الثورة الروسية ومن هي القوى الاجتماعية السياسية التي يتوجّب عليها قيادة التحرّك الديمقراطي. في 1905، كتب لينين رسالته الشهيرة "خطتان للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية"، يردّ فيها على بليخانوف ومارتوف اللذين كانا يعتبران أن الانتقال الديمقراطي مقدمة لا مندوحة عنها قبل الانقلاب الاشتراكي وأن هذا الانتقال يجب أن يقاد من قبل البورجوازية الروسية، بينما يقوم الاشتراكيون الديمقراطيين بنقدها ودفعها من اليسار. لينين كان يعتبر أن البورجوازية الروسية ضعيفة وعاجزة عن قيادة الثورة الديمقراطية نظراً لدخول الرأسمالية في المرحلة الإمبريالية. وبالتالي، رغم إقرار لينين بالطبيعة الديمقراطية للثورة الروسية، فقد قرّر أن "ديكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية" هي الأداة التي ستحقّق ثورة روسية على طراز ثورة 1789 البرجوازية الفرنسية بقيادة "حزب الطبقة العاملة الذي يقود تحالفاً عريضاً من الفلاحين وكل الفئات الراغبة في التغيير". ضدَّ الرجلين، كان شاب يكتب من زنزانته في أحد سجون روسيا أنه لا يمكن الفصل بين مهام الثورتين الديموقراطية والاشتراكية، وإن هاتين الثورتين متداخلتان ومتشابكتان في "ثورة دائمة". هذا الشاب كان اسمه تروتسكي الذي سيقتله ستالين بعد سنوات طويله في منفاه في المكسيك.
كان ماركس يحب أن يكرّر عبارة هيغل الشهيرة "الأحداث التاريخية والشخصيات (personages) الكبيرة تكرر نفسها مرتين"، ولكنه يضيف من عنده أن المرّة الثانية غالبا ما تكون نسخة مهزلة (farce) عن المرة الأولى. ويدلّل على ذلك بشخصية كوسيدير مقارنة بدانتون ولويس بلان مقارنة مع روبسبيير، ولويس بونابرت مقارنة بعمّه نابليون بونابرت. بعد نحو أربعين سنة ونيف، يمكنني أن أقول إن نقاشنا حول طبيعة الثورة في سوريا كان النسخة المهزلة لنقاشات بليخانوف ولينين وتروتسكي. كنت أقف في حذاء بليخانوف الضخم، بينما وضع فاتح جاموس نفسه في حذاء لينين، وتمترس منيف ملحم كالعادة بحذاء تروتسكي.
ولكن النقاش سرعان ما انتقل في شهور نقلة الشيوعيين الروس في اثتني عشرة سنة. أثناء طريقه عائدا إلى روسيا عبر ألمانيا بقطار ألماني مقفل، كتب لينين رسالته المستعجلة موضوعات نيسان، وفيها قرّر أن الثورة الديمقراطية البرجوازية قد انتهت، وأن روسيا باتت بصدد البدء في التحويل الفوري لهذه الثورة إلى الاشتراكية، مطالبا بتدمير جهاز الدولة البرجوازية القديم، وإقامه جمهورية سوفيتات نواب العمال، والعمال الزراعيين، والفلاحين في جميع أنحاء البلاد من الأسفل إلى الأعلى وإلغاء الجيش والشرطة والموظفين. لم أعتقد يوما أن لينين كان محقّا في طرحه ذاك، ولكن مرور اثنتي عشرة سنة ما بين طرحه الأول حول الانتقال الديمقراطي وطرحه الثاني الثورة الاشتراكية كان يمكن فهمه. ما لم يمكنني استيعابه مع ذلك كان كيف تغيّرت ظروف نمط الإنتاج في سوريا، لتغدو طبيعة الثورة ثورة اشتراكية.
ترافق هذا التحوّل مع تحوّل في النشاط التحريضي للرابطة، ولم نعد ننتظر تطوّر الظروف الموضوعية لنهوض الحركة الشعبية بل بات علينا استنهاضها من خلال زيادة توزيع بياناتنا ومنشوراتنا، وبخاصة "النداء الشعبي" التي كانت موجّهة بلغة بسيطة ومباشرة إلى العمال والطلبة.
هذه هي الظروف الصعبة والضاغطة، اجتمع من تبقّى من أعضاء الهيئة المركزية: أصلان عبد الكريم وفاتح جاموس ونھاد نحاس وكامل عبّاس وعلي الكردي ومنیف ملحم وزياد مشهور وأحمد رزق والعبد الفقير. وكان إذن اجتماعا عاصفا، تعالت فيه أصواتنا تحت تأثير الضربة الجديدة والنزيف المستمرّ. بعضنا استعاد فكرة حلّ الرابطة والعودة إلى العمل الدعوي في ظل الحلقات الماركسية غير المركزية، كما سبق لأحمد جمول أن فعل قبل أقل من سنة. بالمقابل، شدّ الطرف الآخر القوسَ في الاتجاه المعاكس فطالبوا بمزيد من النشاط السياسي والتحريضي. أصلان عبد الكريم الذي كان دائما ما يستطيع ضبط دفّة النقاش وإعادته إلى مكانه الصحيح فعل ذلك أيضا في الاجتماع وجعلنا نضبط أعصابنا ونصل إلى حلول مشتركة. جاءت ضرورة حماية المنظمة في مقدّمة الأولويات، فمن دون تنظيم ثوري "من أين ستأتي الثورة؟" سأل أحدنا. ومن أجل ذلك كان لا بدّ من تغيير النهج السابق القائم على أساس التضحية بالذات من أجل الغاية، وباتت النفس والغاية متداخلتين، يصعب فصل إحداهما عن صاحبتها.
ولتأكيد أولوية حماية التنظيم السوري، جاء اقتراح بقسم المركزية إلى مجموعتين مستقلتين: لجنة عمل تبقى في دمشق وتقود العمل التنظيمي وطباعة الجريدة والتعامل مع القوى السياسية والدوائر الاجتماعية الرافدة للتنظيم في الداخل؛ وهيئة تحرير للراية الحمراء ومجلة الشيوعي، تكون في الوقت نفسه قيادة ظلّ، تعود إلى سوريا في حال اعتقال القيادة في الداخل وتتابع النضال؛ وتتابع أيضا العلاقات الثورية مع المنظمات الثورية العربية في لبنان. وبينما بقي فاتح ونهاد والعميد ومنيف وعلي الكردي في دمشق، تمّ اختياري مع أصلان عبد الكريم وكامل عبّاس وأحمد رزق للسفر إلى بيروت.
كرهت فكرة السفر. من جانب لأن ذلك يكون نفيا وليس سفرا طوعيا، ومن جانب آخر لأنني سأبتعد عن دمشق، المدينة التي فتنتني منذ زرتها أول مرّة في إحدى إجازات المدرسة الصيفية، سأبتعد أيضا عن فادية وحنان والأصدقاء. وكرهت فكرة أنني لا أعرف متى أعود أو كيف أعود. بيد أن خياراتي كانت صفرا، فمن جانب، لم تكن خبرتي التنظيمية تؤهلني للبقاء والعمل في ظروف شديدة الوطأة على التنظيم، ومن جهة أخرى كنت واحدا من قلّة يمكنها فعلا بلورة سياسة الرابطة في مقال أو افتتاحية.
في يوم ربيعي حار من أيار 1979، ودّعت فاديا. قلت لها إنني سأبتعد عن دمشق. لم أقل لها إنني سأكون في بيروت، فذلك كان يفترض أن يكون سرّا على الجميع خارج المركزية. تركتها وسرت طويلا، وحيدا، في الشوارع التي أحبها، فانحدرت من باب توما إلى القيميرية فالعمارة، وخرجت إلى شارع الملك فيصل الذي كانت حوانيته قد أغلقت للتو، فبات موحشا كقلبي. انفلتُّ إلى شارع الثورة، وانعطفت يسارا إلى سوق ساروجة، وصعدتُ إلى بوابّة الصالحية، مارّا بكنافة أباظة وسينما الأمير وسينما الزهراء، ثم دخلت شارع العابد قبالة البرلمان، وانعطفت يمنة في حارة خمّارة فريدي. دخلت الخمّارة؛ كان أبو جوزيف يجلس في صدر الدكان الطويلة كحافلة، وعلى الجانبين اصطفت ثماني طاولات متوازية في صفّين. وهتف من قرب الباب صوت عميق أجش: "يا ابن السوّاح!" التفتُّ: كان الشاعر العتيق الجميل مصطفى البدوي جالسا ومعه نديم.
"أهلا أبو حسين،" قلت له.
"تعال اجلس. يوجد كرسي هنا."
كان مصطفى البدوي شاعرا مشاغبا، تجاوز وقتها الخامسة والستين بقليل، ولكن أخاديد وجهه كانت تحفر عميقا في الشعر وفي الزمان. جاع كثيرا وتشرّد كثيرا. جاءني أبو جوزيف بكأس العرق دون أن أطلبه، فرشفت منه خفيفا، وقلت أستفزّه له حدثني عن قصّتك مع عمر أبو ريشة. فقال "اللعنة عليك."
اتهم البدوي عمر أبو ريشة بسرقة بيت لأحمد شوقي، فقاطعه أبو ريشة عشرين سنة، ثم التقيا في بيروت أثناء تكريم الشاعر بشارة الخوري، وكان معهما الجواهري، فدعاهما أبو ريشة، ميسور الحال، إلى مطعم فخم، وذهب البدوي مع الشاعرين العملاقين، ولكنه لم يضع في فمه لقمة واحدة. "رغم أنني كنت جائعا،" كان يضيف. "
"ليش يا أبو حسين."
"لأنه كان في جيبي ليرة لبنانية واحدة."
أفرغت كأس العرق في جوفي وطلبت الحساب، ولكن البدوي أزم ذراعي بقوة، وقال: "اذهب، وائل. الحساب عندي." ونظر في عيني كمن يقول: "أنا أعرف وضعك وهذا أقل ما يمكنني فعله." كان النقاش مع أبو حسين مستحيلا. صافحته بقوّة وخرجت. وصباح اليوم التالي، ركبت سيارة صفراء من كراج لبنان وسط دمشق، وتوجّهت إلى بيروت، وقلبي مثقل بحزن مقيم
08-أيار-2021
17-نيسان-2021 | |
10-نيسان-2021 | |
13-آذار-2021 | |
27-شباط-2021 | |
30-كانون الثاني-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |